علم الفيزياء الساعي نحو الله تعالى!

علم الفيزياء الساعي نحو الله تعالى!

ياوز آجار /تركيا

[email protected]

انطلقت الحافلة من القرية نحو مدينة إسطنبول، فمرت بأشجار طوال أغصانها متشابكة كأنها سقف مرفوع يظللها من وجه، ويمنع حرارة الشمس من المسافرين من وجه آخر. وتوالت الدقائق والساعات، فتوارت المناظر المخضرة، واحتلّت مكانها الأراضي المقفرة القاحلة، والمباني الميتة العابسة، والبيوت المتشابكة، والنوافذ المتناظرة المتقابلة بحيث يستطيع الإنسان أن يرى ما بداخلها من أشياء وما يجري فيها، الأمر الذي يقضي على محرمية العائلة.

أسند عبد الله ظهره إلى الكرسي وأغمض عينيه، وحاول أن ينام، حتى يقطع تلك المسافة البعيدة دون ملل. إلا إنه على الرغم من مرور الساعات لم يستطع أن ينام، فأخرج من حقيبته كتابه، وقرأ بعض الفقرات، ثم أغلقه ووضعه في سلة الكرسي أمامه. ولم يمض وقت حتى استيقظت في نفسه ذكريات أيام طفولته وشبابه؛ فتذكّر يوم أن كان ابن سبع سنين وهو يبحث عن بيضة في المطبخ، لا ليطبخها ويأكلها، وإنما ليخرجها من مكانها المخبوء من قبل أمه، ويذهب بها إلى حانوت الحيّ ليبيعها إلى العمّ ياسر فيشتري مقابلها شوكولاته.

وكان يوماً من تلك الأيام، أخذ عبد الله عدة بيضات على عادته، وراح يمشي نحو الحانوت، ولما انتصف الطريق فإذا بصوت حلو ناعم طرق أبواب أذنيه، ونفذ منهما لينساب إلى أعماق قلبه كالماء الزلال، حيث بدأ المؤذن يرفع أذان الجمعة بصوته الحي الطبيعي في منتهى الخلوص والنقاء، إذ لم يكن هناك مكبّر صوت في تلك الأيام، فتوقّف فجأة. كان قد اعتاد على الاستعداد الروحي والبدني للصلاة قبل رفع الأذان، فيذهب إلى المسجد ليأخذ مكانه من الصفّ الأول. ولكن عبد الله نسي أن هذا اليوم يوم الجمعة، فلام نفسه. وشرع يفكّر ماذا سيفعل بتلك البيضات حتى يذهب لأداء صلاة الجمعة. ولم يجد بداً من إلقاءها على الأرض، فضربها على حجر هناك فانكسرت وراحت الشوكولاته!! ومن شدة استعجاله لصلاة الجمعة، لم يخطر على باله أن يخفيها تحت شجرة، ويأخذها بعد الصلاة. فراحت الشوكولاته، ولكن لم تفته صلاة الجمعة.

حنّ عبد الله إلى تلك الأيام وهو في الحافلة؛ حيث الآباء والأجداد كانوا يمسكون بأيدي أطفالهم وأحفادهم الصغار، فيذهبون بهم إلى المسجد حتى يتعوّدوا على الصلاة وهم حديثو السن. وكان جدّ الحارة العطوف الشيخ أحمد يرفع الأطفال على كتفيه، فيجوّلهم في ساحة المسجد المخضرة، ويعطي لهم شوكولاتات حيناً، ونقوداً حيناً آخر؛ وذلك لتبقى قلوبهم البريئة معلّقة بالمساجد. ولذلك كان أطفال الحارة يتطلّعون بشوق ولهفة إلى أوقات الصلاة بفضل تلك الهدايا الجاذبة. أما اليوم فويح لأولئك الآباء والأجداد الذين يغضبون على الأطفال، ويطردونهم من المساجد بحجة أنهم يشوّشون عليهم في الصلاة بإصدار ضجيج وضوضاء، فيزرعون بذلك في أرواحهم الصافية صفاء زمزم كرهاً للمساجد ونفوراً من الصلاة. ومن ثم يشتكون من الجيل الناشئ بعيداً عن الدين، إذ ﴿خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (مريم: 59).

لم يفق عبد الله من ذكرياته تلك إلا بنظرات رفيقه المحدقة في الحافلة الذي تعرّف عليه في بداية الرحلة - وهو طالب في مرحلة الماجستير بكلية الهندسة - حيث كادت عيناه تخرج من محجريهما حيرة ودهشة؛ إذ كان ينظر إلى كتاب عبد الله الموسوم بـ(علم الفيزياء الساعي نحو الله). فولّى عبد الله صدره نحو رفيقه واستفسر سبب تلك النظرات الغريبة قائلاً:

-       لماذا تنظر إلى الكتاب هكذا؟ ما الذي أثار حيرتك إلى هذا الحد؟

-       عنوان الكتاب هو الذي أثار حيرتي ودهشتي!

-       ولماذا؟

-       وما الدليل على ما قلت يا رفيقي!

عرف عبد الله من كلام رفيقه أنه نشأ نشأة علمانية أو تأثّر بما يسود في بعض الجامعات من أفكار ضالّة ومضلّة. فأشفق عليه، وتضرّع في نفسه إلى الله تعالى أن يهب لكلامه صدقاً وإخلاصاً وبلاغاً ليبلغ به إلى أغوار روحه، ويأخذ بمجامع قلبه، فيحرّك في نفسه مشاعر الإيمان الكامنة في فطرته حتى يهتدي إلى الفكر القويم والصراط المستقيم.

- بعدما تعمَّقت العلاقات الفكرية والإدولوجية لمثقفينا ومفكرينا مع الغرب، وبخاصة بعد الانقلاب الفرنسي، حملوا العلمانية النابتة في الأراضي الغربية إلى الأراضي الإسلامية، التي نشأت من الثنائية المتناقضة الكامنة في طبيعة الفلسفة الغربية النصرانية، والصراع السائد بين رجال الكنيسة؛ رجال الدين وبين رجال العلم والمثقّفين، ظناً منهم أن الإسلام مثل النصرانية. فلو دقّق هؤلاء النظر فيما يحتوي عليه الدين الإسلامي والنصرانية، لاطّلعوا على الفروق بل الأضداد الجلية بينهما؛ وذلك لأن الإسلام كما دلَّ المسلمين إلى الطريق الصحيح في كلِّ شيء، كذلك دلهَّم في قضية العلاقة بين الدين والعلم إلى الصراط المستقيم، وأشار بمآت من الآيات القرآنية إلى أسس العلم والمعرفة ومبادئهما، ولم يكتفِ بهذا القدر من الاهتمام به، بل عيَّن الحدود النهائية في التقنية والتكنولوجيا التي يمكن أن تصل إليها البشرية من خلال استخدامها الأسباب التي سخَّرها الله لها، وذلك بسرد قصص الأنبياء مع أممهم، ومعجزاتهم المادية والمعنوية في القرآن. إن الأنبياء عليهم السلام ليسوا رواد البشرية في الأمور المعنوية فقط، وإنما ريادتهم تشمل الرقيّ المادي أيضاً. ولذلك أعطى الله كلّ نبي معجزة مادية لتدل البشرية وتدفعها إلى البحث والكشف والتنقيب حتى يصلوا إلى نظائر هذه المعجزات باستخدام الوسائل المادية التي هي السنن الكونية المسخّرة للإنسان، بتقليد معجزات الأنبياء عليهم السلام التي أجرى الله على أيديهم كمعجزة إلهية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يوسف:

﴿اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ. قَالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ فلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. (93-95)

إن تلك الآيات تدلّ بشبه صراحة إلى ثلاثة أمور:

أولها: تدل الآيات على أن هناك علاقة بين الحزن وبين الإصابة بالمياه البيضاء؛ حيث إن الحزن يسبّب زيادة هرمون "الأدرينالين"، وهو يعتبر مضاداً لهرمون "الأنسولين"، وبالتالي فإن الحزن الشديد أوالفرح الشديد يؤدّي إلى زيادة مستمرة في هرمون الأدرينالين الذي يسبّب بدوره زيادة سكر الدم، وهو أحد مسبّبات العتامة، هذا بالإضافة إلى تزامن الحزن مع البكاء .

ثانيها: إمكانية معالجة هذا المرض؛ إذ ارتدّ يعقوب عليه السلام بصيراً لما ألقي قميص يوسف عليه السلام على وجهه. فذلك يدل على أن هناك مادة أو أداة ما تشفي هذا المر ض، فالقرآن يقصّ تلك القصة حتى يرشد البشرية ويدفعها إلى كشف النقاب عن هذا الدواء المخفي في السنن الكونية، بغضّ النظر عن كون هذا الدواء عرق يوسف عليه السلام، كما قال وأثبت ذلك بعضهم علمياً، أو مادة أخرى.

ثالثها: إن يعقوب عليه السلام قد وجد ريح ابنه يوسف عليه السلام وهو بعيد عنه بمسافات كبيرة جداً بحيث لا يمكن أن يحدث ذلك في العادة وبالوسائل المتوفّرة في تلك الفترة. لا شكّ أن ذلك نعمة إلهية ليعقوب عليه السلام، وهبها الله تعالى إياه كمعجزة من عنده، إلا إن فيه إشارة ودلالة إلى إمكانية نقل الريح. وذلك يعني أن الطريق مفتوح أمام البشرية لتجد أداة تنقل بها الريح من مكان إلى آخر. وليس هذا غريباً علينا؛ إذ هناك حيوانات كثيرة، حاسة الشمّ لديها قوية جداً بحيث تشتمّ الريح من مسافات بعيدة عن طريق استخدام الرياح.

هناك أعجب من هذا، وهو إمكانية نقل الأشياء صورة وعيناً من مكان إلى آخر، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك أيضاً، عند سرده قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ؛ إذ: ﴿قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ اليك طرفك. فلما رءاه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر... أي استقرّ قصر ملكة سبأ عند سليمان عليه السلام خلال ثوان معدودة.

وبما أن الدين عند الله هو الإسلام، فهو منسجم انسجاماً تاماً مع العلم الحقيقي، وليس العلم الحديث الذي تحوّل إلى فلسفات ونظريات، ووظفه العالم الغربي في سبيل استغلال الموارد الطبيعية والبشرية؛ إذ لما أطلّ أوائل القرن السادس عشر على العالم شرعت الدول الأوربية في نشاطات استعمارية واسعة؛ لأنها كانت ترى الاستعمار أفضل سبيل للحفاظ على وجودها وتطوّرها وسحق منافسيها، دون أن تلتفت إلى كون الاستعمار أخلاقياً وطريقاً مشروعاً أم لا. وقد قطعت شوطاً كبيراً في وقت قصير جداً في هذا السبيل، ثم صوّرت ذلك للعالم كنتيجة طبيعية لتقدّمها وتطوّرها في العلوم والتكنولوجيا. نعم، لا يمكن التغاضي عن هذا الدافع الذي أظهرته الدول الأوربية لتطوّرها، إلا إن الدافع الحقيقي هو الأطماع الاستعمارية، أما التطوّر في العلوم والتكنولوجيا فليس إلا غلاف غلّفت به على جريمتها الاستعمارية.

- صحيح يا داود! إن ما تفضلت به حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها: وهي أن الغرب ما أحرز التطوّر المذهل في العلوم والتكنولوجيا إلا بعد انسلاخه عن ثوب الدين، وغني عن البيان ما كان عليه من تخلف خلال القرون الوسطى! إلا إننا إذا قارنّا ذلك مع المسلمين فالأمر يختلف؛ إذ أقوى دليل على أن الدين (الإسلامي) يتناغم مع التطوّرات العلمية هو أن المسلمين متى ما أخلصوا الولاء لدينهم تطوروا وازدهروا من الناحية المادية والمعنوية طوال التاريخ؛ بيما الغرب متى ما عاشوا وفق التعاليم النصرانية تأخّروا وتقهقروا طوال التاريخ أيضاً. نعم إذا ما التزم النصارى بمبادئهم الدينية أصبحوا بلا عقل؛ وإذا ما تمسّكوا بالعقل صاروا بلا دين؛ فلم نشاهد أبداً في فترة من فتراتهم التاريخية أن التقى العقل مع الدين. وذلك لأن الرهبان والأحبار قد حرّفوا وبدّلوا وشوّهوا أصول الدين التي أتى بها عيسى عليه السلام، وتخفّت معالمها الحقيقية وانمحت مع مرور الزمان بحيث لو أعيد عيسى عليه السلام إلى الحياة من جديد لتنكّر لها، كما سينكر عليهم ما ابتدعوا فيها يوم القيامة.

إن النصرانية الحالية هي من وليد القريحة البشرية، وليست إلهية المصدر. ومهما تطوّر العقل البشري فلن يصل إلى الحقائق النهائية في الدين والكون. ولذلك أصبحت أصول الدين المحرّفة تتناقض مع التطوّرات العلمية. ليس هناك، في الحقيقة، أي تناقض بين الدين والعلم، وإنما التناقض يكمن بين العلم والهوى؛ بين أهواء الرهبان والأحبار والتطوّرات العلمية أي بين العلماء والكنيسة.

أما الإسلام فليس كالنصرانية، لأن مصادره الأساسية (القرآن والسنة) محفوظة حتى اليوم، ولم تتعرض لأي تحريف أو تبديل أو نقص أو إضافة طوال التاريخ، وهو في رعاية الله وحفظه حتى القيامة، ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظزن (الحجر: 9). ولا يتعارض الإسلام مع العقل السليم أبداً، بل يشترط الإسلام أن يكون الإنسان عاقلا حتى يصبح مكلفا. ولذلك هناك كثير من علماء المسلمين اشتغلوا بالعلوم الدنيوية إلى جانب اشتغالهم بالعلوم الإسلامية، ووصلوا إلى القمة في مجالهم، حتى اعتبرهم علماء عصرنا رواد وطلائع النهضة الحديثة، واعترف بذلك كثير من علماء الغرب المنصفين. وذلك بعكس علماء النصرانية؛ فإنهم كثفوا جهودهم في العلوم الدنيوية فحسب، أو في العلوم الدينية النصرانية فقط، بسبب الأسباب التي ذكرتها قبلُ. ومن هنا فالقرون الوسطى المظلمة للغرب النصراني فقط، وليس للشرق الإسلامي.

- وكيف تفسر وضع المسلمين اليوم؟!

- وهذا هو ما أريد أن أبينه، على الرغم من تلك الحقائق، فإن المسلمين بعد ما انسلخوا عن روح الدين الإسلامي وضعوا برزخاً (مصطنعاً) بين العلوم الدينية والعلوم الحديثة لا تبغيان، ثم نسوا أن "ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة، فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولَّد الحيل والشبهات في الأولى، والتعصب الذميم في الثانية". وأخيراً سقطت العلوم الدينية في أيدي الجهلاء من المسلمين، وانتقلت العلوم الحديثة إلى أيدي الكفار والعلمانيين (الدنيويين)، فصارت الفاجعة: بينما كان جميع فروع العلم طرقاً نورانية موصلة إلى الله تعالى، نزَّلوها من درجة الشهادة والدلالة على الله تعالى إلى دركة ثقوب سوداء ودهاليز مظلمة تؤدي بالناس إلى الكفر والإلحاد، وحشُّوا أذهان الأجيال الشابَّة بنطرياتٍ تحتمل الكذب والصدق على أنها حقائق ثابتة غير مفتوحة للنقاش أبداً.

وتمخض عن هذا أن ظهرت في جانب فرقٌ وجماعاتٌ دينية متعصِّبة، غافلة عن أمور الدنيا، راغبة في ثمار الآخرة (!)، سائحة في مجال مطار نفسه فقط، منطوية على ذاتها دون علم ٍبالآخرين، وغير مبالية لمجريات الأحداث في العالم. وأما في الجانب الآخر فقد نشأت زمرة من المثقّفين والمفكِّرين الذين يخالفون للدين مخالفة شديدة، ولا يرون أيةَّ نقطة التصاقٍ أو أيَّ قاسم مشترك بين الدين والعلم. فلأنهم أخلُّوا بالتوازن الدقيق الرائع في كلِّ شيء، الذي أقامه الإسلام، عجزت عقولهم عن الإدراك بالحقائق الدينية والعلمية معاً، وعَدَتْ عيونهم عن نور الدين إلى بصيص أذهانهم المحدودة بجدار المادة، فانغمسوا في الشكوك والشبهات، ثم طعموا مجتمعهم بأفكار وافدة ونظريات خيالية باسم التحضُّر والتمدُّن.

- عفواً يا عبد الله، قطعت عليك كلامك! لقد فهمت من كلامك أن هناك فرقاً بين الإسلام والنصرانية، وبين تاريخ المسلمين وتاريخ النصارى من حيث التطور والتخلف وأسبابهما، إلا إنه، حتى الآن، لم تتضح لي حقيقة الدين والعلم والعلاقة بينهما؟!

- يا أخي داود! الحقيقة ليست شيئاً من نتاج العقل البشري، لو كان الإنسان يصيب في كل شيء، ويصل إلى الحقيقة دائماً، لما ندم أي إنسان على وجه الأرض على ما فعل سابقاً، ولما أخطأ أبداً، وما أكثر النادمين والمخطئين! إذن الحقيقة خارجة ومستقلة عن الإنسان. ومهمة الإنسان هي السعي للوصول إليها بالوسائل المتوفرة لديه. ثم يمكن تقسيم الحقيقة إلى نوعين:

الأول: الحقيقة المطلقة الثابتة الدائمة التي لا تتغير بمرور الزمان وتطور العلوم. وهي تتعلق بجوهر الوجود، ووسيلة الوصول إليها الوحي الإلهي فقط، وعقل الإنسان عاجز عن اكتشافها بمفرده. وعلى ذلك، فالحقائق المذكورة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية هي حقائق مطلقة في طبيعتها.

والثاني: الحقيقة النسبية، وهي التي تتصف بالتغير وعدم الاطراد والدوام، وهي تعتمد على البيانات التجريبية والتفسيرات المنطقية. وطبيعة الحقيقة النسبية مترددة بين الصحة والبطلان، وقابلة للأخذ والرد، وخاضعة للدراسة والاختبار. والحقائق العلمية من هذا النوع. والعلوم من هذا النوع في تطور وتغير مستمرين منذ بزوغ فجر الإنسانية حتى اليوم، إلى أن تقوم الساعة. فكم من شيء كنا نعرفه حقيقة فأثبت الزمان بطلانه، وكم من شيء كنا نعرفه باطلاً فأثبت الزمان حقيقته.

- حسناً يا عبد الله، وإذا صار هناك تناقض بين الحقائق الدينية والحقائق العلمية فماذا يكون الحال؟

- من حيث المبدأ، يا داود، لا يتناقض هذان النوعان من الحقائق أبداً. وذلك لأن الحقائق العلمية ما هي إلا عبارة عن نظريات، فإذا تجاوزت "الحقيقة العلمية" مستوى "النظرية"، ووصلت إلى مستوى "الحقيقة في نفس الأمر" بالفعل، تلتقي عندئذ مع "الحقيقة الدينية". أما إذا رأينا هناك تناقضا بينهما فذلك يعني أن ما حسبناه حقيقة علمية ليس بـ"حقيقة في نفس الأمر"، وأن العلم نفسه سيثبت بطلانه عاجلاً أم آجلاً. وبوضوح أكثر، فإن الحقائق الدينية حاكمة على الحقائق العلمية، والحقائق العلمية تابعة للحقائق الدينية. وإذا تعارضتا أو اختلفتا فالقول الفصل للحقائق الدينية. وعلى ذلك، إذا وجدنا اختلافاً أو تناقضاً بين "حقيقة علمية" و"حقيقة إسلامية" راسخة، وفشلنا في جميع محاولات التوفيق بينهما فإنه يجب علينا في هذه الحالة أن نرفض هذه الحقيقة العلمية المزعومة تأييدا للحقائق الإسلامية.

- أعترف يا عبد الله بصراحة أنني لم أسمع ولم أقرأ من قبل مثل تلك القضايا المثيرة من هذه الزاوية، وكانت محاورتنا ممتعة جداً. وأنا لست متعصباً في الفكر والرأي، أنى أجد الحقيقة آخذها وأصدقها. قلت ذلك فإن نهمي ما شبع، وولعي ما انتهى بالحقائق الدينية والعلمية، فهل هناك من كتب أو مجلات تهتم بهذه القضايا وتتناولها من الزاوية التي تناولت أنت منها توصيني بقراءتها؟ لأنه قد أتى مفرق طرقنا وحان موعد فراقنا!

لم يلاحظ عبد الله أن الزمان الذي لم يعرف المضي في بداية الرحلة قد تسارع وانتهى الآن، حيث سينزل رفيقه في المحطة القادمة. ولم ينتبه أنهما يتحاوران منذ خمس ساعات. ولذلك تناول قلمه بسرعة، ثم مزق ورقة من دفتر ملاحظته، فكتب عليها بعض أسماء الكتب والمجلات ومواقع الإنترنت التي تعطي أولوية للقضايا المتعلقة بالدين والعلم والعلاقة بينهما.

ولما وصل داوود إلى بيته أخذ يضع أشياءه في أماكنها بالبيت. وأخيراً جلس على الأريكة ليستريح، وفي الوقت ذاته بدأ يتفقد أشياءه في حقيبته اليدوية فإذا بكتاب صاحبه المسمى بـ(علم الفيزياء الساعي نحو الله)، الأمر الذي فاجئه كثيراً. وفكر في نفسه أن عبد الله دس الكتاب في حقيقبته دون علم منه لعله خشية أن يرفض هديته.

أسعد هذا السلوك داوود كثيراً، وخلف في نفسه تأثيراً كبيراً بحيث قرأ الكتاب كاملاً في يومين، وتبلور في ذهنه كل ما تحدث عنه عبد الله أكثر، وتغيرت تصوراته عن العلم والدين من ألفها إلى يائها، فاهتدى إلى التوحيد الخالص في العقيدة، والاستقامة في الفكر. وقرر في نفسه أن يستمع إلى العلوم التي تتحدث دوماً عن الله تعالى بألسنتها المتنوعة بدلاً من الأساتذة في الجامعة الذين شوهوا وبدلوا وجه الحقيقة الناصع.