هل هو الحب ...؟!!
ثناء محمد كامل أبو صالح
لحقتْ بي عقب الحصة تسألني : أستاذة .. هل الحب حرام ؟
فاجأني السؤال ..فكررتْ بإلحاح : أرجوك أستاذة .. أريد أن أعرف
داعبتها وأنا ألحظ اللهفة المترقبة في عينيها : ومن قال ؟ ها نحن نحب الله ورسوله و..
قاطعتني وقد تضرجت وجنتاها بحمرة الحياء : لا يا أستاذة .. ليس هذا ما أقصده
قلت : آها .. وما الذي تقصدينه إذن ؟؟
ردت بدلع ابنة السادسة عشرة : أستاذة .. أريد أن أعرف
قلتُ مداعبة : وإن عرفتِ أنه حرام, هل تكفين عنه ؟
هتفت وقد التمعت عيناها بما يشبه البكاء : أستاذة .. أنا جادّة وأنت تمزحين ؟
قلت : ستضيع عليك الفسحة و..
بسرعة ردتْ : لا يهم ..
أدركتُ- من لهفتها- شيئاً من معاناتها, رغم دهشتي لذلك !! فقد كانت من أفضل الطالبات خلقاً وديناً, فأمسكت بمرفقها أصطحبها إلى حيث مكتبي المنفرد, وقلت : ها نحن الآن وحدنا, فليكن حديثنا صريحاً وواضحاً ..
هزت رأسها موافقة, فتابعتُ : الحب يا ابنتي من أسمى أنواع الشعور الإنساني و..
هتفتْ بارتياح : إذن ليس حراماً
قلت : كشعور.. ليس حراماً, لكن اختلاط مفهومه في أذهاننا قد يجعله حراماً
تساءلت : كيف ؟؟!
أجبتُ : حين يختلط مفهومنا له بالفهم الغربي الذي قصره على الشهوة, بينما الإسلام يعترف به عاطفة سامية, ويقر بدوره في دخولنا الجنة إذ نحب إلهنا ورسولنا وديننا وأهلينا و..
قاطعتني بنبرة عتب : أستاذة ليس هذا ما قصدتُ
قلت : أعرف قصدك, إنما أردت أن أوضح الفكرة, فمن الخطأ قصر هذه المشاعر على العلاقة الخاصة بين الجنسين فقط
هتفت : ولكنه حب أيضاً, وهو واقع..
قلت : هو رغبة.. شهوة, قد تقترن بالحب, والإسلام لا ينكرها, بل شرعها وغلفها بغلاف المودة والرحمة بين الزوجين لتستمر ولا تكون مجرد نزوة حيوانية, وخصها بأجر يناله الزوجان معاً..ليضمن استقرار البيت المسلم وسيادة الطمأنينة والرحمة فيه .
قالت : إذن هو حلال
قلت : نعم حلال.. بين الزوجين, أتفهمين ما أقصده ؟
تضرجت بالحمرة وهمستْ : وهل يحرم أن تحب الفتاة من سيكون زوجها مستقبلاً ؟
داعبتها قائلة : آها .. وصلنا إلى المطلوب
قاطعتني : لا .. لا تفهميني خطأ
قلتُ : ومن قال أني فهمتك خطأ ؟ ولكن لو أنك طرحتِ السؤال مباشرة لأرحتني مما سبق..
طيب يا رانية ..كيف تعرف الفتاة أن هذا الشاب سيكون زوجها حتى تمنحه الحب مسبقاً ؟ هل هو خطيب ؟
أطرقت ولم تجب, لمستُ كفيها المعقودتين أمامي على المكتب وهمست أحثها على الكلام : هيا .. لقد اتفقنا على الصراحة .
تساءلت بحيرة : وكيف يحب الزوجان بعضهما دون معرفة سابقة ؟ الحب لا يولد هكذا فجأة ..
قلت : صحيح .. الحب لا يولد فجأة, ولكنه يأتي مع الأيام , ينمو بالاعتياد والألفة.. ينمو ببطء ولكن بقوة, بجذور راسخة ثابتة, لا تقتلعها الهزات الطارئة أو عواصف الغضب والخلاف.
همست بخيبة أمل : يعني ..أنت تفضلين أن تتزوج الفتاة دون حب
قلت : عُدْنا ؟؟
قالت : لا .. لا .. فهمتُ قصدك, ولكن قد لا يتفاهمان أو .. لا يحبها أو.. لا تحبه فيما بعد, فيقع الطلاق.. أليس من الأفضل أن تعرفه جيداً قبل الزواج ؟
قلت : وكيف ستعرفه ؟ عن طريق الزميلات؟ أم الهاتف ؟ أم "النت" ؟
احتجت : لا .. طبعاً لا, ولكنه قد يكون قريباً لها
قلت : وهذا القريب كيف تلتقي به لتعرفه معرفة جيدة ؟
أجابت : عادي .. تراه حين يزورهم مع أهله
قلت : وهل تكفي أن تراه- مجرد رؤية – لتحبه ويتملك شغاف قلبها؟ أم يجب أن تتكرر الزيارة مرات.. وأن تجالسه وتحادثه وتمازحه حتى تحبه ؟
استنكرت : أستاذة .. إنه ابن عمها .. مثل أخيها !!
قلت بهدوء : وهل تتزوج الفتاة أخاها ؟
تضرجت بالخجل وأطرقتْ .. فسألتها : هل تجالسين أقاربك من الشباب؟
هزتْ رأسها بالإيجاب وتابعتْ : ولكن بحجابي ومع أهلي
قلت : ولكن ذلك لا يمنع أن يسألوك عن أحوالك ودراستك وآخر أخبارك, وقد يمتدحون أخلاقك أو أناقتك أو خفة دمك ..
ارتجفت شفتاها قليلاً.. فتابعتُ: لن أتحدث عن الحلال والحرام هنا.. لكني سأسألك : ألست معي في أن الشباب من الجنسين وفي هذه السن خاصة, يكون جل همه لفت الأنظار ونيل الإعجاب وخاصة من الجنس الآخر ؟ وأنه قد يتظاهر بما ليس فيه أصلاً لينال هذا ؟؟
هزت رأسها موافقة دون أن تنبس بكلمة ..
فأكملتُ : اسمعي يارانية .. هذا كله أمر غريزي فطري تزيده تأججاً ألفاظ الحب والغرام, التي تغزو مسامعكم صبح مساء, من أغانٍ هابطةٍ ومسلسلات وأفلام, إضافة إلى القصص العربية والغربية التي تصور مباهج الحب وتدعو إليه, كل هذا يحيط بالشباب فيصبح همه أن يحب ويحب فقط.. ليتذوق هذا الذي يسمع ويقرأ عنه ويردده كل من حوله, وتضج غريزته وأعماقه صارخة به, فإذا التقت الفتاة بمن يبدي اهتماماً بها ولو بسيطاً, اندفعت نحوه بكل مخزونها من المشاعر والرغبات والأحلام, لتبني حوله في الخيال قصوراً قد تنهار لأول لحظة من الحقيقة .
رفعت إلي بصراً متسائلاً .. قلتُ : ألا يمكن أن تكتشف أنه لا يفكر فيها إطلاقاً, وقد يخطب غيرها فجأة ؟ وعندها ما يكون حالها ؟؟
همست بصعوبة : و.. ولكن قد يخطبها هي.
قلت : قد .. ما من شيء مضمون, والقصص المأساوية التي تنتج عن اختلاط الشباب أكثر من أن تُحصى, ولذلك وضع الإسلام ضوابط وحدوداً تحمينا وتقينا المخاطرة حتى بمجرد المشاعر .. فالله أرحم وأعرف بأنفسنا منا
يارانية .. الإسلام لا يمنع الشباب من الأحلام .. لكنه يريد لأحلامهم أن تصبح واقعاً مشروعاً مفرحاً, لذلك أمر بالرؤية قبل الزواج, حتى يشجع الخطيبين على إكمال الطريق سوية أو الافتراق بأقل الخسائر المعنوية, وحتى هذه الرؤية لا تتم إلا بعد أن يطمئن الأهل قبلاً إلى دين وأخلاق الطرفين وصدق النوايا, ومتى تمت الخطوبة فسيأتي الحب, صدقيني .. يأتي هادئاً لكنه قوي راسخ, لأن أساسه صحيح متين .
سكتُّ أرقب تأثير حديثي .. وطال الصمت .. ثم قطعتْه رانية بتردد: وإن كان الأمر قد وقع ؟
قلت : هو إعجاب وخيال .. وعليك أن تبدئي من الآن بمحاولة الانصراف عنه, تجنبيه وكافة الأقارب, ولا تختلطي إلا بمحارمك, ستعانين في البدء, لكن المعاناة الآن أهون بكثير مما بعد, وإن كان يفكر بك جاداً أو يحمل لك في قلبه شيئاً فسيتقدم لخطبتك
هتفت بدهشة : خطبة ؟؟ وأنا في هذا العمر !!
قلت : وماذا عن الحب ؟؟ وأنت في هذا العمر !!
قالت بارتباك : لا .. قصدي .. هل تؤيدين الزواج المبكر ؟
ربت خدها الملتهب وقلت : ذلك موضوع آخر يحتاج إلى فسحة جديدة .. هيا فقد رن الجرس
وراقبتها وهي تغادرني إلى فصلها.. تسير رازحة تحت هم يثقل قلبها الصغير..
وتساءلت : كيف تغفل الأم عن ابنتها في هذه السن الحرجة, فتعرضها إلى ما لا طاقة لها به ؟؟
وهل يمكن للواحدة منا أن تنسى أحلام وأحاسيس المراهقة ..مهما بعد العمر عنها ؟؟
و .. أما آن لنا كأمهات أن ندرك حقيقة المسؤولية وعظم الأمانة ؟.
عضو رابطة الأدب الإسلامي