سر السقوط

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

 ما أن اطل ( سامي ) على أصدقائه حتى لاحظوا عليه شحوباً في الوجه و ذبولاً في العينين.كانت خطواته ثقيلة بطيئة وتلتف حول يده اليمنى جبيرة حديثة و في يده اليسرى رعشة شاهدوها لأول مرة.رحبوا به ، و ما أن اخذ مجلسه المعتاد في المقهى العتيق الذي اعتاد فيه أن يحتسي قهوته و يقرا ما جادت به من صحف عتيقة أو مجلات أسبوعية صفراء حتى انهالت عليه أسئلة جمة

- هل تعرضت لحادث سيارة ؟ هل أطاح بيدك اليمنى سائق متهور؟.تداخلت الأسئلة فقاطعهم قائلاً" اطمئنوا فلا شيء من ذلك....تريثوا قليلاً و سوف اروي لكم حكايتي من الألف إلى الياء.

طلب أحد أصدقائه له أرجيلته المفضلة حتى ينفث من خلالها همومه.بدا سامي يسرد حكايته قائلاً: منذ فترة و الأحلام تطاردني مثل أحصنة برية شاردة حتى أصبحت مثل كوابيس ، و ما أن أصحو من احدها حتى يتعكر مزاجي لساعات قليلة قادمة، و عندما أخلد إلى الفراش من جديد حتى ينهشني كابوس آخر...أقصد حلم جديد أسوا من سابقه. ليلة أمس كنت أغرق في بركة فيها سائل كالحمم.صرخت طلباً للنجدة ، ناديت بأعلى صوتي حتى شعرت أن أوتاري الصوتية تتمزق من شدة توترها، و لما لم تمتد لي يد تنقذني ، و حيث أنني لا أتقن السباحة – كما تعرفون – فقد أنتابتني قشعريرة الموت فانتفضت، و في اللحظة التالية كنت أتدحرج من على سريري أرتطم بالأرض. اكتشفت أنني كنت قد وقعت بجسمي الثقيل على يدي اليمنى، سمعت صوت شيء يتكسر و عظام تتهشم. أظهرت صورة الأشعة في قسم العظام في اليوم التالي وجود كسور متعددة ، فوضع الطبيب الجراح بعض البراغي والوصلات المعدنية في ساعدي الأيمن حتى يلتئم الجرح و الكسور.ها أنا كما ترون أصبحت إنسانا آلياً معدنياً يكسوه بعض اللحم والشحم أي أنني أصبحت كسيارة هجينة أيها الأصدقاء!

- نحمد الله على سلامتك- أردف أحدهم ضاحكاً ، فأنت تحافظ على خفة ظلك حتى في أحلك الأوقات ، " و لكن ما سر الاحمرار في عيونك و الذبول في جفونك ؟"

تابع سامي شرح حيثيات ما جرى: " الحقيقة أنني بعد الحادث الأليم كنت حريصاً على البقاء يقظاً مخافة أن تعود لي تلك الكوابيس ، و كنت استعين على السهر الطويل باحتساء فناجين كثيرة من القهوة التركية ، لعل هذا الذبول ثمرة الكافيين الموجود فيها و كذلك بسبب السهر المتواصل...كنت أتمدد على السرير ، أحدق في جدران الغرفة و سقفها"

- و لكن لا بد لك من أن تخلد إلى النوم، قال صديق آخر بلهجة الناصح الأمين.

نفث في الهواء ،بعد أن سحب نفساً طويلاً ، دخاناً حجب وجه صديقه و قال: قبل يومين غلبني النعاس بعد أن تثاقلت جفوني ، و لا ادري ما جرى في حقيقة الأمر في اللحظات الأخيرة.....حلقت فوق الأودية و الجبال الشاهقة ، ثم ارتفعت إلى أعلى مثل منطاد ، و عندما نظرت إلى أسفل رأيت البنايات الشاهقة كمكعبات صغيرة ، و كانت الأنهار تبدو كخيوط زرقاء تتلوى كثعبان في باطن الأرض. كان المنظر أخاذاً فحاولت أن ألتقط صورة تذكارية له بكاميرا فيديو عالية القدرات ، و قبل أن أضغط على وضعية التشغيل انجر المنطاد الهيدروجيني و تحول إلى كتلة من لهب و تناثر كل شيء. عشت لحظة السقوط المريع وسط اللهيب و تناثر كل شيء و أتت النيران التي أتت على معطفي فتخلصت منه بسرعة و ألقيت به سريعاً ، و لما تسارع اندفاعي بفعل الجاذبية و بدأت أقترب من الأرض كدت أرى موقع سقوطي المتوقع ، فقد شاهدت ما يشبه البحيرة المغلقة المحاطة بالجبال، و قلت في نفسي هذه البقعة ستحتضن أشلائي و تطفئ نيراني و لكن مع اقتراب لحظة الارتطام أصابني ذعر شديد فانتفضت مثل غزال تائه حاصرته اسود جائعة و ما عليه إلا أن يختار شكل ميتته، و أخيرا صحوت من كابوسي الثاني و إنا اردد" الحمد لله..الحمد لله " فكيف لكم يا أصدقائي أن تنصحوني بالنوم فقد أصبح النوم عندي صنو الموت البطيء.

ذهبت إلى بعد المختصين في علم النفس فخففوا من روعي بعد أن اجروا علي بعض الفحوصات ، و اتصلت ببعض الفضائيات التي تتناول مع مسالة الأحلام و تفسيرها فلم اسمع منهم إلا هراء.

- وجدتها، وجدتها ...صرخ احد الأصدقاء. ركز معي أيها الصديق ، فما هذه الكوابيس إلا صدى لكتب الأساطير التي دأبت على قراءتها في الأسابيع المنصرمة، ابتعد عنها و عد إلى قراءات هادفة أكثر و سترى الفرق

- هذا غير معقول ، من أين لك بهذه الأفكار؟

- هل تتذكر قصة الملك الإغريقي تنتالوس ؟هل تتذكر أسطورة ايكاروس ؟

- لا أعرف يا صديقي عما تتحدث !

- أجل ، قبل شهر حدثتني بأن تنتالوس ابن زيوس و الحورية بلوتو دعي ذات مساء لتناول طعام العشاء مع الآلهة فوق جبل أولمب ، إلا انه سرق بعض الأطعمة الخاصة و قدمها لأصدقائه فغضب عليه زيوس و كان عقابه أن ألقي في الجحيم وكان يقف في بركة عميقة يتدلى فيها حتى ذقنه وفوقه أغصان مثقلة بثمار الفاكهة ، و لما عضه الجوع حاول أن يرفع هامته قليلاً عله يظفر ببعض الفاكهة والشراب إلا أن قوة سحرية كانت ترفع الأغصان لأعلى و لم يكن قادراً على أن يطفئ عطشه أو يقهر جوعه و ظل بقية حياته يتعذب.هذا هو تفسيري لحلمك الأول - يا صديقي.

أما الكابوس الثاني – فسأسرد لك ما حكيته لي عن أسطورة( ايكاريوس) ، تابع صديقه بإصرار.ألم تقل لي بان الأسطورة تسرد حكايته ووالده عندما سجنا في كريت. و حيث أن والدهDaedalus كان حرفياً بارعاً فقد عزم على تنفيذ خطة للخروج من الاعتقال ، فصمم أجنحة له و لأبنه من إطار خشبي أضاف له الشمع و الريش ، و حفاظاً على سلامة الخطة نصح ابنه قبل الانطلاق بان لا يقترب في طيرانه من الشمس المتوهجة، غير ان ايكاريوس ظل يخفق بجناحيه إلى أن أدرك انه أصبح بلا ريش و انه بات يحلق بذراعين عاريتين ، فما كان منه إلا أن وقع في البحر. أليس ثمة مقاربة يا صديقي مع كابوسك الثاني و سقوطك من المنطاد ؟

 حك سامي رأسه ثم توجه نحو مكتبته الصغيرة و ألقى بكتابه المفضل عن أساطير اليونان بعيداً دون أن ينسى شكر صديقه على ملاحظاته.