الحرب النبيلة

محمد صباح الحواصلي

الحرب النبيلة

محمد صباح الحواصلي

كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة

[email protected]

كان يجبُ أن يضغطَ.

أن يضغط جسدهَا المتأبي من الكتفين لكي تركع.

كان واقفاً خلفها وراحتا يديه الخشنتين تقبضان على كتفيها المنكمشين المرتعشين.

يضغط متمتما: "اركعي يا بنت الحرام."

قدماها ثابتتان كنخلتين في صحراء عربية شمسها مفقوءة العينين. يضغط ثانية لكنْ بغضبٍ ونفاذِ صبرٍ هذه المرة. يُعجبُ من تأبي جسدها واستقامته، ولكن يجبْ أن تخضع وتركع..

بالعنفِ ستركع..

بالترهيبِ ستركع.

يضربُ بكلتا ركبتيه على باطن ركبتيها فتنقصفا رغما عنها, وتهوي على ركبتيها فتتلقاها رمال الوطن بحنو.

على الفور قبضَ الجنديُ بجماع يده على عُفرةِ شعرها الكثيفِ ليثبِّتَ رأسها عند منتصفِ جسديْ الجنديين الآخرين اللذين كانا يقفان قبالتها على أهبة الاستعداد. كانا قريبين من رأسها الذي أصبح واقعا بين أربعةِ أرجلٍ لجسدين ضخمين يرتديان بزتين عسكريتين.

من ورائها, اليدُ القابضة على عفرةِ شعرها تشدُ إلى الخلفِ قليلا فيدركُ رأسها أنه هو المعني من سائر جسدها. يتعاظم الخوفُ في أعماق الصبيةِ. صوتها المجروح بكل إبائه لم يستطعْ أن يستنهضَ هِمَمَ قواها الدفينة لتواجهَ بها سيلَ الرعبِ الذي يجتاح كيانها الربيعي.

رفعت عينيها إلى أعلى, إلى رقعةِ السماءِ الضيقةِ المطوقةِ بثلاثة جنود, واحد من خلفها واثنان من أمامها, فأضحى من المتعذر عليها أن ترى السماء, أو أن تراها السماء. أما شبابُ بلدتها المكبلين بهوانهم وراء القضبان ووراء حدود الوطن فقد أرغِموا على أن يروا المشهد..

يرون دنوَّ الجسدين منها دنوا يكاد يلامس أديم الوجه..

يرون عينيها وهما تطلقان صراخا شبيها بوامعتصماه, أو بواعرباه, فيما كانت

تحاول أن تدخلَ نظراتها المسترحمة في قلوب الجنود المغلقة بأقفال صدئة, وفي

عيونهم المفتوحة كعيون التماسيح.  تحس بالجسدِ خلفها يلامسُ ظهرها ورأسَها ليثبتها إذ أنَّ وقت العرض قد اقترب. ربما صرخ الجندي فيها لتفتح فمها فيأتيها الصوت من أعلى رأسها.

وربما لأنها لم تفهم كلماتهم التي بدت لها هجينة فقد اندستْ إصبع ثخينة مالحة بين الشفتين محاولة أن تفتح الفكين, ثم أطبقَ الجنديُ الخلفيُ براحته على فكها السفلي وضغط هاصرا الخدين ليبقي الفم مفتوحا.

وربما صرخ من خلفها مهددا إياها بأن تبقي فمها مفتوحا.

ربما.

وربما وجدَ ضحكهم مكانا له وسط تلك الحلقة المأساوية.. ضحك زاحمَ الدموعَ والرعبَ والخيبة والاسترحامَ والسماءَ الموصدة الأبواب، ثم انطلقَ من أفواههم ساخراً.

لم ترَ الصبية لكنها أحستْ أنَّ هواناً أشدُ وأنكى قادم, وأنَّ ما كانتْ ترهبه يقتربُ حدوثه. فها هما راحتا يديهما تندسان داخل فتحتي بنطاليهما المبرقعين! وها هما يخرجانهما من داخل الفتحتين, ويدفعانهما نحو الشفاه المتوسلة!

هنا تجمدتْ أصابعي وتعطلتْ الكتابة.. انتهى دورها, ورميتُ قلمي جانبا, ورميتُ جسدي على السرير, ورميتُ نظراتي في خلاءِ الغرفة, والخلاءُ جاءَ بالخواطر, والخواطرُ استدمعتْ العينين, والدموعُ جفتْ في المقلتين, وبقيت الصورة تمرُ بخاطري وكأني بالصبية تناديني دون غيري, فألبيها بكلماتي، فعذرا يا بنيتي فهذا كل ما بمستطاعي!!

انتهتْ قراءتي للصورة - يا قارئي العزيز – وما تزال تقول أكثرَ مما قالت، وبما أنَّ الصورة ليست مشهدا سينمائيا يصوِّرُ لحظات إرهاب وذلٍ وقهر، بل هي صورة من واقعنا لصَبَّيةٍ عربيةٍ يُجرَّبُ بها الإرهاب والعهر والقهر الديمقراطي الحضاري. ولأنَّ الصورَة ليس بمقدورها أنْ تظهرَ ما خلفها, فقد ختمتها وأمضيتُ باقي أيامي ولياليَّ العنينة وأنا ألوكُ هوانَنا تفكيرا وتساؤلا..