حكاية : بنت الملك
من حكايات التراث الشعبي الفلسطيني
على لسان الآباء والأجداد ( 18-3-2010م )
تحسين أبو عاصي *
– غزة فلسطين –
[email protected]
تزوج رجل تقي نقي وإن دوَّرت ( بحثت )
فيه العيب لا تلتقي (لا تجد ) – جملة تُردد كثيرا في تراثنا – من امرأة صالحة وأنجب
منها طفلا ، واعتنى الأبوان بالطفل اعتناءً كبيراً حتى صار شاباً يافعاً فتياً ،
بدأ الشاب بالانحراف تدريجيا ، وفي ليلة من الليالي دخل على أهله ثملاً من كثرة
شُرب الخمر ، غضب والده منه غضباً شديداً من بعد أن يئس من تربيته وإصلاحه فطرده من
البيت ، وطلب منه ألا يعود إليه ثانية ، ولكن الشاب رفض أن يخرج من البيت ، فكيف
يخرج وقد أرخت الدنيا بظلامها الدامس وهو لا يملك من المال شيئاً !! .
تشاجر الأب مع ابنه شجاراً حاداً ، ولم
يرحم الشاب والده ، فقام بلطمه على عينة لطمة قوية فقأت عينه ، فأقسم والده على أن
يقطع يد ابنه التي امتدت عليه في الصباح أو أن يغادر البيت فوراً .
بكت الأم بكاءً شديداً واحتارت بين
زوجها وابنها ، فأعطت ابنها ( 100 جنيه ) وطلبت منه الخروج من البيت حتى تهدأ
الأمور .
سافر الشاب إلى بلد بعيد ، وفي أول
المدينة رأى متجراً كبيراً ممتلئاً بالبضاعة و بداخله كثير من العمال ، وكانت تبدو
على المتجر حركة البيع والشراء واضحة كل الوضوح .
طلب الشاب من صاحب المتجر أن يعمل عنده
، ورأي صاحب المصنع الشاب غريباً وقلقاً حزيناً ، من بعد أن كتب الهم والحزن على
وجهه سطورا ... فوافق صاحب المتجر على العمل عنده رحمة به ، وعندما علم بقصته عطف
عليه واتخذ منه ولداً له .
طلب الشاب من صاحب المتجر أن يدَّخر له
ما بقي معه من مال ( 50 جنيهاً ) ، فهو لا يحتاج إلى المال عند هذا التاجر الصالح ،
فكان يأكل ويشرب وينام عنده ، كما كان يدخر له أجره .
كان في المدينة ملك له هيبة وقوة
وسلطان ، وفي يوم من الأيام غضب على ابنته غضباً شديداً وأمر وزيره بأن يبيعها
جارية في سوق العبيد عقاباً لها ، وأوصاه بعدم يبيعها
إلاّ بموافقتها هي وليس رغماً عنها ، وألاّ يعود إلى القصر إلا بعد بيعها .
خرج الوزير متخفياً ووقف بسوق الجواري
والعبيد لكي يبيع بنت الملك ، ولم يعرف أحد أن البنت هي بنت ملك البلاد ، فجاءه
الأعرج والأعمى والأطرش والفقير والمريض والطويل والقصير ، والنحيف والبدين لعل
أحدهم يشتريها ، لكنها كانت ترفض كل من يحاول شرائها .
اقترب الليل ولم يتمكن الوزير من بيعها
، فرأت بنت الملك من بعيد ذلك الشاب جالساً على باب متجره الكبير، وطلبت منه أن
يذهب إليه ويعرضها عليه لعله يشتريها ، سار الوزير وبرفقته بنت الملك إلى الشاب
وقال له : ما رأيك أن تشتري هذه الجارية بثلاثمائة جنيه ؟ .
قال الشاب أنا غريب بلاد ولا أملك من
المال إلا القليل ( 50 جنيهاً ) ادخرتهم مع صاحب المتجر ، واستمر الوزير بحث الشاب
على شراء الجارية حتى أقنعه ، كما تمكنت بنت الملك من إقناعه ، ذهب الشاب إلى
التاجر الذي علّمه الأمانة والاستقامة وحسن الخلق ، حتى صار محط أنظار سكان المدينة
ومضرباً للمثل في تقوى الله والعمل الصالح ، وطلب من التاجر ثلاثمائة جنيهاً ثمن
الجارية ، حاول التاجر أن يثنيه عن رغبته لكنه لم يفلح ؛ فدفع التاجر المبلغ للشاب
، واشترى الشاب الجارية ( بنت الملك ) ، وكان في نية الشاب أن يستمتع بها كجارية
مدة من الزمن ، ثم يبيعها فيربح ضعف المال الذي دفعه ثمناً لشرائها .
ترك الشاب المتجر مودعاً صاحبه الذي
كان له الفضل بعد الله عز وجل في استقامته وتربيته ، وذهب بالجارية إلى مكان آخر ،
وهناك حكت الجارية قصتها للشاب وأخبرته أنها بنت ملك البلاد وصاحبة العز والمال
والنفوذ في قصر والدها ، وعندما سمع حكايتها تفاجأ بالموقف الذي لم يخطر على باله
مطلقاً ، كما حكى هو أيضاً حكايته لها كاملة ، وعزم الشاب والجارية أن يشقا حياتهما
بجد واجتهاد من نقطة الصفر ، وتزوجا على سنة الله ورسوله ، لعله ينجب منها الذرية
الصالحة .
لم يملك الشاب من المال شيئا لكي يعينه
على أمور الحياة ، وكانت بنت الملك لا تملك أكثر من ثلاثين جنيهاً .
أعطت بنت الملك المبلغ كاملا للشاب
وقالت له : ( 10 جنيهات ) طعام ، و ( 10 جنيهات ) آنية لطهي الطعام وللأثاث المنزلي
، و ( 10 جنيهات ) لشراء الحرير ، وأوصته بأن يذهب إلى السوق ويشتري من الحرير سبعة
ألوان .
أحضر الشاب الحرير إلى زوجته بألوانه
السبع ، وصنعت زوجته من الحرير زُناراً ، وطلبت من زوجها أن يبيعه بثلاثين جنيهاً ،
واستمرت على هذا الحال شهورا حتى ادّخرت وزوجها مبلغا جيدا من المال .
في يوم من الأيام قالت له : لقد رأيت
رؤية في نومي أن أبي يبحث عني ، وأوصته أن يأخذ حذره .
بعد أيام قلائل ، حضر الوزير إلى
المدينة باحثاً عن بنت الملك بأمر من الملك نفسه ومعه حاشية كبيرة ، وعندما شاهد
الزنانير المصنوعة من الحرير عرف أنها من صنعها وحياكتها فقد كانت تصنع مثلها من
قبل ( في قصر والدها الملك ) ، فاستمر في البحث عنها حتى اهتدى إليها ، تخفى الوزير
بلباس تاجر بسيط وذهب إلى الشاب عارضاً عليه مبلغاً كبيرا مغرياً من أجل شراء زوجته
، لكن الشاب رفض وأصرّ على رفضه ، فأرسل إليه من يخطفها بالقوة ولو من بين يديه ،
وكان للوزير ما أراد .
بدأ الشاب البحث عن زوجته في كل مكان
حتى اهتدى إلى مكانها ، وعزم على خطفها والهروب بها ، وعندما دخل المدينة ، علم
السكان أنه شاب غريب حضر إلى المملكة لأمر مُريب ؛ فأخبروا الملك بقدومه
وأمر الملك بسجنه ، وفي السجن أحبه السجانون
والسجناء وبدأ يتقرب إلى السجانين حتى أطلقوا صراحه بأمر من الملك الذي علم فيما
بعد بأن الشاب جاء ليبحث عن عمل ليس إلا .
بعد أن خرج الشاب من السجن ، تظاهر
بأنه يدين بديانة تلك البلاد ، فعمل في معبد لهم ،
و استطاع يوماً بعد يوم أن يتقن دور التمويه بذكاء منقطع النظير، حتى صار كاهناً
يعلم الناس أمور عبادتهم ودينهم ، وأحبه الناس وصار مكان ثقة عند الجميع ....ونتيجة
لاحترام ومحبة الناس له ؛ طلب من زوار المعبد أن يوصلوا لبنت الملك رسالة سرية بأمر
من الإله يطلب فيها الحضور إلى المعبد ....
تمكن زوار المعبد من توصيل الرسالة ،
ولكن بنت الملك لم تر من قبل هذا الكاهن الذي سمعت كثيراً عن حسن أخلاقه وسرته
العطرة ، وعندما حضرت إلى المعبد ونظرت إليه عرفته وعرفها
، وأسرّ لها بضرورة الهروب ، وطلبت منه التريث قليلاً حتى تضع الخطة المناسبة التي
تمكنها من الهروب معه بأمان .
وبعد أيام تمكنت من تهريب زوجها ،
وارتديا لباس الوزراء ، وأمرت بتجهيز سفينة كبيرة
محملة ببضاعة نفيسة بالإضافة إلى عدد كبير من الخيول والجمال ....
وهربت مع زوجها الشاب سراً عن طريق البحر فجراً ،
وبمجرد أن رست السفينة على الميناء ، امتطيا حصانين وأسرعا في الهروب إلى بلد الشاب
التي تركها منذ أن أغضب والده ، وهناك وجد والديه بانتظاره وقد طال زمن البحث عنه ؛
فانكَبّ على أقدامهما تائبا راجعاً إلى الله طالباً رضاهما ، وتمكن الشاب من أن
يجمع حوله كل سكان المدينة وحكامها ووزرائها ،وأغدق عليهم المال الوفير والخير
الكثير ، وأصبح ملكا على تلك البلاد.
أحب الناس الشاب وقدموا له الطاعة
والولاء .... وعرف الملك ( أبو زوجته ) بأن الشاب خطف ابنته وهرب بها ، وانه أقام
مملكة قوية لا قِبَل له بها ؛ فمد إلى الشاب يده طالباً الصلح وحسن الجوار وكان له
ذلك ، وعاش الشاب في بلاده يعلم الناس الخير ويحثهم على طاعة الله وبر الوالدين ،
وكان في كل يوم لا يهدأ له بال حتى يدخل غرفة القصر صباحاً ومساءً فيُقبل رأس والده
ووالدته ويطلب منهما المغفرة والرضى .
ويسلم لي القارئ يارب . وعاش تراثنا
الشعبي الفلسطيني .
*كاتب فلسطيني مستقل