آلام ما بعد الرجوع
آلام ما بعد الرجوع
(الجزء الثالث)
أحمد ناصر نور الدين
في لحظة ما أيقظتني أصوات الركاب من حولي. عدلت مقعدي واستجمعت وعيي. نظرت في ساعة يدي. كانت تشير الى الرابعة. لكن ليس الوقت مهما الان. وأنا على ارتفاع أميال كثيرة من سطح الأرض. التفت الى المقعد المجاور لي فكان خاليا. قدرت أن السيدة هند في الحمام.
بعد لحظات عادت السيدة هند لتجلس في مقعدها. قالت لي:
- صباح الخير...
- هل نمت كثيرا؟
- نحو ثلاث ساعات.
- حسنا. على العموم نحن في الصباح على كل حال. صباحك سكر.
ضحكت هند ضحكة ناعمة وقالت:
- أجل انه الصباح (نظرت عبر الشباك الذي بجانبي وكانت الغيوم تنتشر في السماء بيضاء كثيفة مذهبة بأشعة الشمس) لاشك انك مشتاق الى صباحات بلدك؟
ابتسمت ونظرت عبر الشباك للحظة ثم عدت اليها وقلت:
- لقد فقدت طعم الصباح منذ زمن. لكن لعل صباحات بلدي تجدد فيي شيئا أندمل في نفسي. أو عساها تعيد بعث بهجتي القديمة ليس للصباح حصرا بل للحياة عامة.
جرت السيدة هند نفسا ثم تنهدت قليلا. تأملتني للحظة بنظرة باسمة هادئة ثم قالت:
- برغم كل الحزن الذي أراه في وجهك الا ان شيئا ما يوحي لي بأنه لا يزال هناك متسع للفرح في قلبك.
أشاع ذكرها للفرح في نفسي بهجة غامضة وخفق قلبي خفقة نشطة. سلوى! ترى هل سيقدر لك أن تكوني من نصيبي بعد كل ما جرى وفات من سنين طوال؟!
فجأة قالت السيدة هند بمرح وحماس:
- لقد حكيت لك كل شيء عن حياتي وماضيي وهذا نادر ما يحصل مع شخص غريب. لكنني شعرت براحة للحديث معك ففتحت لك مطاوي نفسي.
ثم أضافت برجاء:
- ولا تنسى أنك وعدتني بأن تحكي لي المزيد عن حياتك وماضيك!
تنهدت تنهيدة طويلة وأنا أبتسم لها باستسلام. حقا سأخبرها بكل شيء تحاشيت ذكره من قبل. كنت أشعر بأن بي برغبة شديدة للبوح لها بما في صدري. ولا أعلم لماذا كانت هذه الرغبة قوية جدا خصوصا تجاه هذه السيدة السورية التي التقيت بها عرضا في مطار باريس وربما لن يجمعني بها لقاء آخر فيما سيأتي علي من سنوات العمر.
- سيدتي، قصتي تافهة لدرجة كبيرة. انها لا تصلح لتكون موضوع رواية أو قصة ولا تصلح حتى.. لكن ربما هي مناسبة لتأليف نكتة أو فكاهة طريفة.
- انت عليك ان تحكي لي وأنا أقدر..
- سيدتي.. الشخص الجالس بقربك الان والذي ارتحت للحديث اليه مع انك لم تعرفيه الا البارحة. هذا الشخص الاربعيني الذي بدأ الشيب يخط في شعره مخطوطات الزمن البائر. هو غير ذلك الشاب الذي ذهب الى تلك البلاد متوقدا بطاقة الشباب وجموحه. كانت تستعر بين ضلوعي نيران تدفع بي الى فعل المستحيل كنت كتلة متوهجة من الطاقة والحيوية. لكن سيدتي كان الزمن ولايزال عدوي وغريمي. في غربتي ماتت أمي حسرة على رؤياي. بعد ان كان البكاء قد شارف الى إخماد نظرها الذي اعتل من فرط البكاء. وكان فقدها صعبا على ابي جدا. وابي من النوع الصموت. الذي لا يبوح بمكنونه الى ملاك يمينه او يساره. لم يتحمل اكثر من شهرين فلحق بأمي. كان رحمه الله عنيدا جدا. اختاي متزوجتان واخي الصغير كذلك. كلهم توسلوا اليه وترجوه ان ينتقل للعيش في شقة أحد منهم لكنه رفض رفضا قاطعا. حتى الزيارات. لم يكن يحب ان يزور احدا. كانوا هم يزورونه في البيت القديم الذي تربينا كلنا فيه ولم يشئ ابي ان يغادره لان كل حياته موجودة فيه كما كان يقول. فقد تزوج فيه وانجب فيه اولاده وترعرعوا حتى شبوا وصاروا رجالا ونساء. فكان لابي ما كان يتمناه.. أن يعيش حياته كلها في هذا البيت.. وهذا ما حصل فعلا...
مرت علينا المضيفة فقدمت لنا وجبة الافطار. خلال تناول الطعام اغتنمت فرصة الصموت. وحاولت ان اكبح جماح الذكريات والصور التي تدفقت في عقلي تدفق السيول الجارفة. كنت اخاف ان افوت علي نفسي الفرصة ولا اصل بالحديث الى ما ابتغي البوح به امام السيدة هند. والسيدة هند تجيد الاصغاء الى الاخرين جيدا. فإنها تنظر اليك نظرة باسمة هادئة وتعطيك احساسا قويا بانها تعي كل كلمة تنطق بها وبانها تشعر بكل ذرة من الالم او الفرح المصاحبة لكل كلمة من كلامك.
قالت لي بعد استراحة:
- ولم تودعها قبل سفرك؟
قلت بحزن وأسف
- لم تقع عليها عيناي بعد ذلك اللقاء في مدخل البناية .
ثم أضفت بحدة:
- لكن الحق عليها هي. (تنهدتُ بحسرة) لم تشئ أن تصغي الي لا أعلم لماذا.
لم أعهد فيها العناد والتصلب. لكنها كانت مستعجلة على الزواج ككل البنات.
لم ترد تحمل المسؤولية ولم تفكر الا بنفسها.. لشد ما كانت قاسية وأنانية.
قالت السيدة هند معارضة :
- ربما لا هذا ولا ذاك. لا تحكم عليها مسبقا. أنت لم تعطها الفرصة الكافية
ربما كانت وافقت بعد مدة من الوقت.
ملت الى موافقتها قليلا. قلت:
- ربما. لكن الوقت حينها لم يكن في صفي. تعرفين. الحرب والظروف الصعبة. لقد حصلت على تأشيرة السفر بسرعة ضوئية وتم الحجز والسفر بسرعة أكبر بكثير.
بعد هنيهة صمت قلت:
- هل تعرفين انني سافرت من مطار دمشق؟ لكن سيدتي... أحيانا أشك في مدى حبها لي! هل تتصورين بأن شابة تحب شخصا حبا صادقا ومتفقة معه على الزواج.. تقوم...
توقفت عن الكلام وتنهدت بحرقة. تساءلت السيدة هند بلطف:
- ماذا فعلت.
- تزوجت! بعد شهرين فقط تزوجت برجل اخر. كان يكبرها بعدة أعوام. لكنه كان شابا على العموم.. قولي لي سيدة هند هل هذا دليل على حبها لي؟!
خيم علينا صمت ثقيل. أطلقت نظري عبر الشباك متمنيا الانفلات الى سحاب السماء. فأستحيل قطرة صافية تنصب في مياه المحيط..
قالت السيدة هند بحذر:
- حسنا.. لا أنا أعلم ولا أنت ظروفها في ذلك الوقت.
ثم أضافت عندما لم أجبها:
- لعلها كانت تحاول الهرب من ذكراك التي اصبحت تعذبها بعد رحيلك وانقطاع الاخبار عنك.. فقررت ان تنشغل بحياة جديدة او تتشاغل..
- الظروف! معك حق سيدة هند الظروف.. هي الظروف التي اطاحت بأحلامي وطمأنينتي. ومن يدري ربما لولا تلك الظروف القاسية نفسها لكنت انخدعت بها وعشت حياتي مع انسانة حبها لي ليس أبقى الا من بخار المياه الغالية..
قالت السيدة هند مستنتجة:
- وهذا الذي اصابك بالاحباط واقعد عزيمتك.-أقصد زواجها- فبقيت تتخبط في غربتك كل تلك السنوات الطوال.
قلت دون وعي مني تقريبا:
- لكن لا يزال ثمة أمل سيدة هند.
- طبعا طبعا.. الأمل دائما موجود ولا يأس مع الحياة.
- لا حقيقة.. هنالك أمل بأن تكون سلوى من نصيبي!
نظرت الي نظرت عدم فهم. فقلت لها:
- لقد تتطلقت من زوجها!
- حقا؟! متى؟
- منذ ثلاث سنوات!
-ثلاث سنوات؟! والان قررت العودة بعد ثلاث سنوات؟!
ألجم الصمت لساني. لكنني استطعت ان اقول لها برجاء وصدق:
- ظروفي في المهجر هي الظروف الوحيدة التي لا أرغب في ذكرها أمام احد! حتى أنني اتحاشى ذكرها في نفسي. واتمنى لو يسعني نسيانها الى الابد!
السيدة هند راقية كما قدرتها. وحساسة. أدركت مدى استيائي والاثر العميق الذي تسببه لي ذكرى تلك السنوات التي أفنيتها في المهجر. قالت لي بلطف بالغ:
- حسنا لا بأس. لكن...
صمتت قليلا. ثم قالت:
- لا أريد أن أنغص عليك تفاؤلك لكن..
فسارعت الى القول:
- لا لم تتزوج بعده أبدا.. أنا واثق من ذلك.
ابتسمت السيدة هند ابتسامة عريضة مليئة بالود وقالت بصدق لا شك فيه:
- اتمنى لك حظا سعيدا...
* * * * * * * * * * * * *
المصادفات أحيانا كالأحلام الذهبية النادرة. تجمعنا بأشخاص نتمنى لو نعيش معهم الدهر كله. فارقت السيدة هند في مطار بيروت. كانت تزور لبنان
لترى حاله بعد الحرب. ليست الحرب الأهلية.. بل حرب تموز 2006. كانت صور الحرب واخبارها تملئ شاشات التلفزة والصحف العالمية. وصداها وصل الى اقاصي المعمورة. الناس يلملمون أشلائهم بعد حرب طاحنة لا تعرف الرحمة. وأنا لا افترق عنهم كثيرا. عائد من غربة شاركت ماضيي في تمزيقي. وها أنا مستنير بنور أمل يلوح لي وهاجا مشرقا عند أعتاب سلوى.. سلوى التي تزوجت رجلا غيري.. لكنها لم تنجب منه اولادا.. وهاهي الان حرة طليقة بدون زوج بل إنها في نظري عذراء لم يمسسها مخلوق سواي. مازالت تحتفظ بقسط من شبابها ولا شك. جميلة جدا هي. وان قدر لنا الله سننجب ولدا او اثنين نورثهما إرث حبنا العظيم. ونحكي لهما حكاية عذابنا ومعاناتنا. كل آمالي وما تبقى من طاقة لي على الحلم والحياة معلقة بأهدابك يا سلوى.. حياتي ستكون معك ولا حياة لي من دونك..
هل أنت في شوق مثلي الى اللقاء؟
هل تحلمين بحياتنا القادمة؟
لا شك أنك ستفتحين لي ذراعيك وتدعينني الى الارتماء في حضنك الدافئ..
وتقولين لي بأن ما فاتنا من سنين عمرنا يمكننا تعويضه فيما هو آت من الأيام...
لن نفترق عن بعضنا أبدا بعد اليوم يا سلوى..
اليس كذلك..
سلوى..
أين أنت؟!
- تمت -