النقيضان

محمد صباح الحواصلي

النقيضان

محمد صباح الحواصلي

كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة

[email protected]

كانا يسيران معا على الطريق الزراعي كعهدهما دائما على الرغم من اختلافهما في العقيدة والرأي. وكان الوقت ضحى, والدرب يغري بالمسير والإفضاء بالمكنون, وهاهي ذي الأنسام التي كانت منذ أيام عذبة رقيقة تنسلخ عن عذوبتها مع حلول أول الخريف فيستعر فيها جنون التغيير, وتتوغل في ذؤابات الأشجار المظللة للطريق وكأنها عازمة على أن تسعِّرَ نار الفرقة في أغصانها المتواشجة.

كانا ينظران إلى الأقواسِ الخضراءَ فوقهما, والى خيوط شمس الخريف الواهية وهي تسعى جاهدة أن تتسلل إلى الطريق من خلال الثلمات التي أخذ اليباس يدب في نُسُغِها.

تنهد الأول وقال للثاني:

- "ما أخصب ذكريات هذا الطريق!"

هبت نسمة باردة مترعة بعبق خلائط أوراق شجر الجوز والصفصاف, وحملتهما إلى زمن يتباهى ببراءته. قال أحدهما:

- "ليت أيام الطفولة تعود."

- "كيف تعود وقد شقينا بعقولنا."

تنبهت نزعة الجدل في رأسيهما, واستفاقا من هدأةِ الوفاق التي تنتابهما من حين لآخر وكأنهما تذكرا حتمية صراعهما الطويل الذي لن يرأب صدعه. إلا أنهما سرعان ما استسلما لابتسامة راضية راغبة بالسلام, واستكانا للين بعد جماح. فقال الأول بصراحة غير معهودة:

- "أتدري أنني عاجز عن أن أهجر صحبتك. ولا أخفيك أنني بدأت أستعذب نمط حياتك التي كنت أنعتها بالإلحاد الفجور."

فقال الثاني بصراحة مماثلة:

- "وأنا أيضا لا أخفيك أنني الفت السكن إليك. حتى محرماتك التي قيدت بها حريتي بدأت أتغاضى عنها."

حينها قال الأول:

- "لولاك لسقطت في هاوية التطرف."

فقال الثاني:

- "وأنت مريح يا صاحبي. لو تدري كم أغبطك على ما تنعم به من يقين."

انقشعت الغيوم غير البادية فوق تلاحم الأشجار فانطلقت أشعة الشمس من أسرها ملتمسة منافذ لها من خلال ثلمات الأغصان. كان واضحا أن هذا الصباح الخريفي المتبدل الألوان حمل ما هو جديد في علاقتهما. حمل صراحة غير مألوفة تسللت من مكامنها في غياهب النفس المجهولة دون إرادة أحدهما لتفصح عن مكنونها.. لتصبح اعترافا مدمرا, صدقا يملك قوة الإلغاء.

كانت البداية إحساسا ملحا بالتصريح اعترى الثاني فعجز عن دفنه في سره حيا, فقال وهو ينظر إلى صاحبه بعينين ممتلئتين بخشوع غير مألوف.

- "تصور أنني كدت أرى الله في أحلامي."

بهت الأول, فما تناهى إلى سمعه لم يكن في حيز توقعه. غمر صاحبه بنظرة ملؤها الدهشة والرضا وقال له بصوت رخيم:

- "طوبى لك.. هذه رؤية صادقة قد اصطفاك الله بها.. انك على طريق العودة يا صاحبي."

قال الثاني وقد وضع يده على صدغه:

- "الله.. الحقيقة.. الأزل.. الأبد.. السماء التي لا نهاية لها.. كلها تساؤلات كبيرة حرت في البحث عن أجوبة شافية لها. عقلي لا يحتمل أن يكون هذا الكون قد وجد بالصدفة, كما أنه لا يقبل أن يكون له..."

فقاطعه الأول جزعا:

- "لا تكمل.. ابقِ دائما مساحة للصلح والعودة."

سكن الأول لحظات ثم تابع حائرا:

- "انه حال الإنسان, محكوم عليه بأن يشقى بعقله."

ثم استغرق في صمت حائر. شعر هو الآخر أنه راغب بأن يفيض. بأن يكاشف صاحبه بما يجيش في نفسه من خواطر خطيرة.

- "أنا أيضا يا أخي لم أسلم من هواجس الحيرة والشك. فكم من مرة ألفيت فكري يجمح دون قيد, ويسرح بعيدا عن يقيني كنعجة تائهة في البراري."

 

ما يزال الطريق بعد طويلا. بل لعله لن ينتهي. إذ أنهما لم يصدف مرة أن قصدا مكانا بعينه يجعلان منه هدفا لسيرهما الطويل. كانا يسيران للحوار, للوصول إلى الحقيقة من خلال اختلافهما في العقيدة والرأي. كل منهما يجزم أنه على صواب, ويرى أن وجوده قائما على صواب معتقده, وأن الحقيقة تثوي بالقرب منه وادعة كقطة أليفة. إلا أن أمرهما في هذا الصباح الخريفي قد اختلف اختلافا يكاد أن ينسفهما من جذورهما. اختلافا جعلهما ينطقان بما لم يكن في الحسبان, ويخرجان من دائرتي معتقدهما. صحيح أنه سرعان ما عاد كل منهما إلى دائرته ولكن بعدما حطم بوابتها المغلقة المقدسة. لذا لم يكن مصادفة أن حمل كل منهما في نفسه أمنية مماثلة لأمنية الآخر وهي لو أن العالم كان شيئا لا يقين فيه ولاشك. لو كانت الحقيقة أشد عيانا وبساطة من عصفور يغرد على شجرة.

فكر الأول قليلا فوجد أن مثل هذا التفكير يسلم الإنسان إلى التهلكة, ويسدل على اليقين حجابا, ويند عنه الصواب. ثم قال:

- "لقد أراد الله لنا هذا الشقاء."

وأردف الثاني قائلا:

- "لنكف عن هذا الحوار."

أقره الأول:

- "فعلا ليتنا نكف عنه."

يمسك أحدهما يد الآخر. كلتاهما حارتان يسري في عروقهما دف الحياة. الحياة بشكها ويقينها, بخيرها وشرها, بظلامها ونورها, بجمالها وقبحها, بضعفها وقوتها. كانت كلتا اليدين تنبضان نبضات متوحدة تدب الحياة في نقيضين جابا آفاق اليقين بقوة وثبات, وتاها في بيداء الشك بضعف وحيرة.

الدرب ما يزال يغري بالمسير, والأنسام الخريفية يشتد توغلها في ذؤابات الأشجار المتعانقة. كانا قد غابا في سيرهما حتى أصبحا شبحين, وكان صوتهما يضعف مع البعد حتى أمسى همهمة لا تختلف عن أصوات الطبيعة من حولهما.

كان الرائع أنهما كلما غابا في البعد كلما أقترب شبحاهما من بعضهما, حتى تطابق الشبحان وبات من العسير أن تفرق بينهما..

وذابا معا في طيف إنسان واحد من نور وتراب.