عندما تنطق الأطفال
ودارت الأيام
أحمد صرصور
على سلم محكمة الصلح , لمحت مسنا يجهش بالبكاء, بحرقة لا تفرز دموعا .اخذتني الرأفة به والشفقة عليه .اقتربت منه, يتملكني حب الاستطلاع والفضول ,وقلت له مواسيا :هون عليك يا عم . وحد الله , وصلي على النبي الكريم . فما من مشكلة الا ولها الف حل , ومن من مصيبة تخلو النفس فهي تهون . واصبر فان الصبر مفتاح الفرج.
جعلت هذه المقدمة, مدخلا للاطلاع على اسباب بكاء هذا الكهل المسكين. اخذت بيده وصحبته زحفا, الى كفتيريا, تواجدت بالقرب من باب المحكمة. طلبت كوبين من الشاي لنا, استمر في ترديد عبارات التحسر. وانا اجامله , في ترديد عبارات متكررة في المواساة, للتخفيف عنه . وكلي شغف لسماع حكايته التي ادت به الى حالة الحزن والبكاء.
رشف رشفة من كوب الشاي , فكانت بمثابة الضوء الاخضر للبدء في سرد قصته . تنهد بعمق وقال: كل المصائب تهون امام مصيبتي , ويمكن ان يكون لها حل, او فيها العزاء . لكن بلوتي استنفذت كل الحلول, بدون ان يلائمها احدها . فالذي اريد ان تعلمه, قبل ان تعلم حكايتي , بانني كنت من اثرى اثرياء المنطقة, من حيث ملكية العقارات , المزارع, البيارات والعمارات . علاوة على ما كنزته من ارصدة في البنوك, بكل العملات .
علا مؤشر حياتي في السن, وتقدمت في العمر. فاشارت علي زوجتي العجوز , ان اوزع ثروتي واملاكي, في حياتي , على اولادي الستة, خوفا من وقوع خلاف بينهم بعد موتي .
لا ادري اين كان عقلي , عندما استجبت لطلبها. جمعت اولادي الستة , واوكلت لهم تقسيم الاملاك فيما بينهم وبتراض ٍ . عادو بعد اسبوع , ليعلموني بتوصلهم لاتفاق مقبول عليهم . حضروا وفي جعبتهم, اتفاقيات موقعة على يد وكيل المحكمة , لا ينقصها الا توقيعي . ولم ابخل عليهم به .
لم يمض وقت طويل , واذا بالقدر يختار زوجتي , ليرفعها الى الرفيق الاعلى . ذهبت وتركتني اصارع الوحدة , وسكون الليل الطويل , اعد ساعاته بالثواني, بلا انيس ولا ونيس . ضاقت علي الارض بما رحبت , تمنيت اللحاق بها . ولم يسعفني ما لاقيته من خدمة, واحترام من قبل اولادي , وزوجاتهم. وفروا لي المأكل , والمشرب, النظافة والراحة. لكن هذا لم يطرد الوحدة من بين جنبات بيتي , التي اصرت على مضايقتي , وخصوصا , عندما اغلق عليّ بابي لانفرد داخل نفسي , فينتابني شعور قاتل بالوحدة, والحزن الشديد لفراق زوجتي , التي ملأت علي حياتي .
هذا الشعور, دفعني للتفكير بالزواج ,. عاتبني ابنائي , معللين ذلك بعدم تقصيرهم في واجباتهم اتجاهي.
تحت وطأت الالحاح الشديد , وما كان يعتريهم من الاحترام لابيهم, وطلبي المسبق من ابي فلان بالزواج من ابنته , وافقوا على امتعاض ,
تم الزواج , وثلجت نفسي, وانفردت اساريري ,وطاب خاطري, وملأت الفراغ , فبعثت فيّ الحياة من جديد .
مضت الايام, والليالي مليئة بالسعادة . لتتوجها, الفرحة الكبرى, بقدوم الابن السابع. وفي غمار الفرحة , حزبني امر هام . من حق هذا المولود, نصيبا في قسمة الاموال, وبالتساوي مع اخوته الستة.
جمعت اولادي, لاخبارهم بما جد من جديد , وما يجول في خاطري, من اعادة القسمة . هبوا في وجهي, وكان افعي لسعتهم . وقالوا لي بالحرف الواحد : ما كان كان, ولن يعود الزمان, وعقارب الساعة لا تنظر الى الخلف .
رفضوا الفكرة باستهزاء , وخرجوا من بيتي, غير آبهين لطلبي .
انفردت بطفلي الرضيع , اداعبه . نظرت اليه بتمعن , واذا بي ,وكأني.... اسمعه ينطق ويقول :لا عليك يا ابتي , لا تحزن , ولا تأسف ,على ماسمعته من اخوتي . فانا لا اريد مال حرام .
صحت بزوجتي ,التي كانت على مقربة مني قائلا : اما سمعت ما قاله صغيرنا يا ام خالد ؟
قالت : وماذا قال؟
قلت : الم تسمعي بما نطق !!!! قال انه لا يريد اموال حرام !!!!!
قالت زوجتي : سلامة عقلك يا حاج . اجرى لعقلك مكروه ؟ كيف ينطق من كان طفلا رضيعا ؟
لكني تفاديت كلام زوجتي, لاغوص في اعماق افكاري , وتحليل ما سمعته من ابني السابع .
نعم ....... استرجعت شريط حياتي , وبدأت اتذكر, كيف جمعت هذه الاموال . انها فعلا كانت اموال حرام , جمعتها بالغش, والنصب , والاحتيال , لم اراعي وجود الله فيها . ولم يكن للفقراء نصيبا فيها . الهتني عن صلاتي وعبادتي. فلم اكن من المصلين . وانستني ساعة مماتي . يا الله اني اعلن توبتي امامك, على يد هذا الطفل المبارك . لك الشكر يا الله, على ان رزقتني بمولود, يحذرني من عذاب النار .
عقدت العزم, على ان لا يغفل لي جفن, قبل ان ارد هذه الاموال لذويها . والتصدق , بكل ما ملك على الفقراء والمساكين , علني اعتق رقبتي من النار .
سبقني ابنائي, الى تقديم طلب الحجر عليّ في المحكمة, تحت حجة اني كبري في السن , اودى بعقلي , واني اريد توزيع اموالي, على من هب ودب . حكم لهم القاضي بذلك . وها انا اجلس , واندب حظي, على ما فرطت به من اجل ابنائي , فخسرت الابناء, والدنيا, والآخرة .
ارأيت اعظم من هذه المصيبة التي لا حل لها؟
قلت له : يا عم , رحمة الله واسعة, وعفوه كبير. الم تسمع بقول الله تعالى :
"قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم ,لا تقنطوا من رحمة الله . ان الله يغفر الذنوب جميعا , وهو الغفور الرحيم ." صدق الله العظيم
لقد استيقظ ضميرك, وانبت الى الله ,قبل ان تموت . وعملت ما في وسعك لاحقاق الحق , فلم تستطع , فارم بحملك على الله العزيز , فان شاء غفر لك ورحمك . عد الى الى زوجتك, وابنك, واعمل جهدك في اطعامهم, الرزق الحلال , وتب الى الله عن عصيانه , واقنع بما كتب لك , وصلي له تجده بقربك.
هذه القصة فيها الكثير من العبر, تركت للقاريء استنباطها , والاخذ باحسنها , وعدم الوقوع في سيئاتها.