وضاح .... النسر
يوسف حامد أبو صعيليك
"جدار الوهم ليس له حدود ؛ وإغراق النفس في الأحلام يقودك إلى جنون الأوهام التي تزداد سماكة جدرها الصلبة ، كلما أوغلت في البحث عن طريقة للخلاص لعنتها أيها السجين ".
هكذا قالوا لك عندما غادرت القرية باحثاً عن الحلم ...... حلمك ، هكذا زعموا .... أرادوا أن يرضعوك حليب الخوف منذ الصغر ، هذا ما جادت به قرائحهم ليعلموك إياه ! ، إذن فلأنطلق بعيداً تاركاً لهم ذلك الوهم ليقتطعوا منه قوت عيالهم .
- أيها المجنون .... محيطك جفاف وعطش ، وخليجك شواطئ ساكنة ليس لها مد أو جزر ، فلا تلوع قلب أم وضاح .
قال القلب الملتاع :
- لا تتركني فريسة لشوقي إليك .
- والظمأ ؟.
- كلنا يعاني من الظمأ .
- كلكم لا تريدون البحث عن الماء .
- عندما ضربنا الأقداح نهتنا عن البحث عن الماء ............ وهكذا قالت لنا الأزلام .
- لكنها رجس من عمل الشيطان ؟!.
- هذا ما ورثناه عن آبائنا .
- إنما نهتكم عن ذلك لأن فيه فقدان لهيبتها أمامكم .
- أعرف ولكن ............. لا خلاص .
- أي جبن رضعتموه ؟.
صرخت :
- لقد لعب شيخ الجامع في رأسك وزرع فيه تلك الأوهام قبل أن يلقى حتفه تحت أقدام أهل القرية .
- ما هو إلا حبيبٌ النجار .
- ما أنت إلا عاق ستجلب الشقاء لأمك .
- وداعاً أيتها الشقية بولدك .
وذهب الفتى وضاح ممتطياً ظهر همام .
بالرغم من تبدل النظريات وانقلابها رأساً على عقب إلا أن الصحراء ما زالت تحتفظ بهيبتها ووقارها بعدما تنازلت عن واحاتها جميعها .
عطش الصحراء يزداد كلما أوغلت في العمق .
- وأعماقها ؟.
- مياهها سرقها اللصوص ،.. . أو سحبتها الأنابيب الغريبة .
يزداد لهاث وضاح في الصحراء كلما ازدادت خطوات حصانه الظمآن همام سرعة ، وكلما جاءه صوت أمه القادم من بعيد :
- الآلهة ستغضب يا ولدي .
- الآلهة نشرت الجوع يا أمي .
- أقسمت بأنك لو ذهبت لن تعود إلا ........ إلا
ووضعت كفها على فمها وصمتت رعباً .
- إلا ماذا أيتها العجوز ؟.
- إلا محمولاً في ....... في .... نعش .
تحول وجهها إلى بقعة سوداء ، وبقايا عظام غطاها الجلد باستحياء عندما نطقت كلمتها الأخيرة .
- لا تخافي أيتها الأعرابية ...... سوف أعود .
الخوف يقطع أوصالك ، إنك لتعرف أنك لن تعود أبداً ، كما قالت أمك الأعرابية .
الحصان لم يعد يقوى على الصهيل لشدة عطشه ، تناول الفتى قربة الماء الفارغة ، ووضعها في فم همام ، لفظها الحصان بحزن ، فألقاها وضاح فوق الرمال.
أشعة الشمس سهام تنغرس في اللحم الأسمر ، سهام حامية ، والوجع يزداد انتشاراً في الجسد الغض .
أظل وضاح وجهه بكفه اتقاءاً لأشعة الشمس :
- ما أقوى أشعتك يا شمس الصحراء .
" إرم ذات العماد " بادية ملامحها في الأفق ، بريقها يكاد يخطف الأبصار ، أخذت تقترب شيئاً فشيئاً.
- أي أسطورة هذه الحياة ، أسطورة أنت يا شمس الصحراء .
من بعيد ...... وراء الأفق تظهر صورة الأعرابية ......... أمه :
- لن تصنع بذهابك الأساطير ............. فعد إلى حضني .
- الحضن الدافئ والعطش لا يجتمعان .
- سألقمك ثديي
- أولا تدرين أيتها الأعرابية أنه قد جف منذ أمد بعيد ......... الجفاف والقحط سرقا مني نشوة الفوز بحليبك يا أمي .
أخذت الكثبان تنمو شيئاً فشيئاً ، .... جعلت صورة العجوز أمه وقصور إرم خلفها ، الكثبان البيضاء غطت الأفق .
كثبان الملح تزداد مساحتها وتتسع .
- وجدران الوهم تزداد صلابتها .
- لست واهماً .
قام الفضاء الواسع بابتلاع الصرخة .
صهل الحصان صهيله الأخير ، وارتمى في حضن الرمال ، بكى وضاح وهو يقبله :
- لمن تتركني يا همام ................ لا أحد يؤمن بما أومن به سواك ؟.
رفع الحصان رأسه ، ثم عاد وأسلمه للرمال بعدما لفظ أنفاسه الأخيرة ، بكى وضاح :
- ما بك تركتني وحيداً أصارع كثبان الملح ؟.
نظر إلى الكثبان ...... كانت قد تحولت إلى جبال ظلت تبتعد في الصحراء حتى تحولت إلى نقطة ملحية بيضاء .
- تركتني أصارع العطش وحدي يا همام ؟.
تحول همام إلى قطعة جليد وسط حر الصحراء ، ذاب همام في الصحراء ، وذابت الصحراء حتى امتزجت رمالها بدم همام .... وغاص جسد همام في رمالها .
وقف الفتى تحاصره الرمال وحيداً بعدما غاب همام ، التبست عليه الدروب فلا اتجاه يرى ولا طريق.
عند نقطة التقاء الشمس بالأفق الغربي ، أبصر الفتى قصوراً تعانق السماء ، يحيط بها سور عظيم ليس له حدود، أخذ الفتى يجري محاولاً الوصول إليها ، لكنها كانت الأسرع ، كلما ازدادت سرعة الفتى ازداد السور ابتعاداً .
وقف يلهث
- لقد أخبرك المعلم بذلك قبل أن يموت :
إياك أن تجري خلفها
لن تستطيع اللحاق بها
لن تستطيع الوصول إليها
إنها مدن السراب يا ولدي .
- الملح يحاصرني ؟.
قال المعلم :
مدن السراب تقطنها الأفاعي
ليس هناك من ساكن آخر فيها سوى الأفاعي
سورها هو الوهم العظيم .
- العطش يسلبني قوتي ؟.
قال المعلم :
كثبان الملح صارت جبالاً
وجبال الملح سدت الأفق
مدن السراب يسكنها العطش
والعطش يمزق الأعماق
والأعماق مسكونة بالخوف
- الماء مفقود ؟.
قال المعلم :
الخليج تغمره المياه
والمحيط تمطره السحب
......................؟.
سقط الفتى على الأرض ، وغطته أكوام الملح .
النسر الذي يطير في سماء القرية كل يوم ؛ ليحط فوق مداخلها ؛ محدقاً في وجوه أهلها ،
قالوا أن هذا النسر ................
يدعى وضاحاً .