شاء القدر

ليندة كامل /الجزائر جويلية

[email protected]

جاس  المكان بقدمه  ،وهو يتكبد عناء أحلامه الوردية ينطوي عليها، يلملمها مثل بقيا جوهرة أسقطتها المعانات فراحت هباء منثورة .

يحتجب عن الأنظار، يخفي أشياء لا يرغب بأحد أن يطلع عليها ،اختلى تحت ظل شحيح لم ينعم بغيره في مكان تعود  الانزواء إليه كلما ضاقت به السبل ،وأسرته الغمة في خندق من الاحباطات اليومية التي لا تعد ولا تحصى  .

اسند ظهره المحدودب بجدع شجرة شارفت على الانقضاء ، في مكان موحش وسط أحراش يابسة خاليا تماما من وطأ الأقدام، وتتبع الأعين فلا تسمع سوى طنين ذباب ينسج مألوفا يتناغم مع لسعات الشمس الحارقة  ، رائحة الاحتراق تحضن المكان تدغدغ الأنوف ، لا احد استطاع المكوث فيه ،  وحده من ستجرأ لم يخشى في نفسه خروج أفعى لادغة تسمم بدنه ،أو حيوانا ضالا مفترسا ينقض عليه أو

 ماردا جن من القهر أراد إفزاع احدهم فأرعبه .

هي الرغبة من ألحت عليه ،وحركته مثل دمية مسلوبة الإرادة ،ودفعته دون سابق تفكير وأصرت عليه ملحة بالانزواء في ظهيرة صيف جنت لهيبا وأخصبت صمتا سيقت الناس إلى القيلولة. لتجديد الرشاقة والحيوية وتصفي الدهن من متاعب نهار ممدود على طريق من الأمل المتبخر في مستقبل صبحه شبيه بليله . مضحيا  هو بها .

لعله  يسعى جاهدا ليحمي نفسه من حرقة تحاصره من كل حدب ،فلولا تلك الشجرة العز باء ،وظلها الشحيح لكان فريسة لضربة شمس قد ترقده أياما بلياليها على فراش  السقم أو تعصر جسده إلى قطرات من العرق تتطاير في الأرجاء ،و أبى أن يكون هناك تحت ظلها انيسا لها  مروحا بأنفاسها ولو لساعات

مرهف الحس طيب القلب هذا ما تداولاته الألسنة فلا يمر بأحدهم إلا بادره التحية ، اسمر اللون ..طويل القد بشوش الطلة يافع البنيان منزوي في لحظات الجنون. هاجس الانطواء يحرك وشاح الرغبات التي لا تحضي بكمالها المنشود سوى في مثل هذه الأمكنة أ قل ما يقال عنها رهيبة تثير الإبهام  ،وتزرع الهيبة في نفوس الضعفاء هاويا للمغامرة ولو على حساب روحه حرا في منطقه ينسلخ عنه كشرنقة ، يسترسل في أحلامه بعيدا عن القيود  ،والارتباطات فيرتمي بين أحضان الملذات والمسرات تستهويه نشوتها ويطمع لبلوغها كمالها المأثور وكمالها خروجا عن المألوف أو انحدارا عنه.

يبادلني التحية في كل لقاء يجمعني به على محمل الصدفة  ، فشدتني إليه تلك العفوية المستبينة في حركاته وتصرفاته ، تحس حقا بحب ينبض بين جوانحه يعبر عنه بعفوية وطلاقة دون دراسة أو تخطيط ينفرد بلباسه المائل إلى الصحية الغربية البعيدة تماما عن التعريب حتى الأفكار التي كان يحملها فوق رأسه لم تنجو من التغير .

لقد إستفردت به الحداثة الراكنة في تعقب الطلات في آخر الصيحات .

صدفة وجدته منفردا حاملا بين يديه كيسا ؟

يتكبد الآمال والأماني في عيش راضية ، وفي مستقبل مشرق وسعيد في  صمت يلف دواخله تعود على كبتها تماما مثل أتراباءه  أو يسعى جاهدا لدفنها في مقبرة النسيان الجاحد ليحكم قفلها فلا يراها حتى في الأحلام .

طاردتني فكرة إلقاء التحية عليه كحشرة سليطة ترددت بهاجس جلسته الخلوية وأجمعت قويا المتناثرة عناء حر  الصيف كمتحدية لشمس بحروقها ومستكشفة عن الحقائق المركونة وراء الجهل بها .وقلبيي يخفق خوفا لعله في حالة من السكر تدفعه لتهجم عليا  ،أو عله في حالة من اليأس العارم فيرى فيا الزمان الجاحد الظالم والمظلم والأيام العبوس يمزقني  مثل ورقة تتطاير أدراج الرياح . وكلص يتحاشى الأنظار تقدمت نحوه.... بعد تردد ..وصراع مرير مع نفسي ... بدا لي 

مقرفصا يدوح رأسه في الهواء يدخله في قلب الكيس مرة ، ويخرجه مرة أخرى مثل سمكة تتخبط حين تقع غرة في أيدي صنارة صيد ضائقا من هواء الدنيا العليل لم يجنى منه سوى أحلاما تذوب عند إستشعار المعانات والبطالة  مستنجدا بهواء الكيس القليل عله يحضا بآمال وأحلام أخرى  .

لقيته   يلف سيجارة بعد ما فرغ من استنشاق هواء الكيس  ... بعناية ومهارة و لهفة التلاقي مع محبوب غائب من سنين قد ولع به حبا حتى ثملت أنفاسه فكان الأنيس الذي يؤنسه في الضيق و سلة تحمل أشجانه ، وتوسع عليه مساحات صدره المغموم ، أشعلها بخفة ... لتتوارى عند حافة الشوق ضمها بين أنامله المرتجفة المتلهفة ،وكله يخفق لتقبيلها وضمها إلى شفتيه  المنسالة .انطوى عليها كحسناء هيت لك فلا حواجز  ،  ولا عقبات انطلق بها  سارحا في كل الجهات بائعا لكل لحظة يأس وإحباط  يضحك بلا توقف ويرقص بلا حدود... وبلا حواجز... ويرى نفسه وكل المحاطين به يحلقون في الفضاء دون  أجنحة ،والأشياء تتطاير وتتراقص  من حوله بدت له صورا مفعمة بالسرور .الكل يقف في صراط معوج وحده من يملك صولجانا سحريا يمزق أغلفة الانهزام والانكسار بهفة واحدة  ليجد أحلامه ماثلة منتصبة راكعة أمامه .....إنه الجنون  بعينه.....

 كانت صدمة قوية إعتصر قلبي لها   حزنا ودمعت عيني حصرة  من الحال التي آلا إليها وضع شباب

حاصر طاقته ونحرها بسكين مشتعل  يحرق ذاته في كل شعلة .هاربا من واقعه الرهيب  ،وحوط ذاته في مقولة  أن لا حول له ولا قوة غير اللجوء إلى مثل هذه المحظورات . خجل من نفسه عندما خطفته متلبسا وخاف أن افضح أمره واكشف سره وقد فاض بى  القهر من قلة حيلتي فلم اتجرا على مواجهته لأجعله يعترف بذنبه عله يعزف عن فعله ويعلن التمرد عليها وعلى أهواءه التي لا تقود سوى للهاوية كنت أحس بتأنيب ضمير يمزق دواخلي  ،وبحزن عارم يعشعش في حنيا قلبي ..أتهرب من ذاك الإحساس المنقض على تفكيري فلا يرحمني لحظة مثل شبح يطارد ني في أحلامي ويحظر آمالى السعيدة ويعكر صفو الأيام  ويحظ عليا بقلق مستديم . ما كان مني سوى أن أضع حدا لهذا الضمير وخزه ألا متناهي  كلما لمحته .

ما كان مني سوى أن العب دور أم حانية يتقطع قلبها مما تراه في اعوجاج فلذة كبدها ورحت إليه طارقة خفياه   .... مزيحة عن لقائنا كل برتوكول قد يكون بين الراعي والرعية وكشفت عن سجاياه

في جلسة حميمية أظهرت له أي نوع من الاعوجاج يستميله وطوقته بحبل طويل من العتاب مبينة له الحقيقة والكذبة الخرافية التي يسكن بها إرادته المحجوزة تماما كالأسير وراء قضبان العصيان والتمرد 

 الكلام كان ينبض من قلب يعتصر وجعا وقد وصل إلي قلب يخفق إهمالا ولا مبالاة ... كنت اعتصر ضغينة.. مما رأيته في بداية اللقاء ... وكأنه غير مذنب بل ضحية  لتعسف القدر وتجاهله...وأخير بعد مد وجزر   أشعرته  ... بحجم قلقي    وخوفي مما هو مقدم عليه.. ومن الويل الذي سيرمي حاله إليه  شعر أخيرا... بالخطر المحدق به ... ووعدني ..وعد رجال شرفاء أن يترك عالمه المحفوف بالعصيان وان يخرج من العتمة  منتصرا على كل ما هو خبيث ...

راح  لأول مرة وهو يشعر بخفة في صدره وراحة بال تسكن فؤاده.. لأول مرة اخرج كل كبوة أخفاها عن روحه وتنفس الصعداء وتنفست وأيقنت حقا أن كلامي قد وصله بعد جهد جهيد ....ورحت والسعادة تدنوا مني والفرحة تطاردني وشبح اللوم والعتاب يغادرني....

ولم يمضي على لقائي به أياما معدودة حتى جاءني نبأ  وفاته رفقة أصدقاءه في حادث مرور رهيب ...قيل الكثير فيه ... فقلت لنفسي اعزيها  لا نشاء إلا ما شاء القدر .