كي تصبح رجلاً
رنا سليمان
كانت الساعة العاشرة صباحاً عندما طُرق باب المنزل , خرج شاب في مقتبل العمر , ليفتح الباب
الطارق : أين محمود ......؟
أجاب الشاب : أنا محمود ... ؟؟!!
فسلمه ورقة وطلب منه التوقيع , دخل محمود بخطى ثقيلة وقد ملأه الهم الذي كان ظاهراً لكل من ينظر إلى وجهه , بدأ يجوب المنزل شارد الفكر ووالداه يتأملانه دون أن يتكلما , تنحنح والده صاحب الملامح القاسية قاصداً جلب انتباه ولده , ثم قال سائلاً : من كان عند الباب ؟
أجابه : شرطي سلمني تبليغاً وطلب مني التوقيع .
قاطعت الأم حديثهما لتسأله باستغراب : تبليغ ؟؟ تبليغ ماذا ؟؟!!
أجاب : تبليغ الخدمة العسكرية , وما إن نطقها حتى شعر كل أفراد العائلة بالتغير الذي سيحدث وإن لم يكونوا مدركين لحقيقة الوضع الذي سيعيشونه وبخاصة الشاب الذي لم يكمل الثامنة عشرة من عمره.
بعد أيام ذهب محمود لاستلام دفتر الخدمة العسكرية,كان قلبه يخفق بشدة , ويشعر بتوتر كبير , كانت يداه ترتجفان , إلى أن وصل إلى دائرة التجنيد , وقف كثيراً يتأمل ما حوله ويبحث عن المكتب المختص بمنطقته .
بعد عثوره على المكتب دخل ليجد أمامه موَظَفَين يستقبلانه بابتسامة صفراء ، أخبرهما أنه يريد استلام دفتر الخدمة . ناداه أحدهما إلى مكتبه وأخرج الأوراق المطلوبة فيما قال له الآخر : أعطيه الإكرامية مشان تخلص بسرعة .
نظر محمود إليه بنظرات الاستغراب .... فعرف أنه لم يفهم المقصود .
عاد وقال له ( 2كيلو سكر مع علبتين سجائر وعلبة مته ) لن يضروك
فما كان منه إلا أن هز رأسه وخرج لشراء الأغراض.
عاد إليهم وهو يحمل ما طلبوه لينهي إجراءات استلام الدفتر ............
وبعد مرور عدة أشهر من القلق والتوتر والخوف من مجهول لم يدر كيف سيكون خرج في الصباح الباكر بعد توديع الأهل بدموع ملؤها القلق والترقب, لأنه كان يعلم أنه إذا خرج فلا يدري متى سيتمكن من الاتصال بأهله ,خرج من باب المنزل ودموعه على خديه لم يستطع إخفائها , مشى وهو يتأمل أبواب منازل الجيران وينظر إلى الشجيرات المزروعة في طرف حارته . ودع كل شيء وكأنه لن يرى هذه الجدران والأرصفة مرة أخرى , وضع حقائبه ونظر نظرة شاملة على منزله ثم أخرج منديلاً من جيبه مسح به دموعه , ثم رفع يده طالباً وقوف التاكسي .
وصل إلى مركز انطلاق حافلات ( الهوب هوب ) نسي حزنه وولهه بسبب ما رآه من زحمة الشبان الواقفين , ركب هو ومجموعة كبيرة من المجندين بعد أن نقد المعاون ثمن الرحلة,جلس بالقرب من النافذة , عاد للتفكير بأهله , ولكنه كان يشعر بهدوء نفسي لم يدر ما سببه , كان يشعر بأن عذابه لن يطول , وبينما هو شارد الذهن , سمع صوتاً مخنوقاً لا يكاد يسمع يقول له : هل تعلم أننا لن نرى أمهاتنا طوال فترة الدورة ولن نستطيع الاتصال بهم .
صمت لأنه لم يستطع الكلام , شعر بالقلق يعود إليه , بدأ صدره يمتلأ بآهات مكتومة لم يستطع إخراجها .
ما إن وصل محمود إلى المكان الذي سيقضي به دورته , حتى شعر أن المعاملة قد اختلفت , شعر بوجوه تملؤها القسوة , نظرات غير آبهة بأي شيء سيحصل , كان محمود يتأمل تلك الوجوه إلى أن أوقف تأمله تلقيه ضربة لم يدر مصدرها .
كان بعض الرقباء يصرخون بهم طالبين منهم الدخول إلى إحدى الغرف وإخراج أي أدوات المعدنية أو حادة معهم , وبدأوا بفرزهم إلى مجموعات , كان محمود يعيش في مرحلة المراقبة والصمت , سمع محمود صوتاً يأمره باللحاق بأحد الرقباء , كان كالتائه الذي يخاف أن يبادر بأي حركة كي لا تكون سبباً في ضربه , وكان حريصاً أن يقف دائماً في وسط المجموعة خوفاً من أن يكون في متناول يد أحد الرقباء . بدأ يشعر بالذل والإهانة ,لكنه مشى مع باقي زملائه وراء الرقيب إلى أن وصلوا إلى ساحة كبيرة , فصرخ بهم الرقيب طالباً الجري وعدم التوقف , ركض محمود إلى أن قطعت أنفاسه من شدة التعب , وكان كل ما يتمناه في هذه اللحظة الجلوس, وبعد فترة من الجري المتواصل , طلب منهم الرقيب الجلوس في إحدى زوايا الساحة , وطال جلوسهم لبضع ساعات .
عاد إليهم الرقيب ذاته ليأمرهم بالدخول إلى قاعة الطعام , شعر محمود بأنه لا رغبة لديه بالطعام ولكنه كان عبداً مأموراً , نزل محمود بكل حذر , جلس على إحدى الطاولات الحديدية القديمة الصدأة , وبدأ يراقب , كانت مجموعة كبيرة من المجندين يجتمعون في هذه القاعة , نظر محمود إلى الطاولة أمامه فوجد أن العشاء عبارة عن فول مسلوق وخبز لم يستطع حتى النظر إلى الطعام , حتى سمع أحد الرقباء يقول : إذا لم تأكلوا كل الطعام فسوف تستحمون بما تبقى ......
أمسك محمود بالخبز وبدأ يأكل وهو يشعر بالإقياء بعد كل لقمة يأكلها, وبعد الانتهاء من الطعام خرج مع رفاقه , كان لديه شعور كبير بأنه لن يبقى كثيراً في هذا العذاب , مشى وراء الرقيب الذي يقودهم إلى مهاجعهم , ولكن الرقيب فكر بقليل من التسلية قبل النوم فأخذهم إلى ساحة أخرى مليئة بالآليات , كان في إحدى زوايا الساحة بقعة من المازوت وبقايا زيوت الآليات وخلافه ( الجاموقه ) صرخ بهم طالباً منهم التدحرج عليها والسباحة فيها , كان محمود يسمع كثيراً عما يتعرض له المجند من الإهانة والظلم , ولكنه الآن أصبح يعيشه , لقد كره نفسه , كره رائحته , كره كل شيء بدأ يصبِّر نفسه , كان عليه أن يعتاد على ذلك أن يصبح كالجدار بلا أحاسيس ,ذهب بعدها للنوم وهو خائف أن يغمض عينيه , فكر كثيراً , بدأ يحدث نفسه : هل كل ذلك من أجل أن يصبحوا رجالاً أشداء , أبطالاً يستطيعون تحرير أرضهم المحتلة , وهل عليه أن يتعرض لكل هذا الذل والظلم والمهانة حتى يصبح بطلاً أو رجلاً كما يقولون ...........
هده التفكير فأغمض عينيه لينام , كانت هذه البداية كافية لأن يعرف ما ينتظره في الأيام القادمة .
مضت الأيام ونسي محمود أنه من الأحياء , كانت نفسه مكسورة , وصدره مهموم , لقد منعوا عنه كل وسائل الاتصال , ولكنه كان يجاهد ليحصل على فرصة يكلم فيها أمه وأباه , وسنحت له هذه الفرصة حين دخل إلى مكتب أحد الضباط بالاتفاق مع شاب آخر كان يراقب له الممرات في الخارج , دخل وفرحته تسبقه , نظر إلى الهاتف وأمسك بالسماعة بيده المرتجفة من شدة التوتر والفرح , طلب منزله , فجأة سمع صوت والده , لقد بكى قبل أن يرد عليه , سمع الوالد صوت البكاء , فقال : محمود ؟!
قال : نعم , أنا محمود اشتقت لكم
قال الوالد بصوت مخنوق من شدة الفرح : العنوان
فأعطاه محمود العنوان .
شعر الوالدان بسعادة كبيرة , خرجا ليريا ابنهما, كان يجلس منتظراً أن يُطلب للزيارة , وما إن فتح الباب حتى شعر بسعادة كبيرة وازدادت سعادته عندما نادوا باسمه دخل إلى قاعة الزيارة مستعجلاً , وما إن رآهم حتى عاد له الأمل من جديد , ولم يستطع التحكم بمشاعره , أجهش بالبكاء نظر إلى وجه أبيه فرأى في ملامحه القاسية , قدراً كبيراً من الحنان , لم يره من قبل , نظر إلى والدته , يا الله إنها المرة الأولى التي يرى فيها هذا النور الذي يضيء وجهها , جلس يتكلم معهم , كان يمسك يد والده بإحدى يديه , وبالأخرى كان يمسك يد والدته , مرَّ وقت الزيارة سريعاً .
عاد إلى مهجعه واستلقى على فراشه , لقد رحلوا ورحل معهم أمله من جديد , لقد عاد إلى القبر........ عاد إلى العذاب .
وفي اليوم التالي سمع عن مشكلة الأكراد ومطالبتهم بدولة مستقلة , ولكنه لم يدر أن هذه المشكلة ستنعكس عليهم , إلى أن دخل الرقيب و هو غاضب وصرخ بهم بالإيعاز العسكري : عاري الصدر ... بالشورت ......إلى الساحة .
كانت ليلة ماطرة باردة , خرجوا ليجلسوا جاثين على ركبهم مغمضي الأعين تحت المطر, كان محمود يسمع بين فترة وأخرى صوت كبل من النحاس يشق الهواء ليقع على ظهر أحد المجندين , وفي إحدى المرات فتح محمود عينه ليرى ماذا يحدث , وإذا بكبل النحاس يهوي على رأسه وظهره ......... لحظات وإذا بجسد محمود يتهاوى أرضاً ليختلط دمه الساخن بحبات المطر الباردة , فتح عينيه وألقى نظرته الأخيرة على دمه السائل المختلط بمياه الأمطار , تمنى لو أن هذا الدم سال على أرض المعركة , معركة تحرير أرضه المحتلة , ثم أحس براحة كبيرة وبدأ يشعر أن عذابه الدنيوي سينتهي , نظر إلى السماء وأغمض عينيه , صرخ به الرقيب يأمره بالنهوض ... لم يستجب ... مشى إليه الرقيب بخطى بطيئة وضربه بقدمه عدة ضربات إلى أن اكتشف أنه قد مات .
لقد مات محمود بعد أن عرف المرحلة التي يمر بها كل شاب في وطنه , لقد عرف القسوة والذل والعذاب والجوع والحرمان على أصولهم , إنها الخدمة العسكرية التي يقضيها الشاب ليصبح رجلاً ( على حد قولهم ) .