عاد أبي فرافقني
عادل العابر - الأحواز
غسلت وجهه عندما أفاق من النوم،
أطعمته بيدها،
ألبسته القميص والسروال اللذين اشترتهما له بالأمس،
مشطت شعره وألبسته حذائه،
ثم رتبت دفاتره في حقيبته الجديدة،
ثم لبست عباءتها وحملت حقيبته وتركت الباب مفتوحاً كي إذا عاد جده الذي خرج مبكراً لملأ قـنينة الغاز،
لا يبقى منتظراً خارج البيت حتى تعود،
ومشت أمامه فسار الطفل ذو السادسة من عمره وراء أمه،
مشيا مسافة ليست بقصيرة،
كانت توصيه بحسن الخلق واحترام معلمه وزملائه، لكنه كان صامتاً لا يتكلم بتاتاً،
ظنت الأم أن سبب سكوته هو الإضطراب والخوف من البيئة الجديدة التي سيدخلها لأول مرة،
فالتفتت كي تطمئنه وتصبره ...ولكنها لم تره!
ـ أين الطفل يا ترى؟!
أين ولدي؟!
فرجعت إلى البيت راكضة وماشية تـتعثر بأذيال العباءة والقلق بائن على ملامحها،
وما إن وطأت عتبة الباب حتى سمعت نحيـبه بلغ صوته الشجي إلى الشارع!
هرعت نحو مصدر النحيب،
كان ملقاة على وجهه في إحدى الحجر ويـبكي!
حضنته وكانت الدموع قد بللت وجهه تماماً والاحمرار طرد السواد من عينيه فتربع مكانه!
ـ ماذا دهاك يا عزيزي؟!
ـ لن أذهب إلى المدرسة!
ـ ولكنك قلت لي البارحة بأنك شجاع ولا تخاف من المدرسة! هل كذبت علىّ وأنك لست شجاعاً ؟!
ـ بل أنت كذبت علىّ وأبي أيضاً!!!
كلما قلت لك أنه ميت والموتى لا يعودون إلى الدنيا، أصريت بأنه حى!
أين هو إن كان حياً؟!
كان قد واعدني بأنه سيرافقني لمدة أسبوع إلى أن اجد لي أصدقاء جدداًً، وأنه سيعلمني اللغة الفارسية قبل أن اذهب إلى المدرسة، وها أنا اليوم ذاهب إليها ولم يأت ليوفي بوعده!
ماذا إن سألني المدرس اليوم عن الدروس! وأنا لا اتقن الفارسية؟
قلت له علمني إياها يا رجل،
فكان يقول لا تستعجل، لغتك العربية أوجب، تعلمها جيداً، وسأعلمك الفارسية عندما تذهب إلى المدرسة،
وها قد عدموه ولم أتعلمها! فماذا افعل اليوم؟!
سيشبعني المدرس ضرباً!
ألم تسمي هذا كذباً؟!
لكنها لم تستطع الكلام كي ترد عليه،
فالعبرة خنقـتها تماماً والدموع تـتراكض على خديها وكأنّ مصدرها كارون لا عيون المرأة الأرملة الحزينة!
لملمت قواها كي تـتغلب على جهشتها فقالت:
كن شجاعاً كما وعدتـني ولا تؤذيني، فأنت ذخري بعد والدك ورجل البيت،
ورجل البيت لا يؤذي أسرته بل يتحنن عليهم ويخفف أحزانهم،
وأنت يا حبيبي قد زودت حزني! وهذا ليس من شيم الرجال،
فأنا إمرأة، يجب أن تعاملني بلطف وحنان.
كان صدرها قد تبلل تماماً من سكب دموعه، ورأسه قد تـنقع في بحر دموعها!
قام من حضنها، نشف دموعه من خديه ودموعها من رأسه ورقبته ثم قال:
مادمت رجل البيت، فسأذهب إلى المدرسة لوحدي!
وأصر إما لوحدي وإما لا ذهاب!
وافقت الأم بعد أن استسلمت لعناده.
فخرج وهو يحذرها من مرافقـته أو متابعته:
إن رأيتك تـتبعينني فسأرجع إلى البيت ثانية ولا ابرح مكاني!
ألم تقولي أنني رجل البيت؟!
إن كنت كذلك فالرجال يذهبون لوحدهم!
حمل حقيـبته وركض نحو المدرسة،
ودموعه تـتهاطل يـبعثرها الهواء،
ولما ابتعد عن البيت قليلاً علا صوت بكاءه!
وبينما كان يركض مسك ساعده رجل!
وصار يركض معه!
ثم خففا سرعتهما حتى وقفا،
ـ وها قد جئت كما وعدتك!!!
ـ أبي!
فحضنه الأب ونشف دموعه، ثم رافقه إلى المدرسة وهو يعلمه جملة من اللغة الفارسية!
رافقه أسبوعاً كاملاً، حتى وجد له اصدقاء وتعلم ست جمل من اللغة الفارسية.
ـ حان الآوان كي اودعك.
ـ وهل ستعود لي مرة ثانية؟
ـ إن احتجت إلىّ.
ـ أين سترحل مرة ثانية يا أبي؟
ـ إلى طبقة خاصة في جنات الخلد.
ـ هل تصطحبني معك إليها؟
ـ ينبغي أن تبقى مع والدتك ولا تـتركها وحيدة.
ـ كيف الوصول إلى الطبقة التي تسكنها يا أبي؟
ثم قبل الأب إبنه مبتسماً مودعاً إياه فقال:
مازالت رقبتك رفيعة!
وإن رفعك حبل المشنقة فستسقط قبل أن تصعد روحك إلى طبقـتـنا!
إذن انتظر حتى تكبر!!!
ملاحظة: كارون، نهر يقع في الأحواز.