همس الرياح

وفاء خالد

هبت الرياح ليلاً وحملت معها الغيوم الثكلى ونثرتها في أديم السماء وتخللت الاشجار وداعبت أوراقها وأغصانها وأخذ حفيفها يطرق مسامعي ويوقضني قدغدغت أفكاري وداعبت روحي وأخذت تسحبني معها رويداً رويداً فأستجبت لندائها وتعلقت بخيوطها وذهبنا معاً نتجول فوق المدينة وبيوتها المتناثرة, فمررنا فوق قصورها وحدائقها الغناء حيث انقطع الكلام وسيطر الهدوء على المكان فلم يعد يسمع غير صوت الريح تجوب الشوارع وتصم الاذان معلنةً قدوم الشتاء وما يحمل من برد ومطر وعواصف رعداء ثم حط بنا الرحال فوق خرائب عاث بها الزمان وصيرها بقايا جدران متكأة على بعضها البعض لا يسندها شيء عن السماء تبدو وكأنها بقايا اقوام سالفة غضب عليها الخالق فارسل غضبه حولها الى كومة من الحجارة متجمعة فوق بعضها البعض تشكو لربها ما بها من هموم وتحمل من احزان .. كان الموت ذلك الفارس الهمام يتجول بين ازقتها دون رادع ويدخل بيوتها متى شاء ورائحة المرض تنتشر في كل زاوية وكأن المكان لم تدخله شمس قط فأخذت الريح تعصف بشدة فتناثر الغبار من كل مكان , وتساقطت بعض الحجارة من اماكنها, فأحسستُ ان الريح حزينة تعوي وتبكي لما رأت, فتسللت من بين مخالبها ونزلت فوق احدى الخرائب التي صيرها الانسان ملجأ له وسد فتحاتها وثقوبها بخرق بالية لا تصمد لحظات أمام مطر الشتاء وعواصفه ..

تأملت ذلك المكان الحقير فرأيته يضم أم تحتظن طفلها الذي يبكي من الم الجوع محاولة أسكاته وقد فارق النوم اجفانها وصيرها الحزن بقايا انسان, كانت تتوسد الارض وتلتحف السماء وبجانبها بقايا طعام متعفن لا يسد الرمق لا تملك شيئاً غير دموعها وشكوى تبثها بين الحين والاخر, متوسلة الى الله أن يرحمها ويرحم صغيرها فقد جفَّ صدرها ولم يبق فيه قطرة حليب واحدة تسد بها رمقه .. كانت تضمه الى صدرها عله يهدأ وعيونها متضرعة الى السماء تدعوا الله ان يعجل بظهور خيوط الفجر .. فرقت السماء لنداءها وبكت لبكائها واستجابت لدعائها فأرسلت الشمس أول شعاعٍ لها لتثير به الارض معلنةً قدوم الصباح, فحملت المرأة صغيرها وهرعت لمدينة القصور تلك, حيث تفوح منها روائح الطعام ممزوجه بأريج العطور, والريح ترقص هناك بين أشجارها وتداعب أزهارها وتحمل الروائح معها فتعم بها المكان .. ولكن من يفتح لها الابواب في مثل هذا الوقت ومن يرحم صغيرها الذي ما عاد يقوى على البكاء, والقوم قد ناموا من الشبع واثقلت التخمة بطونهم وعيونهم, وغرقوا في لجة الاحلام, والمسكينة تركض بين الابواب الموصدة وتنادي على ساكنيها .. ولكن الكل نيام والهدوء يعم المكان فجلست على قارعة الطريق وهي تحتضن رضيعها الذي لم يبق فيه رمق للحياة وما زالت الابواب موصدة والكل نيام والريح تعوي في كل مكان.