طِفلان
مصطفى حمزة
في ذلك المساءِ الكئيب كآبةَ الغُربة المقيتة وقعتِ الواقعة !
لم يُصدّق أحدٌ ممّن يعرف الصَديقيْن أنّ ما حدثَ قدْ حدثَ ، وأنّ ابنَ أحدِهما وراءَ القضبان وابنَ الثاني يتنازعه الموتُ والحياةُ في المستشفى !
رامي طعنَ سامر بالسّكّين في ظهرِهِ !
وما أنْ علمَ أبوهُ بفعلتِهِ حتى بادرَ بتسليمه إلى مركز الشّرطة ، ثم هُرعَ هَلِعاً إلى المستشفى ليقفَ بجانبِ صديقِهِ المنكوبِ أمام باب غرفة العمليّاتِ ؛ يترقّبانِ قضاءَ اللهِ في الولد ! بعدَ حين خرج الطبيبُ مُستبشِراً ومُبشّراً ؛ فتعانقَ الصّديقانِ بقوّةٍ واختلطت دموعُهما يحمدان الله تعالى على رعايتهِ ولُطفِهِ ولبثَ أبو رامي في المستشفى حتى الصّباح متناسِياً ابنَهُ الموقوفَ ! لقد كانت ليلةً ليلاءَ لئيمة عنيدةَ الفجر ، مرّت على الأسرتين وكأنّها الدّهر !
***
خمسَ عشرةَ سنةً ضمّتهُما : صديقين في بلدِ الاغترابِ ، وزميلينِ مُدرّسَيْنِ بمدرسة واحدة وجارَيْنِ في العَمارةِ ذاتِها ، وعاشا آلقَ الأيام وأجملَها لمّا لبّوا معاً بأسرتيْهما داعيَ الحجّ وكان رامي وسامر حينئذٍ يتعثّرانِ بخطواتهما الأولى . و في مدرسة أبويهما كان رامي وسامر في فصلٍ واحد من الصّفّ السابع ، زميليْنِ كالأخَوين قُرباً وَحُبّاً ، ما يكادان يصلان المدرسةَ بصُحبةِ والدَيْهِما حتى يتصافَحا ويترافقا إلى غرفة الصفّ حيثُ يجلسان مُتجاورَيْن . وفي الفُسحة اعتادا أن يتقاسَما ما معهما من طعام أو حلوى ممّا جلباه من البيت ، وكم ساعاتٍ قضياها في الدراسة واللعبِ على الحاسوب أو بالدرّاجتينِ أمامَ العَمارةِ أو في الحديقةِ ؛ حين تذهب الأسرتان معاً للتنزّهِ أيامَ العطلاتِ !
***
في الغدِ دارتْ بأبي رامي الدّنيا وهو يقرأ أقوالَ ابنِهِ من محضرِ الشّرطة ! كان يُمرّر إصبعَه ببطء فوق كلّ كلمةٍ يقرؤها ، كالأمّيّ الذي يتعلّم القراءة ! ثم يعود لقراءة الكلمة أكثر من مرة وكان ينظر لأعلى الصفحة ، وإلى حيث وصل ، وكأنّه يربط الكلامَ ببعضه وبعض ليستوعب ما تقع عليه عيناه !
- ( قبلَ عشرة أيام تقريباً ضربني سامر في المدرسة على رأسي ضربةً آلمتني جداً ، وما زالت رأسي تشتكي منها إلى اليوم ! أشعر بصُداع !! اعتذر مني وادّعى أنّه كان مازحاً ولم يقصد إيلامي .. )
- ( لا ، لم أخبرْ أبي بذلك ... لأنني خفتُ أنْ يظنني البادئ فيوبّخني أو يضربني .. )
- ( بعد ذلك .. بدأ الطلابُ يَسْخرون منّي ويستهزئون بي ، ويقولون : أنت لستَ بِرَجُل .. أنت بنت ! سامر ضربكَ ثم لم تجرؤ على الردّ .. جبان أنتَ ! اضرِبه وأرنا قوتك .. لم يسكتوا .. كل يومٍ كان يأتي بمزيدٍ من إلحاحهم واستهزائهم وسُخريتهم ، حتى شَعَرْتُ بأنّي سأموت .. بأنّ رأسي ستنفجر بين لحظةٍ وأخرى .. كرهتُ المدرسة ، صارت وحشاً مُخيفاً يعضّني كل يوم ألف مرّة ! فقرّرتُ أن أضربه ! )
- ( نعم بالسّكين .. لم يكن ليشفيَ غليلي إلاّ سكّين ... وحادّة أيضاً ! )
- ( ثمّ .. ثُمّ كانَ أبي عندَ الحلاّق ، سمعتُهُ يُحدّثُ أمي بأنّه سيقصِدُ الحلاّقَ بعدَ صلاةِ المغرب فترقّّبْتُ حتى غادرَ البيتَ ، ودخلتْ أمّي غرفتها ، فسارعتُ إلى المطبخِ وتناولتُ سكيناً كبيرةً أخفيتُها تحتَ قميصي ، ثمّ صعدتُ إلى بيتِ سامر .. )
- ( طلبتُ منهُ أن يَنزلَ معي دقائقَ إلى مواقفِ الســيارات لأريَهُ زينةَ درّاجتي الجديـدة ! نعم كذبـتُ عليــه .. وحينَ انحنى ليرى زينةَ الإطار استللتُ سكيني بسرعة وطعنتُهُ في ظهرِهِ ! صَرخَ بصوتٍ رعيب .. رهيب ! كان يتألّم كثيراً ..وانفجرتْ دموعُه من عينيه ثمّ هوى إلى الأرض .. أنا خِفتُ جدّاً ! كانت يَداي وركبتايَ ترتجف بشدّة .. شعرتُ برغبة تدفعني إلى البحر القريب لألقيَ بنفسي فيه ! لكنني وجدتُ نفسي أعدو صاعداً إلى بيتنا .. )
- ( نعم ، سَمِعَهُ حارسُ العمارة الذي كان في غرفته ، فقد لمحتُه يُسرعُ باتجاه الصوت )
لم تُصدّق عينا أبي رامي ما قرأتا للتوّ ! فما كانَ ليظنّ يوماً أنّ ابنَهُ الهادئ الخجولَ ذا الإحساسِ المُرهَفِ يُمكن أن يفعلَ ما فعلَ ، أو قريباً منه ! شعرَ بجبينه يتصبّبُ عرقاً وخجلاً .. وبقلبِهِ ينزف ألماً وهمّاً !
أراحَ رأسه بين راحَتَيْهِ :
- ( ماذا فعلتَ يا رامي يا وَلَدي ؟! لماذا ؟! أينَ أذهبُ من أبيه ، ومن عيون الناسِ وألسِـنَتِهم ؟! آهٍ يا ولدي آه ، ماذا فعلتَ بي وبأمّك المسكينة ؟! )
قامَ مثّاقِلاً ، مُنقَضَ الظهرِ ، كأنّهُ كبُرَ سنواتٍ في دقائق ! وغادرَ غرفة المحقّقِ دونَ أن يطلبَ رؤية ابنه ! ولدى بابِ المركز فوجئ بصديقِه داخلاً ، فتأبّط أبو سامر يدَه وعاد به إلى غرفة المدير ، وما هي إلا ســاعة من الزمن حتى خرجا ومعهما رامي مُفَرَجاً عنه ؛ بعدَ أن تنازل أبو سـامرٍ عن حقّه الشـخصيّ ..
بعدَ أيام قلائل غادرَ سامر المستشفى ، وبعدَها بأيّام تماثلَ للشِفاء التامّ وعادَ إلى الدوام في مدرسته والتقى الحميمان من جديد . مضتْ شهورٌ ثلاثة على الحادث الأسيف ،تعالتْ عليه الأسرتان في أثنائها يوماً بعدَ يوم ، حتى توارىَ في النسيان !
لكنّ الأولادَ الأشرارَ المُحيطينَ بالصديقين الطفلين ، من كلّ الصفوف في المدرسة ؛ لم يكونوا لينسوا الحديث عن ذلك أبداً !!
وفي مساءِ يومٍ نعَبَتْ فيه الغِربانُ أكثرَ ممّا ألِفَ أهلُ المدينةِ الصغيرة ؛ وُجِدَ رامي مقتولاً في مدخلِ عمارةِ بيتِهِمْ وقدْ غارَ نصلُ سكّينٍ كبيرةٍ في ظهرِهِ !! وعصرَ اليومِ التالي ، عندَ شاطئ البحرِ القريبِ فوقَ مصَدّ الأمواج ؛ عُثرَ على جُثّةِ سامر ، وقد لفظَها البحر !!
***
اعتادَ أهلُ الحيّ - ومنذُ سنتين – أن يَرَيا الصّديقيْن أبا رامي وأبا سامر يتّجهانِ معاً إلى المقبرةِ القريبةِ من منزليهما ، وأمامَ قبْرِيْنِ صَغيريْنِ مُتلاصقين كانا يجلسان ويَتلوان من مُصحَفَيْهِما ما شاءتْ لَهُما الدُّموعُ ، ثمّ ينهضان راجِعَيْن ..