وانقطع الرجاء إلا منك
غريب الدار
نامت أم محمد كعادتها بعد أن قضت ما عليها من الفروض و النذور ، التي قطعتها وواظبت عليها سنوات طوال ، وهي ترجوا الله بأن يحقق لها أمنيتها الكبرى ، ويجمعها بابنها المغيب الأسير في سجون الطغاة من سنوات طويلة طويلة ، مملوءة بالمرارة والعذاب والألم ، مازالت تعدها ، سنة بعد سنة ، وشهرا بعد شهر، بل و يوما بعد يوم .
إنها الساعات الأولى من الصباح ، من تراه يطرق الباب في مثل هده الساعة ؟ وما السبب ؟ تساؤلات كثيرة دارت في رأسها وهي تسرع لتفتح الباب ، متمتمة يالطيف اللطف ألطف .
من بالباب ؟ ...... نادت بصوت متقطع يملؤه الخوف والرجاء.
أنا أم عبدو ومعي أم أحمد ، افتحي الباب يا أختاه :
أهلا بكما ، قالتها مرحبة مستغربة متسائلة ، محاولة أن تقرأ تعابير البشارة في وجهيهما لتعرف سر قدومهما المبكر وعلى غير العادة ، علها تجد لوساوسها جوابا .
لم تنتظر كثيرا حينما قطع صوت ضيفتها ما كان يجول في خاطرها من أشياء وأشياء ، قالت أم عبدو : بشراك يا أختاه فلقد جاء الفرج بعد طول انتظار ، الدولة ستفرج بدأً من اليوم و خلال الأيام القادمة عن الكثير من المعتقلين السياسيين ، نسأل الله أن يكون أولادنا من بينهم .
وأردفت أم احمد : نعم يا أختاه اليوم يوم الفرج ، اليوم يوم الفرح ، الخبر حقيقي ، وليس كما جاءنا في السابق من أخبار كاذبة ، هناك بعض المفرج عنهم وصلوا بالفعل إلى بيوتهم ، لقد خرج من المعتقل ابن أختي صفية ، ربيع ألا تعرفيه ؟ وصل مع ساعات الفجر الأولى إلى بيته ، لقد أغمي على أمه من شدة الفرح ، وهي تفتح الباب لترى أمامها ابنها ربيع ، هل هي في حلم أم أنها تسبح في خيال ، نعم هو هو بلحمه ودمه ، انه يناديها أمي ، و ينحني نحوها مقبلا يداها ، ضمته لصدرها ، تلمست وجهه ، يداه ، قبلته ، بكت ، صرخت بصوت عال ، نعم والله إنها حقيقة لا خيال .
نعم رأيته يا أختاه ، لقد تغير كثيرا ، وازدان وجهه بلحية جميلة ، فلم يعد كما تركته ابن الخمسة عشر ربيعا ، انه الآن في عقده الثالث من العمر ، اخبرني أن هناك المئات بل ربما آلاف سيولدون اليوم من جديد ، ومن جميع المحافظات ومن المؤكد أن أولادنا من بينهم ، اللهم آمين .
أسرعت أم محمد لتزف الخبر إلى أبي محمد ، انه ينتظر بقلق شديد ، ليعرف ما تحمله زيارة جارتيه المفاجئة ، خرَّ لله ساجدا شاكرا ، داعيا المولى أن يكون ابنه من بين هؤلاء ، ولكنه وبرغم الفرحة التي علت وجهه الشاحب الجميل ، كانت هناك مسحة حزن وخوف بدت على محياه ، وهي الخوف من المجهول أن يكون عبد الهادي ليس من هؤلاء المفرج عنهم ، أو لربما خوف مما قد تحمله الأخبار ، انه لن يعود إلينا أبدا ، لأن روحه ترفرف هناك في جنات الشهداء ، كما جاءته بعض الأخبار غير المؤكدة ، والتي كتمها عن زوجته والآخرين ، من انه استشهد في سجنه من سنين ، كآلاف الأطهار من خيرة شباب الأمة ، في محاكمات فاقت في جورها وإجرامها محاكم التفتيش في القرون الوسطى ، ذنبهم أنهم كانوا في بلادهم أطهارا ، وعاشوا بين الناس مشاعل هدى ، وأنجماً تسطعُ في سماء الكون وأقماراً .
اجتمع الآلاف من الناس عند مداخل المدن والقرى والبلدات ، لاستقبال تلك الكوكبة من الأطهار ، والكل مترقب متلهف قلق ، وأحاديث كثيرة يتناقلها الناس عن أخبار المعتقلين ، ولكن و برغم شحها ، إلا أنها بدأت تبعث الآمال من جديد ، في نفوس مات فيها الأمل بلقاء الأحبة من سنين .
حلب كلها هنا بجميع أهلها ، أمهات باكيات شاحبات ، صابرات محتسبات ، وأطفال حيارى ، عاشوا كاليتامى وأصبحوا اليوم ربيعا خَضِراً وأزهاراً ، وزوجات غابت عن وجوهها نضارة الحياة ، وهي تنتظر حبيبها بصبر وأنين وبكاء ، فهل سيلقونه بعد طول عناء ، وآباء لم تعبر الفرحة إلى وجوههم سنوات طوال فيها الصبر على البلاء ، والتضرع إلى المولى وكثرة الدعاء ، وإخوة وأعمام وخلان ، وخالات وأخوال ، أعزاء وجيران ، الكل هنا ، والكل ينتظر الحبيب ، فليس في وطننا الغالي مكان إلا وكان للمحنة فيه نصيب ، فإما معتقل فيه أو شهيد أو شريد .
سؤال تسمعه ويردده الجميع ، هل ستعرفون أسيركم ؟ وكيف سيكون شكلهم بعد مايزيد عن خمس عشرة سنة ؟ غيبت شبابهم السجون ، وأحاطت بهم دائرة المنون ، وانقطعت أخبارهم عقدا وسنون ، لم نعرف لهم حياة أو موت ، أو نسمع لهم حديثا أو صوت .
وقفت الحافلة ، وترجل منها الأبطال ، كانوا ثلاثة رجال ، نعم والله إنها حقيقة لا خيال ، نزلوا وهم يجهلون الحال ، وتساءلوا لمن تقف هذه الحشود هنا ، اهو لسفر أم لترحال ؟ ألف سؤال وسؤال ، وهنا أدركوا أن دوام الحال من المحال ، وان الكل ينتظر خروجهم من جحيم سجنهم من سنوات طوال ، والكل له ابن أو أب أو عم و خال ،
وتسابق الكل إليهم ، التفوا حولهم ، أسئلة كثيرة ، وأجوبة متحفظة قليلة ، الكل يقلب النظر فيهم ، هل يعرفهم من أحد ؟ فلقد تغيرت المعالم و الوجوه ، وبسرعة سبقت البرق أصبحت أسماؤهم بين الجمهرة يتناقلها الجميع .
أما هم فنظراتهم حائرة ، ورقابهم تتطاول وترتفع فوق الرؤوس ، علها تجد بين تلك الجموع أحباءها ، لحظات لم تتأخر ، لتخرج من بين تلك الجموع امرأة هائمة على وجهها وهي تنادي بصوت عالٍ غالبه البكاء ، أين أنت أيها يا ولدي ، أين أنت يا كبدي ، وارتمت على احدهم تقبله ، ودموع الفرحة تنسكب من وجهها الشاحب كحبات المطر ، أنا أمك يا خالد ، أنا أمك يا عمري ، لحظات سكتت كل الأصوات إلا صوت البكاء ، و جاشت العاطفة في الحنايا وعصفت لها القلوب ، وبكت من هول ما رأت العيون ، انظر ياحبيبي انه أخوك حسام ، لقد كبر وأصبح في الجامعة ، وسيصبح طبيبا كما كنت تأمل أن تكون ، وهذه هي عائشة وأولادها لقد تركتها صغيرة ، وهي اليوم أم لثلاثة بنين ، أوسطهم حمل اسمك وغلب على وجهه رسمك ، قاطع الحديث خالد وقال وهو يلتفت يمنة ويسرى : أين أبي مالي لا أراه ؟ وسكت الجميع ، وعادت الدموع تَدْفُقُ من جديد ، ولكن الخال قطع الصمت و قال بصوت مرتعش وأجهش بالبكاء : رحم الله أباك ، لقد مات منذ سبع سنين ، مات وهو راض عنك ، ويدعوا الله لك ولإخوانك بالفرج العاجل والقريب ، ما كان يوم يمر وهو يصارع المرض ، إلا وكان يدعوا الله أن يطيل بعمره فقط ليراك ولكن قدر الله وما شاء فعل ، ولقد سبق الأجل الكتاب .
بكى خالد لما عرف أن أباه قد مات ، وعرف ان هناك الكثير من الأخبار والمفاجآت ، واحداث غدا ستروى فيها الكثير من الألام والأحزان ، نعم من اليوم سيبدأ فصل من الحياة جديد ، ستسمعون قصصه أيها الأعزاء ، وتتابعون فصوله وأحداثه ، تغير فيه كل شيء ، وغير معه الماضي والحاضر والمستقبل .
ذكريات سنوات مليئة بالقهر و العذاب ، والألم والحرمان والإرهاب ، ضجت لها الأرض و بكت من هولها السماء ، وعلى ثرى وطننا الحر سالت الدماء ، غاب عنا الكثير من الأهل والأحبة والصحاب ، منهم من ضمته القبور ، وسكنت نفوسهم تحت التراب ، ومنهم من غادر الوطن وترك الدار هائما في البلاد ... وعنا غاب ، وأمهات وزوجات عاشت المر والآلام والصعاب ، وسنوات من الأنين وآهات وحسرات، على وطن ضائع يحكمه أغراب ، وفقد لأطهار الأمة من خيرة الشباب ، وجيل تائه جديد يعيش في وطن تحكمه شريعة الغاب ، هائما يسير من سراب إلى سراب ، كسرب غربان تنعق في خراب .
خاطب خالد وأخواه الجميع وطمأنوهم : أن هناك المئات خلفهم قادمون ، وان الجميع سيخرج من السجن و خلال فترة قصيرة ، كما اخبرهم السجانون ، بان عفوا صدر من السيد الرئيس سيشمل أغلب السجناء .
أراحت تلك الكلمات النفوس وهدأت من روعهم وقلقهم ، وبدأت الحافلات تتوافد الواحدة تلو الأخرى ، والكوكبة المؤمنة تطل إلى دنياها من جديد ، بفرحة كبرى وكأن اليوم عيد ، لتلقى الأهل والصحاب في عرس كبير ، والكل مبتهج سعيد ،
أما أم محمد فقد عاد إليها شبابها من جديد ، وهي تنتقل بين هنا وهناك باحثة عن خبر أو أمل ، دونما كلل أو ملل ، استوى ليلها بنهارها ، لقد رأت العشرات بل المئات من المعتقلين ، ولكن لم تجد منهم خبرا يثلج الصدور أو يكشف المقدر و المستور ، حتى احمد بن جارتها أخبرها حين التقته انه كان رفيقه في سجن تدمر في السنتين الأولتين ، ولم يسمع عنه أي خبر منذ مغادرته مهجعهم إلى الآن ، ولكن بشرها بأنه أتم في السجن حفظ القرآن ، وبصوت شجي كان يرفع الأذان .
هنا سكت التاريخ وانقطعت الأخبار ، فكل من عرفه أو كان معه يخبرها انه كان معنا لسنتين تلت اعتقاله ، كان معنا نعم الرفيق والجار ، وكان من الصفوة الأخيار ، ثم غاب عنا كما يغيب الليل والنهار، وما ندري بعدها ما فعلت به الأقدار ، ولكن قلب الأم لا يعرف الكلل أو الملل ، ولن يفقد أبدا الأمل .
أيام من الانتظار والوقت يمر ثقيلا وأم محمد ترفض العودة إلى البيت لتستريح ولو لبعض الوقت من عناء الانتظار .
لا لن أعود ، فلربما وصل الحبيب في أي وقت ، يجب أن أكون أول مستقبليه ، لا لا لن أعود قبل أن ألقاه ، وأضمه صدري ، إن قلبي يحدثني انه قادم .
مضت عدة أيام دون أن يصل أي جديد من الآلاف الباقية القابعة في السجون ، وكثيرات مثل أم محمد يجلسن في العراء دون أن تغمض لهم عين أو تضعف لهم إرادة ، يتطلعون إلى السماء بعيون أغرقها البكاء ، وأكف ترتفع بالدعاء ، وقلوب يملؤها الرجاء ، أن يكلل الصبر والألم بالفرج القريب و فرحت اللقاء .
وتلاشت الآمال ، وعادت الأمهات إلى بيوتها ، خائبة الرجاء ، منكسرة النفس رهينة الشقاء ، تحمل البؤس والأنين ، واللوعة والحنين ، وسنوات أخرى من الصبر والألم والأحزان ، وهي تشكو بثها وحزنها إلى الله رب السماء ،
وعادت أم محمد وأخواتها الكثيرات ، لزيارة الكوكبة المولودة ، يبحثن من جديد عن الأمل المفقود ، وعن رجال مازالوا في جحيم الأخدود ، جدران سجنهم قبر لهم ، وأكفانهم القيود ، ولكن قلبها دائما يردد .......
ستنكسر يوما القيود ،،،
ويقهر الظلم و النمرود ،،،
وأنت أيها الغائب .... ولو بعد حين حتما ..... ستعود.