مجرد ورقة صغيرة
صباح الضامن
النهار يعلن اقتراب الليل
في قلبه فيودع باستسلام قليلا من حياته التي ابتدأها بخطوات ثابتة نحو الأسود
المهيب .
ويختلف في التواجد من بين أشعة تسترق النظر لتعلن عن أفول مخلفة قليلا من دفء ولون
بين غيم نشر قطنه المتماوج هنا وهناك .
ويختال الليل بعد أن يبسط هيمنته على قبة الدنيا بنجوم تجامل العيون فتكتب معها
قصصا مروية بقليل من لجين تندى من العيون المودعة ...
لجين يهبط من قلب عائشة التي تغادر من بلدة ابنتها بعد لقاء قصير تمنت لو توقف مد
الساعات والدقائق حتى تبقى اللحظة بهية مشرقة بالقلب ..
وتعترف المسافات أنها لا تقطع إلا بالشوق وتمشي مترهلة الخطى لما تترك على طرف
الطريق محبين بورد كان للقاء فنثر يبكي مودعا ..
وتسير عائشة بين ذكريات ضمها الصميم وجوارح تلوح مودعة لزمن كان يقضي معها لحيظات
برقة القطر المنساب على جورية بيضاء .. في يوم ربيعي مشرق .. وتجلس في الحافلة
الموصلة لبلدتها تضع جسدها على مقعدها الجلدي الضخم تغوص تظن الدنيا توقفت عندها
لحظة تحرك الجميع .. فتحاول استسلاما لنوم لعل الليل الذي غضا في قلبها يشعرها
بهدوء قليل بعد عواصف الحنين والوداع .
وتكتب لنفسها قصة توحد مع الهدوء الذي يقتحم بأصوات تردها لعالم واقع فرت منه من
سنين وأنقذها سد منيع منع عنها هذا الاقتحام المغرق ..
صوت التلفاز وهذا الذي يعرض فيه ردها إلى سنين بعيدة جدا
يااه كم لها من العمر لم تشاهد ما يسمى بالفيلم العربي بأبطال يروحون ويجيئون بصفر
الابتسامات وعبث الشياطين وقصصا لا تحكي شيئا ولا من حبكة ولا عقدة ولا مضمون .
كم لها لم تشاهد ما يسمى بأبطال يحبون بعضهم ويفعلون المستحيل من أجل الحصول على
نظرة أو لقاء أو فعل بحرام .
كم لها !!
عمر طويل جدا لم تعد تتذكر .. وكأنهم يقحمونها بلجة عميقة فتحس عائشة بالاختناق
تبحث عن رئة تتنفس منها فلا تجد .. فقد سدوا المنافذ ولا بد من رؤية وسماع .
وتضع المناديل الورقية في الآذان ولا من هروب فالصوت المرتفع يمنعها من تسبيح
واستغفار فتجاهد حتى أحست بقلبها يتوقف .. وتتساقط الدموع من عينيها ويغادر الهدوء
صافقا الباب وراءه لما ينتهي الفيلم ليأتي بعده صوت من قال عنهم الله (( إن أنكر
الأصوات لصوت الحمير ))
مغن بين الرجل والمرأة لا يعرف له صوت ولا لون ولا نكهة يموج ويزمر ويصفر . ولكنه
يبقى صوت بمسجل لا حول ولا قوة لعائشة في رده أو إقفاله فالأمر بيد السائق الذي يظن
أن قطع الطريق بالغناء يوصله أقصر مما يتخيل .
وها هو يعبد طريقه ويرصفها بحجارة مسنونة من جهنم كل نغمة تورده منزلا بالنار .
ويبقى صوت بمسجل وعائشة تنظر حولها تتمنى من يعينها لإيقاف هذا النعيق لتستسلم
لنعاس بسيط فتصحو على صوت تصفيق وغناء جماعي :
- يا الله ... الكل يغني في الحافلة
حولها بضع من الفتيات بعمر الورد ومتحجبات ابتدأن يتمايلن ويصفقن ويغنين مع المغني
وهو يقول بصوت رقيع صفيق مقرف
هل رأى الحب سكارى مثلنا
- ياربي ...نظرت عائشة إلى الفتاة التي كانت تصيح كلما سمعت المغني يغنيها وأخذت
تتمتم يا الله سترك وعفوك .. ياالله إني استجير بك أن ترحمني فكأني في قلب ملهى .
وتنظر عائشة لأم الفتاة .. صنم لا يتحرك فيه إلا فمه للأكل والشرب وقلوب مغمضة قبل
العيون .
أين ذهبت القلوب المتيقظة .. أبات زرعك يا أم بلا أنداء جافا لا يتمايل لتسبيح وذكر
بل لعفن مغني ؟؟
يارب رحماك وكيف يمكن أن تستسلمي يا عائشة فقط لأضعف الإيمان ؟؟
حدثت عائشة نفسها وتململت تتمنى أن تكلم الفتاة وأهلها والفتيات الأخريات وكلما همت
زاد النعيق والنهيق والصراخ.
وقبيل توقف الحافلة التي رحم الله راكبيها دعت عائشة ربها أن يلهمها الرشد ونظرت
حولها لترى رؤوس الرجال التي كانت تسمع غناء الفتيات وصوت المغني لا تحرك ساكنا ..
فقلبت شفتيها استهزاء .
وكيف لأمة أن تستيقظ وقد عمر العفن والخور واللامبالاة رؤوس رجالها !!!
فتحت عائشة حقيبتها بقليل من وهن وحزن على ضياع رحلة تمنت فيها استغفارا كثيرا لترى
ورقة صغيرة بحقيبتها كانت قد كتبت عليها بسم الله الرحمن الرحيم وقد كانت مشروعا
لكتابة موضوع .
فإذا بأنامل القلم المذهب الرفيق يخط حروفا من قلبها لا تكتب بمداد الحبر بل من حنو
أم .. وهم عاش عمرا بنبضها لعله يكون بريدا لمن يقرأ ويفهم .
كتبت :
يا ابنتي
شبابنا آفل
وعمرنا لا تعود ثوانيه الراحلة
قبيل أن تقف حافلة أقلتنا .. لا ندري متى حافلة عمرنا ستقف , لنتفكر أترى أرضينا
الله ورسوله بغناء ماجن ورفع صوت أمام أغراب !
يا ابنتي لولا أنك مثل ابنتي وغيرتي عليك كفتاة مسلمة لما نصحتك ,
فارضي الله ولا تستسلمي لشيطان يوردك المهالك فأنت لا تعلمين متى حافلتك ستتوقف فلا
تجريها لتتوقف وأنت بحال لا يرضي الله
ولا تنسيني من دعاء لما تقرأيها...
كتبت عائشة هذه الكلمات وكأن الليل ابتدأ ينفرج قليلا ليحل محله شعاع نهار من قلبها
أضاء لها الصفحة لتلتفت للفتاة وتضعها في يدها مع حبة من الشوكولا فتقول لها
- كلي هذه الآن أما الورقة فاقرأيها لما تعودي لبيتك ..
- حاضر ياخالة قالت الفتاة مبتسمة
وتوقفت الحافلة .. ولم تتوقف ..
فلا زال الطريق طويلا جدا وهذه فقط مجرد ورقة صغيرة