درة في الظلام

سمية المليح

[email protected]

 سجن  أبواه بذنب لم يقترفاه... وبجرم لم يرتكباه.. ومحاولاته في تحريرهما باءت بالفشل وقضايا المحاكم والمحامين  ما استطاعت أن تحررهما لقوة الظلم في ذلك الوقت. فقرر الخروج من الوطن لعله بطريقة ما يعيد الحق لأهله وينشر العدل في أرضه.

 عادل رشيد فتى أنهى المرحلة الثانوية بتفوق, وأبواه في السجن, وهو الآن في طريقه للخروج من الوطن. مر بصحراء في عتمة الليل, ينظر إلى الأفق البعيد لعله يرى النور هناك, فتعثرت قدماه بحجر فوقع أرضا وجُرح.. تحامل على نفسه , وأكمل المسير صاعدا جبلا شامخا عريقا, فآثر الصعود نحو قمته... وعندما وصل إليها, التفت إلى الوراء ليودع الوطن، لكن منظر المدينة المتلألئ في الليل الحالك من أعلى الجبل شد انتباهه وأطال النظر فنادى بأعلى صوته: سأعود.. سأعود.. لا بد أن أعود, فاغرورقت عيناه بالدموع, وانتشر الصدى في الأجواء, ثم جثا على ركبتيه وعيناه مليئتان بالدموع قائلا: "سأدرس الشريعة والحقوق, وأنشر في بلادي العدل والنور, وأحرر البشر من ظلم كرهوه, لن أخرج.. سأناضل".. ونام في سرور.

وعندما طلع فجر يوم جديد, انطلق نحو بلدته, لكنه وقف برهة, فأقساط الجامعة غير مؤمنة.. لكنه تدارك العقبة أمامه قائلا في نفسه:" أدرس في الصباح وأعمل في المساء, وأدفع المطلوب على أقساط, فالطريق الذي أريد يحتاج إلى جهاد, وهو الذي يوصل إلى المراد".

ومرت الأيام والسنون وعادل رشيد يجتاز المراحل بتفوق في كلية الشريعة والحقوق, وازداد حبه للخير والرسول_صلى الله عليه وسلم_ وجاء يوم التخرج وقد حصل على المرتبة الأولى. ونودي اسم الطالب (عادل رشيد) فاتجه نحو المنصة وصفق الجمهور, فارتسمت أمام عيني عادل صورة أبويه السجينين.. سقطت من إحدى عينيه دمعة حزن ومن الأخرى دمعة فرح.. لكن ابتسامة الأمل لا تزال.

وبعد فترة قصيرة, اتصل عميد الكلية بعادل رشيد, وأخبره بأن الجامعة تريد إرساله في بعثة خارج الوطن, ليكمل دراسته في الحقوق..فازدادت فرحة عادل بهذا الخبر وبدأ يرى النور في الأفق.

ودَّع أساتذته وأصحابه, وانطلق في رحلة علمية جديدة, مَلئـَها بالبحث والجد, ومرت الأيام وحصل عادل رشيد على درجة الماجستير في المحاماة, وكان في كل يوم يزداد شهرة وتميزاً بأخلاقه وعلمه.

وافتتح مكتباً للمحاماة وبدأ الناس يلجأون إليه في قضايا المحاكم , وذاع صيته حتى أن قاضي المحكمة عينه نائبا له, ومرت الأيام وصار عادل رشيد يجلس على كرسي القضاء في المحكمة ويطرق بالمطرقة ليسكت الجميع وينطق بكلمة العدل والحق.

لكنه في حياته خارج الوطن لم ينس أبدا وطنه وأبويه, أصحاب الحق المهضوم... وكان يفكر دائما بإيصال الحق إليهم يبحث عن طريقة يفاجئ بها الوطن والأصحاب, فغايته التي يريد ووسيلته التي يسلك كلتاهما مشروعتان في كل القوانين.

ومن خلال عمله في القضاء تعرف عادل على شخصيات قضائية, تسلك طريق الحق المستقيم, ويريد منها أن تكون قدوة في سلوكها لهذا الطريق. ففي قلبه عبارة محفورة تقول: (أن الرسول_صلى الله عليه وسلم_ دُعي في الجاهلية إلى حلف من أجل نصرة المظلوم, ولو دعي إليه في الإسلام لأجاب).

لذلك جمعهم في بيته وأظهر لهم رغبته في تأسيس (جمعية نشر العدل ورفع الظلم).

ثم تشكلت الجمعية بعد سنة في بلد إقامته, وكان رئيسها زميلاً له, وذاع صيتها في البلاد, ورحبت الشعوب والحكومات, وبدأت فروعها تنتشر هنا وهناك، فرُشِّح عادل رئيسا لأحدى هذه الفروع, وانتقل إلى مقر عمله الجديد.

عمل عادل رشيد بكل جهده ووسعه، وناضل من أجل نصرة المظلوم, وحرر كثيراً من الناس ومن المسجونين.

وجاء اليوم الذي دخل فيه عادل رشيد إلى وطنه على رأس وفد, ليؤسس فرعا للجمعية في بلده, فاستقبله الرئيس والجمهور بالصيحات والتكبير.

فخبر جمعية (نشر العدل) عندما وصل بلده كسائر البلاد, ازداد الناس شوقا لأن يكون فرع لها في بلدهم, فالشعوب عطشى لها, والكل يحب العدل والحق,و يكره الظلم والقهر.

 وبعد أيام تأسس الفرع وبدأ عمله بكل قوة, فالشعوب تنصر المظلوم.. لكنها تريد من يقودها نحو ذلك العدل المنشود, حتى لا تذهب طاقتها كما يأفل نجم ساطع.

ومرت الشهور.. ودُرر العدل في بلده تُنثر.. وخُبث الظلم يزول... حتى تدحرجت دُرَّةُ العدل نحو ذلك المكان المظلم, نحو ذلك السجن الذي قبع فيه النزلاء. مذ كان عادل رشيد فتى.

فالقاضي عادل رشيد _كما يحب أن ينادى_ عندما درس الشريعة تشرّب كؤوس حب العدل لدرجة جعلته يحب أن يسقي كل إنسان العدل بيديه, فهو يرى بل يعتقد أن في تخليص الشعوب والأمم من الظلم, كإزالة شوكة من حلقه, وأن نشر العدل هو هواء لرئته وانشراحٌ لصدره.

دقت الساعة الثانية عشرة ظهرًا, ودخل حاكم البلاد والقاضي عادل رشيد ووفده, دخلوا بوابة ذلك الظلام.. والهدوء يعم المكان, سوى وقع الأقدام, لكن القاضي عادل لم يتمالك نفسه أن يمشي خطوات هادئات, فأسرع نحو الغرفة المقصودة, وخلفه المحررون .... طرق الباب وأمسك مقبضه بقوة وهدوء.. وفتحه.. ونظر الأبوان إليه فعرفاه... فانكب عليهما وحضنهما وسالت الدموع فارتفع النشيج وكبر المحررون.