الحمار المحظوظ
احمد صرصور
لم يرجع حمار ابي كنعان كعادته للبيت. كان من المفروض ان ينهي مهامه اليومية في الكرم , ثم يعود قافلا للزريبة وقت الغروب , لا يلوي على شيء . على هذا تربى وهكذا تعود.
جلس ابو كنعان امام بيته, ينتظر عودة الرفيق المناضل. هذا الرفيق الذي لا يعرف الكلل, اوالملل. الرفيق المخلص, الذي لا يتخذ عليها اجرا . يأكل ويشرب ما يجود به عليه ابو كنعان. ليس له طلبات خاصه , لا لباس مزركش ولا حذاء منقوش.
سرعان ما لملمت الشمس اشعتها, واقفلت على نفسها ابواب الظلام. والحمار لم يعد. فانتقل ابو كنعان من حالة الانتظار, الى خانة القلق , لعدم عودة حماره . فهذه ليست من شيم هذا الحمار, ان يبيت خارج الدار.
مر الوقت, والرفيق لم يعد. مما حذا بابي كنعان, الانتقال الى مرحلة خطيرة, مرحلة ارق الليل الشتائي الطويل. ينتظر افراج الشمس عن اشعتها, ليتبدد الظلام, ويرفع راية الانهزام, امام تباشير الصباح, الذي يعلن عن قدومه بحلول اول تكبيرة في الصلاوات الخمس.
هذا الوضع التعيس,لا يسبب الخوف الشديد في قلب ابي كنعان, فهذه حالة عرضيه, يستطيع ان يلتمس الاعذار فيها لحماره على غيابه .
لعلها كانت العاصفة الشديدة, ارغمته على اللجوء الى احد الكهوف, ليتقي شرها .
او لعله اعجب بحمارة قد اغوته, فاستضافته في ليلة عاصفة , رغم انه موصّى بان لا ينجر وراء المنحرفات .
او ربما ذهب ليعمل وردية ثانية, ليؤمن نفقات رحلته الاستجمامية, الى مملكة الحمير المجاورة.
لكن, فكرة ان يكون قد اغتيل على يد الوحوش المفترسة ,لم تراود ابا كنعان, وذلك لمعرفته حق المعرفة, ان هذا الرفيق مدرب, على خوض اعنف المعارك, والمشادات اليدوية, واستعمال احدث انواع الركلات . كيف لا وقد شهد له التاريخ , مواقف بطولية, استطاع التغلب فيها على اعتى المستعمرين .
لاح الصباح يحمل معه هدوء العاصفة. وخرج ابو كنعان يجوب الكروم . ينادي باعلى صوته :ايها الرفيق .ايها ارفيق . لكن لا اثر للمذكور, ولا حياة للرفيق.
بحث في كل كهف ومغارة , بحث في كل رقعة ارض وحارة. عله يرى بقايا لحم, او عظم, فيما اذا غدر به ,لكن بدون جدوى.
بدأ الخوف يساور قلب ابي كنعان, الذي اخذ يميل للاستسلام, بان رفيقه لن يعود الى الدوام .
عاد ابو كنعان ادراجه الى البيت. يجر اذيال الخيبة من ورائه . واثناء عودته , قرر ان يعرّج على القرية المجاورة لقريته , وذلك من اجل استمرار مساعيه الحميدة, من اجل العثور على الرفيق, والتي بدأها ببيت صديقه ابي" شلومو". فمهما يكن من اختلاف الدين, فهو في النهايه من ابناء العمومة. وقد لجأ كثيرا لابي كنعان, لطلب المساعدة, وقت الضيق. وكان ابو كنعان دائما, طلائعي في المساعدة, واكرام المحتاج . ولم يكن يبخل عليه بشيء . فحتي بيت ابي شلومو لم يكن ليبنى , لولا مساعدة ابناء ابي كنعان .
رحب" ابو شلومو" بابي كنعان اشد الترحاب, فقد كان يعتبره من اعز الاحباب, وقدم له الشاي الممزوج بالحزن الشديد, على فقدان الرفيق ,محثا اياه على الصبر والسلوان , ومن المكتوب لا مهروب .
رشف ابو كنعان, رشفته الاولى من فنجان الشاي الساخن ,آملا ان يهديء من روعه, ويخفف من حدة مزاجه المتوتر. لكنه ما ان رفع بفنجانه الى فمه, واستوت عيناه, حتي لمح حمارا,مربوطا في ساحة البيت
يا للعجب !!!!! هذا الحمار يشبه حماري في كل شيء , الانف , الفم , العينان , الاذنان , الرأس , الذنب . حتى النظرات الثاقبه, التي كان يرمق الحمار بها ابا كنعان, عندما يغضب منه, او يحمله ما لا طاقة له به .
نظرات عتاب , وكأن لسان حاله يقول : يا خسارة خدمتي لك يا ابا كنعان !!!! الم تتعرف علي رغم عشرة العمر الطويله!!!!! يجب ان تعرفني قبل مغادرتك هذا المجلس اللعين, ايعقل ان الحمار يتعرف على صاحبه , اما صاحبه تغيب عنه اوصاف حماره .
يا الاهي , اني اكاد ان اجن , نسخة طبق الاصل من حماري ونظراته . لكني لا استطيع ان ابوح بذلك لابي " شلومو" او اعلن بانه حماري . وذلك لسبب بسيط جدا ,هو ان حماري ابيض اللون وهذا اسود .
ومع كل هذا قرر ان يوجه كلامه لابي" شلومو" قائلا : يا ابا " شلومو" !!! لم تعرفني على حمارك, الذي لم اعهده من املاكك سابقا .
- انه اخوك ابو الصابر. لقد حررته حديثا, من مالكه السابق, حيث اوقع فيه اشد انواع العذاب, والاضطهاد. القى عليه المهام, ليلا, ونهارا. وكما ترى فالسرور يظهر على محياه , لنيله حريته واستقلاله.
- ولكني المح في عينه الجفلان منك!!!
- لا عليك يا ابن عمي , ساروضه واعوده على مالكه الجديد .
هم ابو كنعان بالانصراف , لكنه عاد وجلس, بعد الحاح مضيفه في البقاء, حتى تتوقف الامطار التي اخذت تنزل بغزارة.
هذه الامطار, التي اصرت على السقوط بكميات هائلة, ارادت منع ابا كنعان, مغادرة المكان, لتكشف له جريمة لا تغتفر, هذه الامطارلم تكن الا جند, من جنود الله. اراد بها ان تطهرالقلوب, من الخبث. وتغسل االرفيق, من الدهان, الذي صبغه به ابو سليم . نعم ظهر الرفيق بلونه الابيض الاصلي , بعد ان زالت عنه الاصباغ السوداء, من شدة وقع الامطار, على جسمه, ليعود الى احضان ابي كنعان . ومهما يكن.لا بد للقيد ان ينكسر , وتزول الاصباغ , ويعود الحق لاصحابه .
هذه قصة روتها لي ارض تدعى فلسطين .
قالت : صبرت كما صبر الحمار .
خدمت اهلي كما خدم الحمار.
غيروا ملامحي كما غيروا ملامح الحمار.
لكن الحمار نال استقلاله , لمثابرة صاحبه ونضاله في البحث عنه .
اما انا فاهلي يمرون عني ويتنكرون لي .
فلن تنزل الامطار لتزيل الصباغ عني ما داموا لا يبحثوت عني .
قد نسوني !!!!!
واخاف ان ياتي يوما , لن يعرفوني, من كثرة الاصباغ المتراكمه على جلدي.
فامانة ايها الاديب . ان تخبر اهلى, اني مشتاقة لهم, واني في الانتظار.
قل لهم : فلسطين بحاجة لصلاح دين .