اللحظات الأخيرة في حياة رجل؟!

أبو الفرج الناعوري

أبو الفرج الناعوري

(نُقل عن أمير المؤمنين عمر قوله لرجل: والله –ما كان- أبغض إليّ منك، ولكنك حين أسلمت صرت أحب إليّ من بعض بني الخطاب).

تمدد على فراشه، وهو يشعر بارتياح بعدما أنهى تلاوة الآيات التي حددها لنفسه كل يوم! وارتسمت أمام عينيه لوحة ذات إطار جميل في داخلها قوله تعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم).. تنهد وأخذ نفساً عميقاً أحس فيه ببرودة تحمل أرقى معاني الاطمئنان، تذكّر لقاءه مع محاميه وقد سلمه وصيته قبل أيام، ولاحظ أنه كان شاحب الوجه، فاتر البسمة على غير عادته وأنه حاول أن يخرجه من هذه الحالة، فأكثر معه الحديث، وأفهمه أنه لا يتوقع سوى الإعدام، وأنه وقد تجاوز السابعة والستين لم يعد له رغبة في عيش، وحسبه أنه يعيش لحظات إيمانية، وقد تفرغ لتلاوة كتاب الله الذي شغلته عنه أمور الحياة والسياسة، وأنه قال للمحامي:

- نحن هكذا –يا أستاذ- فالذين ماتوا من أهلنا على فرشهم قلة، وأنا اليوم راضٍ كل الرضا بقضاء الله، بل وفخور بولديّ وحفيدي الذين آثروا أن يموتوا دفاعاً عن أهلهم وبلدهم، على أن يقعوا في قبضة العدو؟! لعلك تصدق أنني لم أذرف دمعة عليهم، بينما ذرفت عيناي وأنا أرى علم المحتل يرفرف في سماء بلادي، وأرى العملاء الذين يحسبون على بلدي، يتهافتون على  أعتابه؟!

لم يكن المحامي في حاجة إلى مجاملة رجل ينتظر الموت بمثل ثباته فقد شهد جلسات محاكمته، وقد كان في كثير منها ينقلب إلى قاضٍ، ويحصر القضاة الذين عيّنهم المحتل والعملاء في قفص الاتهام.. توقف عن الكلام حين رأى أن المحامي لا يزيد في حواره معه على ابتسامة باهتة وهزة رأس وكلمة: أعرف –والله- أعرف.

قال وهو يبتسم ثم يتحول إلى الضحك بصوت عال:

- يخوفونني بالموت؟ يا مرحباً بالموت! لقد وصلت إليه مرات ومرات في حياتي! وأنا –والله- لست حزيناً على شيء يهمني شخصياً، ولكنني حزين على بلدي.. على أمتي.

أراد المحامي أن يقول بعض الكلمات مواساة أو تشجيعاً فاحتبس الكلام في شفتيه.. لقد مر به كثيرون ممن وُكل إليه الدفاع عنهم، كان بعضهم ينهار، وبعضهم يحاول الانتحار.. قلّب شفتيه تعجباً من اختلاف الناس؟!! فقال وكأنه استشف ما في أعماقه:

- لقد عرضوا عليّ قبل الحرب وبعدها، وقبل الاعتقال وبعده، وحتى هذه اللحظات عروضاً هي في زعمهم تنجيني من حبل المشنقة، وتهيئ لي حياة آمنة..

ثم ارتفع صوته في غضب وكأنه يخاطب الآلاف:

- لا –والله- وإن الموت أحب إليّ من أن أكذب على شعبي وأخونه، وقد ضحى ولم يبخل..

حين مد المحامي يده مصافحاً، وقد انتهى وقت المقابلة قال له:

- سلّم على إخوانك واشكرهم، ورحم الله من قُتل منهم، إن وقوفكم معنا وقد جئتم من خارج البلاد يثبت لنا من جديد أن أمتنا لا تزال بخير.

*  *  *

لم يكن نائماً حين فتح باب الزنزانة ضابط أجنبي كبير ومعه عدد من الجنود، كانوا صامتين، بل كان بعضهم لا يحدق في وجهه.. نهض واقفاً فبدا لهم أكبر من قامته، على الرغم من طوله.. تقدم أحدهم ووضع القيود في يديه ورجليه.. لم يكن هناك حاجة إلى من يترجم، فالعيون وحدها كان لها حديث أفصح من الكلام.

مشى معهم وهو يرسف في القيود.. أُصعد إلى السيارة المغلقة التي مضت به، ليجد نفسه في أحد الأقبية؟! كان الذين ينتظرونه قد أخفوا وجوههم بالأقنعة فلم يظهر منها شيء، وكان القاضي الذي عيّن لمحاكمته هو الوحيد الذي لم يخف وجهه، تلا عليه نص الحكم للمرة الثانية، فابتسم وهو يديم النظر في القاضي الذي تمنى لو أنه أخفى وجهه كالآخرين، ولكن ماذا يضره إذا عرفه، طالما أنه لن يلتقي معه مرة أخرى!

أجال النظر في غرفة الإعدام وفي وجوه المقنعين الذين حاولوا إسكات مجموعة من الغوغاء، كانت تهتف بموته وحياة خصومه، وتظهر الشماتة، ويهنئ بعضهم بعضاً فقال في زهو وتحد كبيرين غير عابئ بهم:

- هذي هي المرجلة؟!

اقترب أحد المقنعين يعرض عليه أن يضع له قناعاً يغطي وجهه لئلا يرى حبل المشنقة، فرد عليه بكلمات موجزة نطق بقسم منها لسانه، وبقي قسم آخر في نفسه:

- أعلم أنني سألقى الله بعد قليل، وأنا لا أحتاج إلى قناع إنما يحتاج إليه الآخرون..

أمسك الجلاد بيده إلى حفرة الإعدام، ووضع الحبل في عنقه، فلم يهتز له عرق، ولم يرف له جفن.. تذكر أن المصحف الذي صحبه طيلة مدة سجنه هو كل ما يملك من دنياه، وأن الدنيا فانية، وأن البقاء لله وحده، فهتف بالشهادتين بقوة ويقين:

- أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

لم يكن خائفاً من الموت، ولم يكن يائساً من رحمة الله وعفوه ومغفرته، فحسبه أنه لم يتب عند الغرغرة بل جدد تأكيده على إيمانه بنطق الشهادتين اللتين حاول أن يعمل بمقتضاهما قبل عقد من الزمان، ويصحح مسيرة حياته على هَدي منهما.

*  *  *

هوى الجبل، فتراكض المقنعون وهم لا يكادون يصدقون، ووضعت الجثة جانباً، وانطلقوا وقد حسروا عن وجوههم إلى القاضي ليحملوه على الأكتاف وهم يهتفون بموته.

*  *  *

حين كان المحامي يتابع أخبار الصباح فوجئ بخبر الإعدام مع أنه كان يتوقعه، فنهض واقفاً وهو يصيح:

- مات الرجل.. قتلوه قتلوه.. لا هنأهم الله بعده..

كانت تكبيرات العيد تملأ المكان فانطلق إلى أقرب مسجد وفي عينيه دمعتان صامتتان؟!!