مجاهدة فذّة

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

أورد ابنُ الجوزي في صفة الصفوة عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي..

وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني ، فسأله سائل فقال : يا أبا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو

قال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك:

خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ في سوريا على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل إذا بالباب يطرق عليّ ، فلما فتحت الباب فإذا بامرأة حصان قد تلفعت بجلبابها

قلت : ما تريدين؟

قالت : أنت أبو قدامة ؟

قلت : نعم

قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟

قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية، فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها: إنك دعوتنا إلى الجهاد ، ولا قدرة لي على ذلك ، فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي.

قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة. فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك إذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله ، قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً.

قلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال

قلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك.

قال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة.

قلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟

قال : أبي قد قتله الصليبيون ، وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي.

قلت : أعندك والدة ؟

قال : نعم

قلت : ارجع إلى أمك ، فأحسن صحبتها ، فإن الجنة تحت قدمها

فقال : أما تعرف أمي ؟

قلت : لا

قال : أمي هي صاحبة الوديعة

قلت : أي وديعة ؟

قال : هي صاحبة الشكال

قلت : أي شكال ؟

قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟

قلت : بلى

قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع ، وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك

الله الشهادة فاشفع فيَّ.. ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت بصرها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي، هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه وأخواله..

ثم قال: سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سني..

قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً.

فنزلنا منزلاً..وكنا صائمين وأردنا أن نصنع فطورنا..فأقسم الغلام أنه لا يصنع الفطور إلا هو..فأبينا وأبى..فذهب يصنع الفطور..وأبطأ علينا..فإذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهب وانظر ما فعل صاحبك ، فذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع  فوقها القدر..ثم غلبه التعب والنوم ، ووضع رأسه على حجر ثم نام.. فكرهت أن أوقظه ، وكرهت أن أرجع الى أصحابي خالي اليدين..فقمت أصنع الفطور، وأنظر الغلام..فرأيته يبتسم نائماً .. ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأ يضحك ثم اشتد ضحكه،  ثم استيقظ.. فلما رآني فزع وقال: ياعمي أبطأت عليكم ، دعني أصنع الطعام عنك..أنا خادمكم في الجهاد.

قال أبو قدامة: لا والله ؛ لست بصانع لنا شيئاً حتى تخبرني ما رأيت في منامك فجعلك تضحك وتتبسم.

قال: يا عمي هذه رؤيا رأيتها..

قلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها.

قال: دعها.. بيني وبين الله تعالى

قلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها

قال: رأيت ياعمي في منامي أني دخلت إلى الجنة فهي بحسنها وجمالها كما أخبر الله في كتابه..فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنها وجمالها رأيت قصراً يتلألأ أنواراً , لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من الذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذا بجواري يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجب من حسنهن فإذا جارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري ، وإذ بها تشير إليّ وتحدث صاحبتها وتقول : هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية..

قلت لها أنت المرضية؟!

قالت: أنا خادمة من خدم المرضية..تريد المرضية؟؟ ادخل إلى القصر، تقدم يرحمك الله  ، فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس، لولا أن الله ثبتني لذهب عقلي لِما رأيت من حسن الجارية .

فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي .. فلما سمعت كلامها اقتربت منها وكدت ان أضع يدي عليها ، فقالت : يا خليلي يا حبيبي ؛ قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غدًا بعد صلاة الظهر.. فتبسمت لذلك وفرحت له يا عم.

قلت له: رأيت خيرًا إن شاء الله.

ثم إننا أفطرنا ومضينا الى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا..وصف الجيوش قائدنا..

وبينما أنا أتأمل في الناس بحثت عن الغلام  فوجدته في مقدمة الصفوف ، فذهبت إليه قائلاً: يا بني أأنت خبير بأمور الجهاد؟ قال : لا يا عم هذه والله أول معركة أخوضها مع الكفار.

قلت يا بني إن الأمر على خلاف ما في بالك إن كنت تظنه سهلاً!، إنه قتال ودماء. يابني كن في آخر الجيش ، فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين وإن هُزمنا لم تكن أول القتلى..

فقال متعجبا: أنت تقول لي ذلك؟؟

قلت: نعم أنا أقول ذلك.

قال : أتريدني أن أكون من أهل النار؟!

وما نحن هنا إلا فراراً منها ورغبة في جنة الله  قلت أعوذ بالله.أن نكون من أهلها ،

فقال الغلام: فان الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

هل تريدني أن أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار؟

فعجبت والله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له : يا بني إن الآية مخرجها على غير كلامك..فأبى أن يرجع فأخذت بيده أُرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده عني فبدأت الحرب وحالت بيني وبينه..

فجالت الأبطال ، ورُميت النبال ، وجُرِّدت السيوف ، وتكسرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل .. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ،

وقال كل خليل كنت آمله        لا ألهينك إني عنك مشغول

حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزم الله جل وعلا الصليبين

فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كل منا يبحث عن أهله ليس هنالك من يسأل عنه إذ بصوت يقول: أيها الناس ابعثوا إلي عمي أبا قُدامة ،  ابعثوا إلي عمي أبا قدامة..

فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام ..وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسان ، وفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام ...

قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، متلهفاً وصرخت : ها أنا أبو قدامة ، ها أنا أبو قدامة..

قال : الحمد لله الذي أحياني كي أراك، فاسمع وصيتي.

قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه التي فجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجع الآن به ، وأخذت طرف ثوبي أمسح الدم عنه .

قال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحق به من ثوبك..

قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً..

فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، فتبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قُتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأنني سأوصل  سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة  ..

 ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك ، فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وقل لها إن الموعد الجنة إن شاء الله..

يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا فستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلتُ المنزل إلا استبشرتْ وفرحتْ ، ولا خرجتُ إلا بكتْ وحزنتْ ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم ، وإنها قالت لي عندما رأت عليّ ثياب السفر : يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا ، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات .. وقل لها يقول لك أخوكِ: إن الله خليفتي عليكِ..

ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها ..ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات ، ثم مات.

قال أبو قدامة : فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَ أمه رسالته .

رجعت إلى الرقة فوقفت على باب منزل عليه جارية صغيرة لا ترى رجً عله آثار السفر إلا سألته عن أخيها وهم يقولون : ما ندري من اخوك فتزداد هماً وغماً ، فتبكي وتقول : مالي أرى الناس يرجعون ، ولا يرجع أخي ؟!

فلما رأيت حالها أقبلت عليها..فرأت علي أثر السفر فقالت يا عم من أين أتيت قلت من الجهاد فقالت معكم أخي فقلت أين هي أمك؟؟

قالت: في الداخل ودخلت تناديها..فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت: يا أبا قدامة أقبلت معزيًا أم مبشرًا؟؟

قلت: كيف أكون معزيًا وكيف أكون مبشرًا؟

فقالت: إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قُتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر فأنت تبشرني أن الله قد قبل هديتي التي أعددتها من سبعة عشر عامًا. وإن كنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالمًا معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لم يقبل هديتي إليه..

قلت لها: بل أنا والله مبشر : إن ولدك قد قتل مقبلاً غير مدبر..فقالت ما أظنك صادقًا وهي تنظر إلى الكيس ، فتحته وإذ بالدماء تغطي الملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستِه إياها بيديك؟

 فقالت الله أكبر وفرحت.. أما الصغيرة فشهقت ثم وقعت على الأرض ، ففزعت أمها ودخلت تحضر لها ماء تسكبها على وجهها.. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها..ووالله مازالت تشهق وتنادي باسم أبيها وأخيها حتى ماتت.

فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقت الباب وسمعتُها تقول: اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك ، اللهم أسألك أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك.