رجل الثلج

صدقي موسى - كاتب وصحفي

[email protected]

ما الذي اخرجني في هذا الجو المثلج؟ البرد يقتحم الجسد، يهتك حرمة دفء العظام، يطفيء حرارة دمي، ينسج خيوطه الشائكة في صدري وحول الرئتين، اهو الحنين الى برد الوطن وثلجه الذائب مع اول اشراقة للشمس؟، اهو الحنين الى اشجار سرو ارتدت حلة بيضاء كعروس ليلة زفافها، بينما كانت كرات الثلج تتقافز بيني وبين ميس؟

وقتها، لم أكن اشعر بهذا البرد السيبيري، لم تصطك اسناني، لم تتراقص عظامي، الثلج كان يذوب من بهجة يدي، انفاسي حارة كانفاس حصان جاب قيعان الاودية، والسهول المغموسة بمياه الامطار.

"السترة" الفروية التي ترتديها اضفت لجسدها الرقيق نضجا كزهرة ساعة تفتحها، اطلقت ضحكة مبتلة بمرح طفولي عندما اصابتني بكرتها الثلجية بوجهي، انطلقت تجري، اختبأت خلف السروة الكبيرة التي حمتها من كرات الثلج التي داعبتها بها، اسمي واسمها ما زالا نديين على جذع هذه الاشجار، حفرتهما في الربيع الماضي، وتحتهما كلمات، ندبات، اسميتها وقتها شعرا، كانت اول كتاباتي غير الدراسية.

زقزقة عصافير ما زلت اسمعها، صيحات اطفال اخرين مترامية بين البيوت وفي الساحات تنطلق بين الفينة والاخرى، ومن بيتنا تنبعث رائحة دخان الحطب الذي يحترق في "كانون الفحم"، جدران البيوت ارتدت حلة مائية زادتها رونقا، كل شيء بدا نظيفا، طاهرا، متلهفا لمزيد من الحبيبات الرقيقة البيضاء.

"ميس، تعالي، اين انت؟"، ما ان سمعت الصوت الخشن حتى افقت على احساس بالبرد، بالثلج، نظرت اليها برجاء، تجولت بنظراتها بيني وبين مصدر الصوت، كفة الصوت رجحت، احتضنها الممر الطويل المؤدي الى بيتها، انكمش جسدي، زقزقة العصافير غابت معها، تمنيت ساعتها لو تشرق الشمس، ويذوب ثلج الشوارع والاشجار، ويبقى "رجل الثلج" الذي صنعته اناملها.

"انتبه"، صرخة تحذير لم أفهم معناها الا وكرة ثلجية تنثر شظاياها على ملابسي، نظرت بغضب الى الاطفال الذين تجمدت نظراتهم وحركات اجسادهم، قطبت جبيني، و...، "اعذرنا استاذ، لم نقصد"، قالها طفل في مراحله الدراسية الاولى، وخلفه تقف طفلة كزهر الاقحوان بثيابها الصفراء والبيضاء، ذاب جليد وجهي وكشف عن ابتسامة مكبوتة وعيون حزينة، تنهدت، اكملت طريقي لاحقة بي دمعة حارة، بينما يحجز "رجل الثلج" الاطفال حوله.