في انتظار عزرائيل

محمد المهدي السقال

محمد المهدي السقال

القنيطرة / المغرب

[email protected]

نحيب وعويل وبينهما تهليل وتكبير بإيقاعات لا تسمع إلا في موت، أطلقت أذنيها في اتجاه الصوت فعاد الصدى بنعي في البيت قبالتهم، لم تجد صعوبة في تحديد زاوية الغرفة التي لم يطل منها '' الحاج قدور '' كعادته أيام كان، منذ أكثر من عام، نفس الطقوس في الشمال كما في الجنوب، تعددت الجهات واللغات والموت واحد، كان أبي ينصح بالإسراع في دفن الميت إكراما له، وكنت أفكر باستمرار في سبب آخر لذلك الاستعجال، ليس سوى الخوف من عدوى تحلل الجثة التي يصيبها النتن، حين قضى أبي في أرذل العمر، تنفسنا الصعداء كل في سره، مع بداية المرض الذي نال منه، ظهرت عليه بوادر الخرف، فأخذ منه النسيان مأخذه، حتى صار كثير السؤال عن أشياء مرت به كأنها لم تكن،كم تحلقنا حوله نتسلى بحالاته، بعدما ألفنا منه الدخول والخروج بلا استئذان في الكلام، تضبطنا الوالدة في حالة تلبس، تنهرنا ، فيتفرق المجمع، يسمح لي بولوج غرفتهما بعد النداء علي لغرض، آخر مرة، وجدته في حضنها وهي تبكي كدت أصرخ، أشارت علي بكفها أن اثبتي ، فتراجعت، لمحت ابتسامة تخالط انبساط جبهته من الجهة اليسرى، أصيب بنوبة طارئة من نوباته، يغيب فيهمد ، ينقطع حبل أنينه، فتمدده أمي ليستغرق ما تبقى من الليل مسنودا إلى وسادة كالخشب، لكنها هذه المرة ، تأخرت كثيرا في وضعه على الجانب  الذي ينام عليه، نطقت همسا خافتا كلمات لم أستبنها فدنوت منها ، كان أبي هامدا وذراعاها حول ظهره، نادي على أخيك عصام، بدأ يتلاشى الشك لفائدة اليقين، أمي، هل ؟

وذرفت عيناها سيلا من الدموع كانت محتبسة ، صرخت بملء عقيرتي أندب موت أبي، فردد صدى الليل حشرجة عميقة ما زالت ترن في أذني، وهذا نحيب في البيت المجاور، لا يشبهه غير البكاء على ميت، حكت لي '' مليكة '' عن أبيها عمي '' الحاج قدور''، كيف تراجع ملك الموت بجلال قدره أكثر من مرة، بعدما نكون قد أسلمنا روحه لباريها، سألتها يوما عن معنى هذه الجملة فاضطربت ، حتى في الموت تلحين في السؤال،لم تؤمني بعد، وربطت حكايتها بما أجمع عليه الأطباء، لم يمهلوه أكثر من شهرين بعد وصفة طويلة عريضة مصحوبة بلائحة التعليمات في نوعية الوجبات ومواعيد الدواء، لكنه عاش بعد ذلك سنتين ، و بأقل الخسائر ، ظل يتمنع في تناول المقادير المحددة ، فخف علينا حمل تعب التردد على تلك الصيدلية التي صارت دكانا لا يختلف عن حانوت '' با ابراهيم '' إلا في بدلة البائعين فيها ، ذات يوم، تساءلنا عن الفرق بين الدجالين في الحلقات وهم يعلنون عن إشفاء كل الأمراض، و هؤلاء الصيادلة الذين يمدونك بالدواء المناسب لما تصفه لهم من حالات، كل يبيع سلعته بشطارته وهدف الربح والابتزاز واحد، و حكت لي مليكة عن النوبات التي تعرض لها أبوها ، حتى ألفوا غيبوبته ، فإذا استفاق في الصباح على أنين ألم حاد يمزق معدته ، هلوا عليه وحسبوا اليوم عمرا جديدا كتب له، أتوه بالشريفة '' القاسمية '' رغما عنه في أيامه الأخيرة، فوقفت على رأسه بطقوسها الأسطورية، تراود أجله المحتوم في مغازلة سافرة لعزرائيل، حتى سال لعابها من فرط تخشعها وهي تردد شفرات تعاويذها ، قيل إن الحاج '' قدور'' حرك شفتيه بما يشبه الابتسامة الباردة وهو في النزع الأخير بين يديها، شكرت أمها '' الشريفة القاسمية '' لأنها جعلته يلاقي ربه مبتسما، وساهمت قدر ما تستطيع في الترويج لكرامتها، كانت أمي سباقة إلى موقع الصراخ ، هرعت عارية الرأس، لعل الموقف أنساها لف ذلك الثوب الأسود على رأسها إلى الكتفين، تمنيت لو كان لي مثل شعر أمي الشقراء ، أم مليكة أيضا كانت سباقة دون غيرها إلى أمي في نفس الموقف، خمسون عاما من الجوار، عاشتها الأسر التي حملها الفيضان إلى هذه الدور الرخيصة، حي'' المناكيب '' ، هكذا نكتب عناويننا في السجلات الرسمية، لا من رأى ولا من سمع ، لا نختلف عن باقي سكان الحي إلا في درجات البؤس، تحكي أمي عن عهد الحماية وتتحسر، لم أفهم حسرتها إلا بعد عشرين عاما أو يزيد، تقول: ألقي بنا في هذه الأطراف و تنوسينا إلى الأبد، بعد خمسين عاما ما زلنا نطالب بالوادي الحار، وتقوم الدنيا ولا تقعد في مواسم الانتخابات ، كلهم أولاد الحرام، سمعت أبي يحاول صدها عن التمادي في السخط حرصا على عدم سماعنا باقي التفاصيل ، مسكين أبي، مات ولم يعرف ما كنا نعرفه.