الرصاصة الأخيرة

عصام أبو الدهب

[email protected]

وقف الجنود السبعة ـ وتجاعيد الصمت قد تكهلت غائرة فيهم ـ يتلقون أوامرهم من قائدهم العسكري الذي يحمل على كتفيه العرضين، وصدره الفسيح رموز عقله وحكمته، حاجباه كأنهما هرمين تكاثرت عليهما الخطوب والمحن فتفرقت أحجارهما، شفتاه سوداء غليظة كأرض عريضة اكتظت بخصب شديد التدفق من غير فائدة، يطلق من بين هاتين الشفتين زبدا غزيرا جدا، له رائحة الزيت وليس فيه نفعه، بدت عليه علامات التوتر والتشنج جراء حادث ألمَّ به.

ملابسهم العسكرية يتضح من المنظر العام لها أنها مختلفة، وتعاني من انعدام انسجام بعضها البعض، في وجه كل واحد منهم لغز محير.. عين تسكنها البراءة وأخرى يشع منها المكر .. يد مبتسمة لنعومتها وأخرى كالحة قابضة على الوهم.. رِجْل أقصر من زمن الهزيمة وأخرى أطول من أيام الذل والانكسار.

تساءل الجنود السبعة متحيرين عما يريده الضابط منهم، فهم لم يرونه في هذه الحالة من قبل... فعيناه حمراوان كالكرز المر، وأنفه منتفخ كبرميل ضعضعته الأيام، وأسنانه تصطك بشدة مثل قطار أنهكه اختلاف قضبانه؛ فما زال يصدر أصواتا تنمُّ عن خوف من الانهيار، فتح فمه فتدلت شفتاه؛ يسقط منها لعاب أرزق ككلب تساقطت عليه الكلاب لتنال من عوائه المزعج فتكاثرت عليه فجاءة فكأنما نبهت فيه غرائز التخوف المتنمر ممن أستأسد عليه.

ابتسم أحدهم  بين كفيه عندما رأى قميص قائده مفتوح الأزرار يندفع شعره الكثيف منه الذي حاول أن يخفيه مرارا ولكنه فشل في ذلك، يسبب له كثيرا من الحساسية عند لقاء الآخرين، كثرته وكثافته أخفت لون بشرته... أشار إليهم بيدين متصلبتين ..وفجاءة ترتعشان  كصمت خائف امتزجت به صيحة الفزع.

تساءل الرجالات السبعة، ما له سيدنا؟ تنثال كلماته الملونة علينا بأطياف من الإقناع والقهر كالرعد المزمجر والبرق الخاطف.

نظر إليه جندي خبيث، وقال بصوت ساخر مغازل: سيدي أرى قدميك ترتجفان، أقصد أنك بحاجة إلى كرسي تجلس عليه لتستريح من هذا العناء، فلتجلس يا سيدي، ولا تحمَّل نفسك فوق طاقتها.

 هدر فيه الضابط بعنف:" اسكت أيها الصعلوك.. إن لم أكن أنا الذي يحرككم ويلقي عليكم الأوامر لتدمير هذا الوحش..فمن يكون؟!!

 وتوجه بيده اليمنى بعنف إلى رقبة الجندي الخبيث لولا أن تدارك أمره، وتذكر أن الوقت لم يحن بعد..تراجع متظاهرا بالهدوء الرمادي.

 وبحركة فجائية أخرى طاشت يده لتسقط عقله المتمثل في قبعته العسكرية مما أصاب الجنود بالدهشة البلهاء، فارغين أفواههم في بله مصطنع غامزين بأطراف عيونهم عندما شاهدوا خيطاً رفيعاً من دمٍ يسيل من بين خصلات شعره المتناسقة في ترتيب عجيب، فنظر في تجاعيد جباههم بارتياب، فهم شباب كهَّلتهم وقائع منسية في دروب هذه التجاعيد التي تزداد تكلثاً مع كل ابتسامة سخرية تنبع منهم.

 حاول الضابط أن يعيد القبعة إلى رأسه ليستعيد عقله واتزانه، وبإشارة من يده إلى القبعة توافد عليها السبعة ليرفعوها من الأرض إلى رأسه، وبعد أن وضعوها، وثبتوها في مكانها، نهرهم ليقفوا في أماكنهم، وألا يتحركوا إلا بعد أن يصدر لهم الأوامر، فتسارعوا في غوغائية كي يقف كل واحد منهم في مكانه، ولكن تنبه السبعة إلى أنهم لا يقفون في أماكنهم الصحيحة، وتذكروا الأمر ـ أن يقفوا في أماكنهم ـ  وتردد في آذانهم وفي قلوبهم، وتلاحقت نظراتهم بينهم بأن إصلاح الوضع واجب.

حاولوا أن يرجعوا إلى أماكنهم الصحيحة، لحظهم..ولاحظوه، فثبتوا في مكانهم الخطأ هائبين محاولين إغماض عيونهم خوفا من النظر في عينيه، تربصوا غفلته، فلما أدركوها، ارتدوا لأماكنهم في صمت...

بعد حين قال لهم: هل أسلحتكم على أتم الاستعداد للعمل..نظروا في تعجب قائلين في صوت خفيض: كل يوم نزيتها ونلمعها حتى صارت تبرق كالمائسات التي نشاهدها على التلفاز تثير فينا الرغبة الجامحة، وتمنع عنا الإرادة الجازمة، اللاتي نشتهيهن و لا نملكهن... ضحك رغما عنه، وقال: صدقتم.

وبعد صمت ليس بالقليل بدر أحد الجنود قائلا: يا سيدي لما لا نجعل هذا الوحش كنزا نستثمره حين الملمات، فاستبقيه، وادخره حماية ودرءا من مجاهل الشرق التي تحيط بنا.

قال ثاني: يا سيدي لا يمكننا إن ننتصر عليه بأسلحتنا هذه فحتى هزائمنا المتتالية أمام هذا الوحش كانت فريدة مبدعة في بداياتها ونهاياتها.

وقال ثالث: يا سيدي لقد امتد الوحش في فراغنا، فلنجعله يمتد في إرادة الآخرين.

وقال رابع: يا  سيدي إن خوفك خوفٌ خاص، فهل يوما نتساوى في الخوف المقنع أو الأمن  الرائع.

وقال خامس: يا سيدي أدرك الأمر إن حجارة الجبال، وصخر الصحاري، وحتى أحجار البيوت كادت أن تتفجر؛ بل وكادت أن تفكر في حقيقة أمر الوحش، فاقتله قبل أن يعرف حقيقته غيرنا.

فترة من الاستماع الذاهل دارت بينهم..تحفز وأشار بيده بأن يقبلوا عليه، فاقتربوا منه حتى تلاقت الرؤوس، وقال: سأعطيكم رصاصات لها قدرات خاصة نحارب بها هذا الوحش، أنها ما أن يظهر ونطلقها حتى تندفع خلفه فتقتله ونستريح منه، فرح الجنود بهذه الرصاصات العجيبة لأنه سيعطي كل واحد منهم عدداً منها.

جلس كل جندي قابعاً في زاوية يتأمل رصاصاته ويعجب لها، وغرقوا في خيالهم الأسطوري الذي لم  يخرجهم عنه إلا صيحة مفزعة أنضت تطلعاتهم، وأنهكت أحلامهم فيمن سيقضي على الوحش أولا بهذه الرصاصات ذات الامتيازات الخاصة، وينال الرضا من الضابط الكبير.

صرخ فيهم، وهو يتلمظ بشفتيه: لقد رصدت الوحش، وسوف نطلق عليه رصاصاتنا جميعاً في وقت واحد، ليكن موته مؤكداً، وبأيدينا جميعاً، نعم بأيدينا جميعاً.

مرت أيام يتلوها ليالٍ، وهم في بحث مسترصد لهذا الوحش الذي جرح الضابط، وسبب له الكثير من الآلام، أطلق الجميع رصاصاتهم بأمر منه ولم يتبق إلا رصاصة واحدة مع أحدهم.

تهالعوا كلهم لاجتماع ليلي، تحاوروا، تشاوروا، وفي النهاية اكتشفوا أنهم لم يقرأوا في البداية الكيفية الصحيحة لعمل هذه الرصاصات التي فُقِدت بلا فائدة، ساعتها أدركوا خطأهم الأعظم، وعرفوا أنه لابد إن يضعوا في تكوين الرصاصة صفات وخصائص هذا الوحش الذي أزعج سيدهم، وأزعجهم، تراصوا في تداخل، وسجلوا جميعاً ما يعرفونه عن هذا الوحش في ملف خاص ثم أدمجوه داخل تكوين الرصاصة، قال أحد الجنود: إن الرصاصة كي تكون لنا بردا وسلاما، وتقتل الوحش قتلا مؤكدا لابد أن نقربها من الموضع الذي جرحته مخالب الوحش كي تشتم رائحته فتتبعه حتى تنال منه.

وبعد تفكير وتقدير للأمر أعلن الضابط أنه سيطلق الرصاصة الأخيرة، تفرق الجنود السبعة ..كلٌ في موقع مختلف كي يخبروه بحقيقة الوضع، ومقتل الوحش.

انطلقت الرصاصة في وقتها المحدد تخترق ما بين الأشجار والبيوت والعيون لا تلوي على شيء أمامها، راقب الجنود الرصاصة وتابعوها، مرت عليهم جميعا، وبعد أن طال انتظارهم، اتجهوا إلى الموقع المتفق على الالتقاء فيه، وجدوه ملقا على وجهه، وقد اخترقت صدره رصاصة، تعجب الجنود وزادت تجاعيد وجوهم، فتحوا صدره، وفتشوا قلبه، واستخرجوا الرصاصة، فازدادت تجاعيدهم غوراً فوق  غورها، وابتسموا ابتسامة سخريتهم، وافترقوا.. فقد كانت الرصاصة الأخيرة.