الشاعر والماجن والتابع
ليلى رابح / الجزائر
يحكى أن جلالة الملكة اللغة الأم عزمت على تزويج ابنتها الأميرة " كلمة " بمن يحفظها ، و يصونها و يرفع شأنها و يعلّي مراتبها أينما كانت . و شاع الخبر سريعا في كل أرجاء المملكة ، فكان أول المسارعين لخطبتها شاعر و ماجن و تابع. كل منهم يدّعي ودّها و الرغبة في وصالها ، و يرسم لها معالم حياة ملؤها السعادة و الحب و التضحية لأجلها .
احتارت الكلمة في اختيار أحدهم ، فكلهم كانوا يجيدون التوّود إليها و لأمها و كلّهم يحلفون بعشقها ، لكن اللغة الأم كانت قد حسمت أمرها باعتبارها أعلم بمصلحة ابنتها لكنها مع ذلك استشارتها في إخضاع خطّابها لتجربة قاسية مريرة ، تختبر فيها حبّهم للكلمة و كيفية صونهم لها و استماتتهم في الدفاع عنها .
جمعت اللغة الأم الشاعر و الماجن و التابع و طرحت عليهم فكرة الاختبار حتى تتأكد من ولائهم لها ، و تحملّهم المشاّق لأجل ابنتها . و طلبت من ثلاثتهم السفر في رحلة تدوم ثلاثة أشهر ليس لهم فيها من زاد غير بعض الماء و القوت ، و تركت لهم حرية التعبير بجميع أدواتها من القواعد و الصرف و النحو و أبنائها من الحروف و التعابير وكل أنواع الجناس و السجع و التضاد و الترادف حتى ترى ما يكون صنيعهم بها .
كانت التجربة قاسية و صعبة ، لكن السفر على حدّ زعم اللغة كان في كل الأزمان ، رغم مشقته متعة في حدّ ذاته و أفضل اختبار يكرم فيه المرء أو يهان ، فالاغتراب و البعد يظهر شيّم المرء كما يختبر قوة جلده و صبره على المحان و الشدائد .
لم يكن بوسع الشاعر و التابع و الماجن رفض الاختبار ولم يكن لهم من بدّ سوى القبول و الخضوع لامتحان الملكة من أجل اعتلاء عرش اللغة و الظفر بالكلمة عروسا .
مضى الشاعر و التابع و الماجن ، و ليس معهم سوى بعض الماء اليسير، ساروا معا طويلا حتى كلّت أقدامهم ، لكن الشاعر مع ذلك ظلّ سعيدا بسيره في الطبيعة ، يحاكي أشجارها و أزهارها، فتتمايل الأغصان بين يديه و تحنو عليه الأوراق ، فيستظل بها .
واصلوا سيرهم إلى أن بلغوا أرضا قاحلة جدباء و قد أنهكهم التعب و العطش ، تضايق الماجن و التابع و ندما في سرّهما على قبول هذا الامتحان العسير، تساءلا ماذا بوسعهما أن يصنعا بأدوات اللغة و تعابيرها في هذه الأرض القاحلة ، الجدبة ، و بأي شيء ستنفعهم الكلمة و قد تقطّعت بهم الأنفاس .
ظلّ الشاعر يعاتب الشمس و يستجدي غوث السماء و هو يتضرع الى الله بالدعاء و الصلاة و يستخدم من كلمات الرجاء ما يتوسّل به لحبّات المطر حتى إذا ما جنّ الليل و هم نيام في أحد الكهوف ، انشّقت السماء عن غيمة مدّرة فتساقط المطر غزيرا ، تضايق الماجن و التابع من صوت المطر الذي أيقظهما و أيقظ معهما إحساسهما بوجع الجوع ، .كانت حياة الماجن لا تحلو سوى في مجالس الأنس و بيوت السمر و لم لا القصور ، يغازل النساء و يترشف النبيذ المحلّى بوجودهن و المعتّق بطول مكوثهن ، و ظلّ يلعن لحظة قبوله الخضوع لهذا الاختبار المهين أمّا التابع فكان يرتجف تحت المطر و يبكي القصور و ديار الأغنياء الذين يتشدّق بمديحهم .أما الشاعر فكانت سعادته لا توصف و راح يراقص زخات المطر متنعما ببركة الله شاكرا استجابته لدعاءه.
و في الصباح ، سار ثلاثتهم حتى بلغوا واحة قد فاض ماؤها من مطر البارحة ، و ربت نخلتها معانقة السماء شامخة ، حاول التابع صعود النخلة يستجدي ثمارها لكنه لم يفلح ، حاول الماجن استمالتها فلم تعطه الى أن جاء الشاعر و استظل بها و قبّلها و سألها عن حالها و هو يناديها يا عمتنا النخلة و راح ينشد فيها أشعارا رائعة و ما أن هزّ جذعها إليه حتى تساقط عليه رطبها جنيّا ، أكل الشاعر من ثمارها وأطعم غريميه و هما متعجبين من أمره و أمرها، شرب ثلاثتهم من نهر الواحة ما أطفئوا به ظمأهم و ملئوا به قرابهم .
كانت اللغة الأم ترقب حالهم و تأتيها رسلها من الكلمات و العبارات بأخبارهم في اللحظة ذاتها التي يستخدمونها فيها .
اشتاق الماجن لساعات السمر و اللهو و المجون و تحرّق بشوق للقصور العامرة بالجواري و الدور الآهلة بالنساء. أما التابع فقد جفّ حلقه و تعبت قدماه و اشتاق للفراش الوثير الناعم و السير تابعا في حاشية الملوك .
أما الشاعر ، فكان مستأنسا بجمال البرّية ، فارسا شجاعا لا يخشى وحوش الغاب المفترسة فقد تعلّم الرماية و المبارزة و القتال قبل أن يتعلم الكلام.
سار ثلاثتهم إلى أن آنس الماجن نارا على بعد يسير منهم، تهلّل وجهه فرحا ، تقدم ثلاثتهم من النار فوجدوا مضارب قبيلة و وجدوا عند مشارفها حراسا أشدّاء. توّجس الماجن و التابع خيفة بينما أقدم الشاعر على مخاطبتهم و طلب عونهم .
قام حراس القبيلة بتفتيشهم فما وجدوا معهم سلاحا و لم يجدوا معهم إلا زادا يسيرا . مضوا بهم إلى رئيس القبيلة و ما أن رأى التابع رئيس القبيلة حتى جرت في عروقه الدماء و انبعثت فيها الحياة ، لم يجد التابع بلاطا يتمسّح به فاكتفى بالتمسّح بزرابي الخيمة العريضة و أنشد من قصائد المدح ما شاء ، و رّنت الكلمة في مسمع رئيس القبيلة فاهتزت نفسه فرحا و فخرا و طربا ، ممّا حمله على إجزال العطاء له و لصاحبيه . وطاب مقام ثلاثتهم في القبيلة ينعمون بما تفضلّت عليهم كلمة التابع ، فكان أن فاز التابع بهذه الجولة ، و كانت اللغة ترقب استخدام التابع للكلمة و صمت الشاعر و الماجن .
و في أحد الايام ، و بينما كان الماجن يتجول في أرجاء القبيلة لمح ثلاث من فتياتها، يضاهي جمال إحداهن الأخرى فتبعهن و هو مذهول و راح يتلصّص عليهن و هن عند العين يتراشقن بمياه الغدير و يغسلن أطرافهن و و يملأن القراب و الجرار.
و راح الماجن ينشد من شعر الغزل ما فاق العفيف منه بكثير فقد وصف دقائق أنوثتهن و هو منتش مسحور ، حتى سمعه أحد رجال القبيلة الذي ثارت ثائرته فقاده الى رئيس القبيلة مذموما محسورا ، و التفتت النسوة إليه فرمينه بالحجارة ، اشتد غضب رئيس القبيلة ، وكاد أن يقطع رأسه ، إذ لم يرع الماجن حق الضيافة . تردّدت صيحات و صرخات الماجن بطلب العفو و الصفح الى أن بلغت مسمع التابع و الشاعر اللّذان أسرعا لتفقد الأمر و رؤية غريمهم الماجن .
فإذا به وسط الساحة و قد أشهر فرسان القبيلة سيوفهم في وجهه و كاد عنقه يتدحرج بينهم ، أسرع التابع بالتملّق لرئيس القبيلة لاتقاء غضبه ، فرح الماجن بغوث التابع له ، و ظن أنه جاء ليخلّصه فإذا به ينشد مؤيدا رئيس القبيلة فيما يحكم به و لو كان بقتل الماجن ، فقد رأى التابع في ذلك تخلّصا من غريمه الماجن الذي ينافسه في الظفر بالكلمة و اعتلاء عرش اللغة .
لكن رئيس القبيلة الذي ثارت حمّيته ، كان شديد الغضب و التذمر و لم يلق بالا لكلمة التابع ، لكن الشاعر تقدّم منه و ترجّاه في دخول خيمته ، حتى إذا جلسا وزال بعض غضبه أنشد مذكرا بشيم الكبار و خصال العفو عند المقدرة و التغاضي عن صغائر الأمور و بسط يد الإحسان للمسيئ حتى يعتدل و يتوب.
كان الشاعر صادقا و قد رأف بحال الماجن الذي غلبته شهوته و سار منقادا وراءها ، تأثر رئيس القبيلة بإنشاد الشاعر و أعجب بسلاسة كلماته و عمقها و صدقها و و قعها على نفسه، فقد استثارت فيه شيم الكرام ، فكان منه أن خلىّ سبيل الماجن و طرده من القبيلة صاغرا ذليلا ، لكنه حكم بإهدار دمه إن رآه ثانية عند مشارف القبيلة ، و كان حكم رئيس القبيلة عدلا .
و تمكن ثلاثتهم من الخلاص بفضل حكمة الشاعر و معروفه ، و اللغة الأم تسجّل كل ذلك في غفلة منهم .
شكر الماجن الشاعر على موقفه و استاء كثيرا من التابع الذي باعه في أول فرصة سنحت له ، فلم يخاطب لسانه ، لسان الماجن طوال الطريق .
سار ثلاثهم طويلا طويلا ، حتى أقبلوا على دخول بلدة كبيرة قد برزت حصونها و قصورها من بعيد .
كان التابع مبتهجا غاية البهجة ، عند مرأى القصور ففيها حياته و معاشه ، ذيلا يتبع السلاطين و الأمراء و ظلا لا يفارق أصحاب الجاه و المال و النفوذ فمعهم صلاحه و بقاؤه .
و لقد كان سروره يضاهي سرور الماجن الذي راح يتخيّل مجالس الطرب و الأنس مع الجواري الحسان التي تعج حجرات القصور بهن. أما الشاعر فقد أعجب بالحصون العالية و عمارة القصور و الأزقة و الشوارع و بارك في سره العقول التي صمّمتها و الأيادي التي بنتها.و ذهل لمرآى جنود أشداء أقوياء و سأل الله أن يكونوا عونا لبسط الحق و العدل و الخير في أرجاء البلدة و ما جاورها .
لكن ما أن دخل ثلاثتهم البلدة حتى رأوا أزقتها خالية إلا من بعض المارّة و رأوا أبوابها و دكاكينها تكاد تكون موصدة كلها إلا من بضع حوانيت . ازدادت حيرتهم و هم يرون الجنود يطوفون من حين لآخر بين الشوارع و الأزقة ، مدججين بالسيوف و الرماح .
اقترب الشاعر من أحد الشيوخ فسأله عن قلة حركة الناس في هذه البلدة الكبيرة . و سرّ كثرة الجنود ، نصحه الشيخ بمغادرة البلدة سريعا إن لم تكن لهم فيها حاجة ملّحة ، فسلطانها جائر ، ظالم ، لا يرحم فقيرا و لا ضعيفا و لا يحنو على مسكين ، يستعبد رجالها و يستحي نساؤهم و يقتل أبناءهم و في ذلك بلاء شديد .
سمع أحد الحراس همس الشيخ للشاعر فنادى أصحابه ، فارتعد التابع و الماجن و همّا بالفرار من البلدة. لكن الحرس و الجنود كانوا قد حاصروهم من كل جانب. و قام أحدهم بركل الشيخ الضعيف. حاول الشاعر أن يذود عنه، لكن عبثا ... فقد لفظ انفاسه بعد أن أوسعه الحراس ضربا . صرخ الشاعر في وجه الجنود و صعق بكلمة الحق فاهتز عرش اللغة ثم ما لبث ان سكن .
قاد الحراس ثلاثتهم إلى المعتقل و عرضوهم بعد مضي سبعة أيام على رئيس الجند الذي عزم على التحقيق معهم فقد حسبهم من الجواسيس .
كان رئيس الجند في جلسة سمر و مجون حينما أدخل عليه الحرس الشاعر و الماجن و التابع . و لكن ما أن رأى التابع رئيس الجند حتى تمسّح بثيابه و أنشد له ما يطيب له مسمعه و خاطره ،أعجب رئيس الجند بإنشاد التابع ، لكنه أعجب أكثر بإنشاد الماجن الذي راح يتفنن في التغزل بجواريه و يحسن وصفهن . ضحك رئيس الحرس من هذين و عزم على اتخاذهما نديمين له . بينما راح يسأل الشاعر عمّا يحسنه من الكلام ، لكن الشاعر ثارت ثائرته فهجاه و هجا صاحبيه فما كان مصيره إلا العودة وراء قضبان السجن الرهيب حيث العذاب الأليم .
و ذاع صيت التابع و الماجن في القصر حتى بلغ مسامع حاجب السلطان الذي أمر بإحضارهما ، فأنشد التابع في مجلس السلطان ما يطيب له خاطره و ينتشي له مسمعه و كان للماجن حظ أوفر في مجالس متعة السلطان و أنسه ، لكنه مع ذلك حرص على عدم التعرض لخاصة خاصته من النساء فلم ينس انه شارف على الموت عندما تحرّش بنساء القبيلة .
و عاش التابع و الماجن و قد امتهنا الكلمة و استخدماها أسوأ استخدام.
و في إحدى جلسات السلطان سأل الماجن و التابع عن سرّ تجمعهما و عن صاحبهما الشاعر فأخبراه ما كان منه في كل رحلتهما ، أعجب السلطان في سرّه بالشاعر و أمر بالاتيان به فإن هو أرضخه تعزّز سلطانه و ضمن انصياع الكل له ، سيّما بعد موقف الشاعر في سوق البلدة بعد مقتل الشيخ و ازدياد حنق الناس للسلطان أكثر فأكثر .
وقف الشاعر بين يدي السلطان فذكرّه بشيم الكبار و خصال العظماء ، كما فعل مع رئيس القبيلة ثم شكا له حال رعيته المظلومة الضعيفة و عبث جنوده بهم و جورهم لهم ، لكن السلطان رأى في شجاعة الشاعر و فصاحة لسانه تطاولا عليه فضربه بكأسه و أمر بسجنه و تعذيبه مدى الحياة .
حبس الشاعر طويلا و ظلّت الكلمة حبيسة ما دام الشاعر محبوسا ، تنتظر تحرّر حبيبها الشاعر و حريتها ، لم يغفل الشاعر عن محبوبته الكلمة ، فراح ينشد قصائده ليل نهار ، يحكي فيها المعاناة و الألم و الظلم و القسوة و يردّد معاني الرجولة و الشجاعة و الإقدام و المواجهة .
كان حارس الشاعر شديد الإعجاب بقصائده ينشدها دونما أن يفقهها حقا و يردّدها على أهله حتى صار أهله يردّدونها على أهل البلدة إلى أن شاعت بين الرعية بأسرها ، و قد كانت قصائده مفعمة بالروح الأبية ، ترفض الظلم و الظالمين و ترددت كلمة الحق في كل أرجاء البلدة ، و اهتز عرش اللغة مجددا و لم يسكن أبدا هذه المرّة . و انتفض الشعب و ثار ضد السلطان الجائر و حرّروا الشاعر من سجنه و ظفر بالكلمة زوجة و اعتلى عرش اللغة ، لأنه بقي وفيا مخلصا للكلمة التي استحقها دونا عن التابع و الماجن .