دولة البيك

محمد حسن فقيه

[email protected]

كابوس ثقيل يرزح فوق صدره المهدود ، أخطبوط يعتصر خصره النحيل يكاد أن يقطعه ، أفعوان يلتوي حول عنقه ويضغط على حنجرته ، خنجر مغروس بين ضلوعه ودمه ينزف ، أنشوطة تلتف حول رقبته وكأنه ينظر إلى نفسه متدليا ، وأنفاسه تكتم شيئا فشيئا  !  .

ضرب بيده على صدره ،  تحسس عنقه ، مرر يده فوق حنجرته . ...   لم يجد حبلا ولا أخطبوطا ، ولا مست أصابعه أفعوانا أوسكينا ، فعلام يشعر بكل هذا الضيق الذي يكاد أن يخنق أنفاسه .

يا للظلم والقسوة من مرتع وخيم !.

في الصباح الباكر اتفق الجميع على رأي واحد ، وأن تكون مطالبهم جميعا واحدة ، وموقفهم مبدأيا ثابتا لا يتزعزع ، وكان الإتفاق على أن يتولى هذا الأمر رشاد ، لما عرف عنه من هدوء وحكمة وتعقل ... ودماثة خلق .

لا بد من وضع حد لهذا الظلم والتجبر، لقد ضاقت الصدور وتأزمت النفوس ، واسودت النظرات .... والقلوب  ، وطفح الكيل .

إنهم يعملون أجراء كالعبيد ، يكدون ليل نهار كالدواب ، يغمسون مرارة الصبر بزيت الظلم ، وفوق هذا فإنهم لا ينالون كفافهم من العيش ، وتنهال عليهم السباب والشتائم كل يوم ، وربما وصل الأمر إلى الضرب بالعصا والجلد بالسوط .

كل هذا قد ألفوه وسكتوا عنه مرغمين ، وفي النفس غصة ، وفي القلب حسرة ، وفي العين عبرة ، ولكن أن يدوس ابن البيك زميلهم صابرا بقوائم فرسه فيشوه وجهه ، ويكسر ضلعين من أضلاعه ، ثم يتركه مرميا على الأرض بدمائه ، ويمضي في طريقه كأن شيئا لم يكن .

ولم كل هذا ؟! ألأنه كان متعبا وقد ألقى بجسده المنهك المكدود تحت ظل شجرة ليرتاح قليلا ؟ ! .

هذا أمر كبير ، تطور خطير ، اختراع جديد يضاف إلى قائمة الظلم الطويلة .......... لا ينبغي السكوت عنه   أبدا .

ما لي أراكم جالسين كأنكم أصناما أو حجارة ؟ أم تراكم لم تعلموا ما حل بصاحبكم بالأمس ؟ ألم تعتبروا من الدرس ؟ أتريدون عبرة أكبر؟ ! .

قال رشاد بهدوء : يا سعادة البيك نريد أن نكلمك بشأن صابر .

- وتقاطعني ؟ !

- لقد سألت ونريد إجابتك .

- عظيم ! وما هي إجابتك أيها التافه !.

- لا أريد أن أحول الموضوع لأجل نفسي ، لكن عليك أن تعلم يا سعادة البيك أن زميلنا صابر في حالة صعبة فقد كسرت أضلاعه وشج رأسه ، ويحتاج إلى نقل للمستشفى للعلاج .

- وإذا لم يتم ذلك ؟

صاح الجميع من الخلف : لن نعود إلى العمل حتى يتم علاجه ، و بعدها لا يتكرر هذا الأمر مرة ثانية مع غيره .

- إنها مؤامرة مبيتة إذن أيتها الصراصير .

-  قال رشاد :هذه مطالبنا ولن نتراجع عنها ، كما أرجو أن تحسن ألفاظك يا سيادة البيك .

- وتعلمني الأدب ..... يا عديم الأدب .

- تأدب يا ولدي واحفظ لسانك .

وتدعوني ولدك أيها التافه .... إنك أحقر من ذبابة ، وها أنا قادم لأريك ذلك  ، وتقدم نحوه بالفرس ، وهجم عليه بالسوط .

أحس رشاد بلذع السوط ، كأنما شرر قد تطاير من عينيه ، كظم غيظه ، ضبط أعصابه ، تحامل على نفسه ، تراجع إلى الخلف وهو يقول له : إخز الشيطان يا ولدي ، ودعنا نتفاهم مع والدك .

قهقه ابن البيك منتشيا بصوت مجلجل : أتريد والدي ليقابل أمثالك أيها الصعلوك ؟ رفع يده بالسوط ثانية ، همز الفرس ، تقدم نحو رشاد ، طوح بالسوط في الهواء وهو يصرخ أرني شجاعتك أيها النذل ... الجبان ، غامت الدنيا أمام عيني رشاد ، طمست المناظر ولم يعد يرى غير صورة صابر، وقوائم الفرس تدوسه ، وصراخه يقرع في أذنه ، وأنينه يجرح القلوب ويدمي الأفئدة .

اسودت الدنيا في عينيه ، تحول إلى نمر شرس أو جمل هائج ، حاد عن طريق الفرس جانبا ، قذف بنفسه نحو ابن البيك ، أمسك بالسوط ، لفه على يده وجذبه بقوة ، تدحرج ابن البيك على الأرض ، كبّ على وجهه وعفر في التراب .

تقدم نحوه رشاد ووضع حذاءه الثقيل فوق عنقه ، والفارس المغوار يستغيث ويصرخ ويستنجد ، وكأنما قد تحول إلى جرذ صغير بين مخالب هر جائع .

جمدت رجله فوق عنقه ، لكنه لم يكمل المهمة ، فقط كان يريد أن يفهمه أنه قادر على سحق عنقه بقدمه ، ولكنه لا يعتبر ذلك رجولة لكون صاحب العنق صبيا .

رمى بالسوط فوق ظهره ، ثم أزاح رجله عن عنقه ، تركه ومضى مستقيما في طريقه ، دون أن ينبس ببنت شفة ، لا يلوي عل شيء ولا يلتفت خلفه .

لملم ابن البيك نفسه ، نهض متثاقلا ، نفض ثيابه ، مسح التراب الذي مرغ وجهه ، ومضى ينشج كطفل صغير من الرعب والهلع ، وقلبه يدق دقات سريعة متلاحقة .

انحنى بعض الرجال يساعدونه ! حملوه على فرسه ، ومضى إلى والده وهو يبكي كطفل صغير.

يا للعار .....! أتعصيه الصراصير ؟! وتمتد أيديهم القذرة إليه ؟

وتعتدي الصعاليك عليه ؟ ويدوس التافه الحقير فوق رقبته ؟ !

ويعفر وجهه في التراب ؟ ! يا للعار والشنار !.  

إسمعوا أيها العبيد : إن دمه مباح لكم ، وأمواله حل لكم ، وجميع أهله رهائن ، سيعملون كالعبيد ، ويضربون بالسوط كل مساء ، ويطعمون الخبز المالح ويمنعون عن الماء ، وكل من يتكتم عن أخباره ، سيؤخذ رهينة وربما يباح دمه ، وسترصد مكافأة كبيرة ومغرية لمن يأتيني به حيا أو ميتا .

انطلق رشاد يغذّ السير في الصحراء ، خوفا من عيون البيك ورجاله ، الذين انطلقوا يتعقبونه ويفتشون عنه في كل مكان ، يقلبون الدنيا عليه ، ولا يتوانون عن التهديد والضرب والتخريب ، في أي مكان يشكون فيه أو يوشى إليهم أنه قد مرّمنه ، أوجلس فيه .

أما رشاد فقد ظل يسير متجها إلى قبيلة الشيخ طراد ، ولما وصل هناك اتجه إلى بيته ودخل عليه قائلا : يا شيخ طراد لقد أتيتك فارا هاربا بجلدي من البيك أطلب جوارك .

 قال الشيخ طراد : وما مشكلتك يا ولدي ؟

فقص رشاد عندها على الشيخ طراد قصته مع البيك وولده ، وما حدث بصابر من كسر أضلاعه وتشويه وجهه بعد أن داسه ابن البيك بسنابك فرسه .

- ولم كل هذا الظلم والقسوة يا ولدي ؟ !.

- لأنه ألقى بجسده المنهك المكدود من التعب ليرتاح قليلا في ظل شجرة.

- لعنة الله على الظالمين يا بني ، حللت أهلا ونزلت سهلا يا بني ، لا تعتبر نفسك واحدا من العشيرة ، بل اعتبر نفسك ضيفا علي .

- بارك الله فيك يا شيخ طراد ، وجزاك الله عني كل خير .

وعاش رشاد في قبيلة الشيخ طراد عزيزا مكرما ، مقربا من الشيخ يقدر رجولته ، ويعتز بشهامته ، ويفخر بشجاعته ، ويكرمه أيما إكرام ، ولم يركن رشاد إلى القعود ويخلد إلى الراحة ، فاستلف من الشيخ مبلغا من المال ، وعمل في التجارة ، ودرّ ذلك عليه أرباحا سدد منها دين الشيخ طراد ، واستمر في عمله فعاش سعيدا منعما من كده وعرق جبينه ، بعد طول عناء وضنك وذل وعبودية ، وتنفس عبق الحرية بعد أن كان يعمل عبدا كآلة صماء عند البيك ، لكن في القلب غصة ، وفي النفس حسرة ، وفي القلب قلق يعتصر الفؤاد ، وهم وشرود يسيطر على كل حركاته ، ويتساءل دائما في نفسه ماذا حل بزوجته وولديه ، هل هم في السجن عند البيك ؟ هل مازالوا أحياء؟ كيف يأكلون ؟ أين ينامون؟      

هل يضايقهم البيك ؟ ماذا حلّ بصابر ؟ وماذا حدث بالرجال الذين كانوا معه ، وراح رشاد يتردد على مفارق الطرق والأسواق لعله يصادف أحدا من أقاربه أو أصحابه .

وبعد طول بحث وعناء شديدين ، التقى بأحد أقربائه ، انشرحت نفسه ، رقص قلبه فرحا ، أسرع نحوه ، دنا منه وحيّاه ، لكن قريبه ظل ينظر إليه كأنه لم يره من قبل .

فك اللثام ، ناداه باسمه ، شده الرجل ، ارتعب وارتعد جسمه ، اصفر وجهه وكاد أن يغمى عليه ويفقد رشده ، ابتعد عنه وهو يصرخ: دعني أرجوك ، أنا لا أعرفك ...... لا تخرب بيتي .......  ثم ولّى  هاربا مبتعدا .

ضرب رشاد أخماسا بأسداس ، ماذا حلّ بالرجل ؟ لم يجرؤ حتى على رد التحية ، ماذا سيصيبه لو جلس معي بعيدا عن الناس وأخبرني عما حل بزوجتي وولدي .

يا لمعادن الناس ما أتفهها ! يا للدم كيف أصبح أرخص من الماء .

نفد صبره ، ذوى عوده ، هزل جسمه وشحب لونه ، ضعفت شهيته وكثر شروده ، وانتابته الهواجس والأوهام ، وأطبق عليه هم ثقيل لكنه لم يفقد العزم والأمل .

لا حظ الشيخ ما حل برشاد ، فطلب منه أن يصارحه عن حاله ، فلعل أحدا من القبيلة يضايقك ، أولعلنا قد قصرنا في ضيافتك ، أو آذيناك من حيث لا ندري ؟ .

شكره رشاد من أعماقه ، لقد قمت بأكثر من الواجب يا شيخ طراد، وإن فضلك علي كبير لا يعدله فضل بعد فضل الباري ، وإني لأدعو الله أن يعينني على أداء هذا المعروف ، ورد الجميل ، فهو دين في عنقي .

سأله الشيخ حينها : وما سر هذا التغيير الذي حل بك ؟

أجاب رشاد : إنه وضع الأهل والأولاد ، وقص له ما حدث معه .

- صبرك الله يا ولدي ، ليس كل الناس سواسية ، إن معادن الرجال لا تكشف إلا عند الشدائد والخطوب ، وأي خدمة أستطيع تقديمها إليك فأنا على أتم الاستعداد .

- جزاك الله خيرا يا شيخ طراد ، ولكني لا أستغني عن خدماتك وجود كرمك الذي غمرتني به دائما .

صمم رشاد أن يتابع أمره ولو كان في ذلك نهايته ، وعاد إلى البحث من جديد ، وبينما كان يتفقد الأسواق ويبحث عن ضالته ، اقترب منه شاب يافع فحياه ثم توجه إليه سائلا : هل عرفتني يا عم رشاد ؟

- العفو يا ولدي ، ما الاسم الكريم ... ومن أي قبيلة أنت ؟

- ماجد صابر .

- ابن صابر؟

- نعم يا عم رشاد .

- أهلا بك يا ولدي - والله لقد كبرت - ما الذي أتى بك يا ولدي ؟

وقبل أن يجيب ماجد ، سحبه رشاد من يده وهو يقول له لنبتعد قليلا فلربما لحظتنا أعين الجواسيس وأزلام البيك .

وبعد أن جلس معه بعيدا، واستفسر منه عن حال زوجته وأولاده، وطمأنه عن وضع والده صابر وما حل به بعد ذلك ، كما أخبره عن وضع القبيلة والناس والبيك وأزلامه ، وهل مازالوا يطلبونه ويبحثون عنه ، بعد ذلك استأذن ماجد بالإنصراف لأن معه رفقاء لا يستغرب أن يكون بعضهم عيونا للبيك ، فقد يستأخرونه ، أويشكون في وضعه ، قدّر رشاد الأمروتفهم وضعه قائلا : لو كان الوضع عاديا لما سمحت لك ولكل رفاقك إلا أن تنزلوا جميعا في ضيافتي ، ولكن للضرورة أحكامها.

وقبيل الوداع أخرج رشاد رزمة من المال وهو يقول لصابر : خذ يا ماجد هذه الفلوس وأعطها لأم ناصر ، وطمئنها عني وبلغها تحياتي وسلامي وقبل لي ناصر وإيمان ، وقل لهم إني في أشد الشوق لهم ، وأفكر في أحوالهم كل يوم ليل نهار .

- إنهم بخير يا عم رشاد ، وهم اليوم أفضل بكثير كما أخبرتك بعد أن خففوا عنهم التضييق والحصار.

- ووالدك ؟

لقد أصبح شبه عاجز لا يقدر على العمل ، عدا سنه  وشيخوخته كما تعلم ، ولقد تركت الدراسة لأتولى أمور البيت ، ماذا أفعل يا عم رشاد ؟ .

- بارك الله فيك يا ولدي وأرجو الله أن ينتقم من ذلك الظالم .

- آمين يا رب .

- دعني أراك يا ماجد ، لا تتأخر علي في الرد ، لقد عرفت كيف تتصل بي وأين تلقاني ، كن يقظا وحذرا يا بني .

- اطمئن يا عم رشاد .

- رافقتك السلامة يا ولدي وحفظك الله من كل شر وسوء .

وقبل ان يفلته رشاد ، دسّ في جيب ماجد رزمة من النقود ، وأمسك بيد ماجد التي حاولت إعادتها .

إنك كولدي يا ماجد ووالدك كأخي ، هل ترفض هدية والدك ؟! .

هزّ ماجد برأسه صامتا ثم أفلت من العم رشاد وقد لمعت عيناه وطفرت بعدها من مؤقيه  دمعتان سخيتان  وهو يقول : للظالم يوم مهما بعد يا عم رشاد .

عاد رشاد وقد عاوده بعض الأمل ، وإن كان مازال يحس بشيء داخلي يؤرقه ، ويشعر بقلق يختلج في أعماقه لا يدري ما حقيقته ، وراح يحدث نفسه : لقد اطماننت كخطوة أولى ، وسوف تفرج يا رشاد قريبا بإذن الله، وعندها سأطلب منه مساعدتي في إخراج الزوجة والأولاد ، وما علي إلا الإنتظار حتى يأتي الفرج قريبا إن شاءالله .

وانتظر رشاد بفارغ الصبر مترقبا عودة ماجد ولقاءه مرة أخرى ، ليطمئن على أحوال العائلة ، ويطلب منه محاولته التي ينتظرها بلهفة وفراغ صبر منذ أمد بعيد ، وينهي معاناة زوجته وأولاده من الظلم والتعسف ، وذلك الجو الرديء المحموم ، من سطوة المجرم وأزلامه .

وطال انتظاره ، وكثر تردده ، وتناوشت ذهنه الأفكار السوداء تشوش عليه أحلامه الوردية ، لكنه لم يسمع خبرا جديدا ولم ير ماجدا مرة أخرى كما وعده .

وكعادته في التردد على الأسواق ومفترقات الطرق ، والمكان الذي التقى به بماجد ، وبينما كان يبحث هنا وهناك علّه يجد ضالته ، اقترب منه رجل وهو يهش في وجهه محييا :

- أهلا بك يا أخ رشاد .

- أبو سعيد ؟ ! يا للمصادفة الجميلة ، كيف حالك يا أبا سعيد ؟ ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ كيف ساقتك قدماك إلي ؟.

يا الله ! يا لهذه المصادفة ما أجملها ، ثم احتضن رشاد وأطبق بشفتيه يطبع على وجنتيه ، قبلات متسارعة متلاحقة .

سحبه رشادقائلا : لنتنحى بعيدا عن أعين الناس .

- بارك الله فيك ، أولاد الحرام كثيرون .

- ها ....  طمأني كيف حالك وحال الدنيا معك يا أبا سعيد .

- الدنيا ؟ كلها بخير يا رشاد .

- والأهل والأولاد ؟

- إنهم بخير ، كلهم بخير لولا ....

- لو لا ماذا يا أباسعيد ؟ هل حدث مكروه جديد لا قدر الله ؟

- لقد أخطأت التقدير يا أبا ناصر .

- كيف أخطأت ، وبماذا أخطأت ؟    

- ألم تجد غير ابن صابر تبعث به رسولا ليحضر لك الزوجة والأولاد ؟ .

- ومن قال أني أرسلته ؟

- لقد ذهب إلى بيتك ، واعترف بكل شيء ، واستلم مكافأة له على ذلك .

-لا حول ولا قوة إلا بالله ، والله لم أطلب منه شيئا .

- لك الحق في السرية والكتمان يا رشاد ، لكن هذا ما حدث .

ابن صابر الذي ضحينا لأجل أبيه ، وشردت وأبيح دمك من أجله ، يعض ابنه اليد التي امتدت لمساعدته في الداخل والخارج ، ويرفس بحوافره القلب الذي احتوى أباه ، ويخون الانسان الذي حكم عليه بالإعدام لأجل والده ، لقد خان الأمانة ، وحنث بالوعد ، هذا المنافق عديم الضمير .

- رويدك يا أبا سعيد أنا لا افهم ما تقول ، أي داخل وخارج هذا ؟ وأي أمانة التي خانها والوعد الذي حنث به .

- لقد قام بتمثيلية رائعة ظاهرها أنه يريد أن يحضر لك الزوجة  والأولاد ، وحقيقتها أنه كان متفقا مع رجال البيك على أن يقوم بالخطوة الأولى ، بينما كان رجال البيك يتابعونه كامنين قرب البيت في إحدى الزوايا  بالإتفاق معه ، وما إن اقتربوا منهم حتى ألقوا القبض عليهم جميعا وكأن الأمرمحض صدفة ، وكأنه وقع في فخ رجال البيك ، واعتقلوه أمام أعين الناس ، حتى لا تنكشف اللعبة وتفك رموزها .

أطلق رشاد تنهدة عميقة ، سامحه الله ، ما طلبت منه شيئا ، كل ما في الأمر أني سألته عن أحوالهم وأن يطمئنهم عني .     

- تقول سامحه الله ، بل لينتقم الله منه  ومن أمثاله ، ولكن لا تفكر لها مدبّر ، لقد كنا معا يوم اتفقنا لأجل صابر ، لكنني كنت يومها ضعيفا خوارا ، سامحني ... لم أجرؤ حينها أن أمد يدي على ابن البيك ، أو أخرج معك رفيقا في الغربة ، لكن حان الوقت الذي سأكفر فيه عن جبني ونذالتي .

إن عذاب الضمير إزاء  ذلك الموقف ما زال يحز في نفسي ويقض مضجعي ، ولن يرتاح ضميري ما لم أكفر عن ذلك الموقف ولو بأي ثمن .

 بارك الله فيك يا أبا سعيد لا أريد أن أحملك فوق طاقتك ، لا أريد أن أكون سببا في تشريدك أو غربتك ، هذا إن لم يعتقلوك ويرموك في السجن ، لا أريد ان يخدش ظفر بسببي ، أنا هنا بخير ، وهم هناك بخير وحسبي أني اطمأننت عليهم ، وأنهم ما زالوا على قيد الحياة .

- لن يرتاح ضميري يا أبا سعيد حتى أحضر لك الأهل والأولاد .

- رقص قلبه فرحا ، انشرح صدره ، ناداه وجيب العاطفة مرة أخرى عندما لاحظ إصرار أبو سعيد على ذلك ، فربت على كتفه قائلا : إنك رجل أصيل يا أبا سعيد ، لن أنسى لك هذا أبدا ما حييت، ولكن لم تخبرني بعد أين الزوجة والأولاد ؟ ما مصيرهم بعد حماقة ابن صابر ؟

- إنهم بخير ، لقد شددوا المراقبة عليهم بعد ذلك ، ولكن دع الأمر عليّ ، سأحضرهم لك إن شاء الله قريبا .

- إنك رجل أصيل ، لن أنسى لك هذا أبدا ما حييت .

- لا تقل هذا أبدا يا أبا ناصر ، هذا أقل ما أقوم به تجاهك بعد تضحيتك ، وتشريدك ، ومعاناتك .

- كم أنا شاكر لك هذا الجميل يا أبا سعيد ، إنه أملي ، وحلم حياتي.

- والآن أستأذنك يا أبا ناصر ، إن أعين البيك وجواسيسه كثيرون  وسأراك مساء عند مطعم ابن البادية ، ولكن لا تقلق سوف نسير معا ، وتنتظرني خارج القرية بل عند الحدود المتاخمة بين قبيلة البيك وقبيلة الشيخ طراد .

- رافقتك السلامة وسدد الله خطاك ، وكتب الفرج على يديك .

وما إن ابتعد عنه أبو سعيد وألف حلم يتراقص بين جوانحه ، وهو في مكانه لم يتحرك منه بعد ، إذ اقترب منه شاب يافع وحيّاه .

- السلام عليكم يا عم .

- وعليكم السلام ورحمة الله يا ولدي .

- عفوا يا عم ، لا تؤاخذني إن كنت فضوليا ، هل تعرف ذلك الرجل الذي كان يقف معك من لحظات .

وقبل أن يجيب رشاد، بدأ يحدث نفسه وهو ينظر إليه  بلا شك أنه أحد أزلام البيك ، ولعله يتتبع أبا سعيد ، الحمد لله لقد كشف عن نفسه هذا الولد اليافع ، ثم أجابه في الحال وهو ينظر إليه بهدوء ويحاول سبر أغواره : يا ولدي يبدو عليك الأدب والتهذيب ، لكن الفضول خصلة مذمومة .

نكس الشاب رأسه وهو يقول بصوت خافت : المعذرة يا عم ، لقد أخطأت ، سامحني يا عم ، وأرجوك أن تتحمل فضولي قليلا ، والإجابة عن سؤال آخر ثقيل ، وإلا فلن يرتاح ضميري .

- إن كان بمقدوري ذلك سأفعل ،اسأل .

- هل اسمك رشاد يا عم ؟ .

فوجئ رشاد بالسؤال فظهر عليه الإرتباك ، وقبل أن يجيب ، تابع الشاب : هل أنت العم رشاد الذي ضرب ابن البيك ؟ هل أنت العم أبو ناصر؟ إن كنت هو فأرجوك أخبرني .

ظهر الإرتبك هذه المرة على وجه العم رشاد أكثر ، حار في أمره، تغيرت ملامحه ، ارتعدت شفتاه ، تعثرت الكلمات على لسانه ، ولكنه أسرع إلى تمالك نفسه ورد على سمع الشاب : أي رشاد ؟ أي ناصر ؟ أنا لا أعرف عما تتكلم عنه ، أرجوك يا ولدي دعني وشأني .

- العفو منك يا عم ، لقد أثقلت عليك بما لا يعنيك ، لقد كان ظنا في غير مكانه ، وما قصدت إحراجك أبدا ، لكني أحمل أمانة لهذا الرجل ، في أمر جسيم ، وحدثتني نفسي بأنك هو ، خاصة بعد وقفتك الطويلة مع أبي سعيد ، فاعذرني ثانية يا عم لأن اللهجة والأوصاف التي في ذهني عنه قريبة منك ، وقادتني إليك ، فلقد خاب ظني ، وخانني حدسي ، فلا تؤاخذي يا عم أرجوك .

وترك الشاب رشادا في حيرة يتساءل في نفسه : أمانة ! أمر جسيم! اللهجة ! الأوصاف! وقبل أن يبتعد الشاب لحق به وناداه : تعال يا ولدي ، لقد قلت ، أمانة ! أمرا جسيما ! لعلني أساعدك في العثور على هذا الرجل ، لكن ماهي هذه الأمانة والأمر الخطير .

- إنها أمانة خاصة به يا عم ، فإن كنت لا تعرفه فدعني وشأني ! .

- إني أعرفه وأستطيع أن أبلغه ما تريد .

- عفوك يا عم إن كنت تعرفه حقيقة وتحب الخير له ولعائلته فأوصلني إليه ،  وإلا فدعني وشأني .

- اعتبرني رشادا ، إنه صديق حميم لي ، وسأبلغه بكل ما تخبرني به .

- ليست القضية قضية اعتبار، فأنا أريده شخصيا لأن الأمانة خاصة به ، والأمر جد خطير .

- ما اسمك يا ولدي وابن من تكون ؟

- هادي ابن أبي صلاح  .

- عاشت الأسامي يا ولدي ، هل أنت من بلدة أبي سعيد .

- نعم يا عم .

- وهل والدك أبو صلاح الذي كان يعمل عند البيك ؟

- بالضبط إنه هو ياعم ، وعند هذا الحد فقد أيقن الشاب أن الذي أمامه هو نفسه العم رشاد وليس غيره ، بعد أن كان أغلب ظنه أنه هو بعد أن لحق به وناداه .

إن والدك صاحبي يا هادي ، أما زلت مصرا على مقابلة العم رشاد أبو ناصر ؟

- كل الإصرار .

وبعد أن التفت العم صابر حوله ليتأكد من عدم وجود أحد يراقبه أويسمعه أجابه : هيا اتبعني لنذهب إليه ، وما إن ابتعد قليلا عن السوق والتجمعات ، ووقف في زاوية منعزلة ، ثم اتجه إليه قائلا : أتريد لقاء العم رشاد الآن ، وقبل أن يسمع جوابا من الشاب استمر في حديثه : إنه العبد الفقير الذي يقف أمامك ، إنه الطريد الشريد الذي يكلمك ، فهل ارتحت  الآن؟ طمأني بالله عليك وأرحني .

ضمه الشاب ، عانقه ، شدّ على يده ، قبل جبينه ، لقد كنت الشرارة التي أوقدت فينا العزيمة ، لقد كنت الجذوة التي حركت ضمائرنا ، إنك مثلنا وقدوتنا ، لقد كلمني والدي عنك الكثير ، إني رهن إشارتك ، جندي من جنودك ! .

شده رشاد لهذا الموقف ، لكن الظنون والهواجس مازالت تعصف في كيانه ، ثم التفت نحو الشاب قائلا : لكنك لم تخبرني يا بني عن الأمانة الخاصة ، والأمر الجسيم .

- ولن أخبرك !! حتى تخبرني بما دار بينك وبين أبي سعيد .   

- وما علاقة هذا بالموضوع أيها التلميذ المريد ! قد يكون في هذا إحراجا لي .

- لا أود إحراجك يا عم رشاد ، لكني خائف عليك من ذلك الأفاك ! .

 وقع رشاد في حيرة من أمره ، فكلاهما يدعي مساعدته ، وكلاهما يحذره من الآخرين ، وقد نزل عليه كلاهما من السماء في ساعة واحدة، وهو يفتش في الأسواق والطرقات من أشهر بعد ماجد دون جدوى ، ثم تذكر نفسه قد شرد بعيدا فاستدرك مخاطبا هادي : إنه صديقي لا تغتابه .

- إنك معذور يا عم رشاد لأنك لا تدري ماذا حدث بعد خروجك ، إنه يعد لك أمرا فظيعا ، ويخفي في طياته خنجرا مسموما ليغرسه في صدرك ! .

- ماذا تقول يا ولدي أي خنجر هذا ؟ وما الذي حدث بعدي ؟

- بعد أن حدث ما حدث بينك وبين ابن البيك ، اعتقل جميع الذين اتفقوا معك لأجل العم صابر، ثم بدأ البيك يفرج عن البعض منهم شيئا فشيئا ، فمنهم من أعيد إلى العمل في الأرض بعد أن لقنوا درسا قاسيا ، ومنهم من اعتبروا رهائن ومكثوا في السجن طويلا، ومنهم من تم ترتيب وضعه داخل السجن ليصبح عينا وجاسوسا للبيك ، قبل أن يفرج عنه ، وهذا المفتري أبو سعيد من هذا الصنف الأخير .

- وكيف عرفت ذلك ؟

- لقد أعطى البيك تفاصيل اتفاقكم ، وكان أول المفرج عنهم ليعين جاسوسا ويكلف بمراقبة بيتك لأن عائلتك وضعت تحت الحصار والمراقبة .

- غريب ما تقول يا ولدي ؟

- ولعلك ستستغرب أكثر من ذلك إذا علمت أنه هو الذي أوقع بماجد صابر .

- كان الله في عونه ، وتقول هو الذي أوقع به ؟ ! أم أن ماجدا كان متعاملا مع أزلام البيك ؟ ! .

- سامحك الله يا عم رشاد ، ألم أتوسل إليك لتخبرني بما قاله لك ذلك المنافق أبو سعيد ؟

هز رشاد رأسه مذهولا ، وقد زادت الحيرة عليه دون أن يجيب ، فاستدرك الشاب حديثه قائلا : وكل ما أخشاه أن يكون قد وعدك في إخراج الزوجة والأولاد وإحضارهم لك ؟

زادت دهشة رشاد وحيرته أكثر ثم سأل هادي : وما مصلحته في ذلك ؟

- مصلحته ؟ ! ليس له مصلحة في غيرها ، أقصد في لعب هذا الدور ، يستلم المكافأة من البيك ، ويسلمك للبيك بعد أن تصبح في خبر كان .

- كيف ؟

- كما سلّم من قبلك ماجدا ؟

- لكني لم أطلب من ماجد القيام بهذا الأمر .

- أعرف هذا ، لقد سألته عنهم ، وأعطيته عشرة آلاف ليوصلها إليهم ، ودسست في جيبه رزمة من نقود أليس كذلك ؟ لقد أخبرني بكل التفاصيل ، لكن الوغد أحس باتصاله بهم ، وشك في أمره لأنه مكلف بمراقبتهم ، فأوشى للبيك بذلك ، فاعتقل ماجد وسلمت المعلومات إلى أبي سعيد ، فأتاك إلى هنا ليستدرجك إلى البيك نفسه ، لتلقى حتفك على يديه ويشفي نار حقده وغلّه منك ، بعد أن عرفوا نقطة الضعف فيك .

- وهل يفعلها ؟ إن هذا أمر غريب حقا ، إني لا أقدر على سماع هذا، لم يستطع رشاد أن يخفي دهشته وحيرته مما يسمع فخرجت الكلمات منزلقة من لسانه بلا وعي معبرة عما يحتدم في داخله من صراع، ومتجاوزا حدودا الأدب واللباقة المعهودة فيه : ولم لا تكون المعلومات قد أعطيت لك وليس هو؟ .

- إني أعذرك فيما تقول يا عم رشاد ، ومن حقك أن تفكر كبف تشاء ، ولكني سأطلب منك أمرا تشترطه على هذا الرجل من باب الاحتياط ، وزيادة في الأمان ولن يضرك هذا : لا تسر معه الليلة ، واعتذر له بتجهيز نفسك وترتيب أمورك ، وتعده في مكان ما بعد ثلاثة أيام على الأقل ، فالرجل مكار لا يؤمن جانبه ، وأما أنا فسألتقي بك بعد غد بالضبط ليلا ، بعد العشاء عند مفترق الطريق المتجه إلى مضارب الشيخ طراد ، وسيكون معي الدليل القاطع على كل ما أخبرتك به ، ورجائي الأخير أن لا تذكر أمامه من قريب أو بعيد ، بأنك رأيتني أو قابلتني أو لمحت أحدا من قبيلتنا ، ولن يضرك هذا أبدا  ، أرجوك يا عم رشاد ، كن حذرا وانتبه لنفسك ، فلقد أصبحت رمزا لشباب القبيلة  فلا تفرط في نفسك ولا تستهن بعدوك ،  والآن وداعا يا عم رشاد ، وإلى لقاء قريب بإذن الله .

- صاحبتك السلامة يا ولدي .

فكر العم رشاد مليا ، إن ما عرضه علي ، ظاهره في مصلحتي وحفاظاعلي ، واحتياطات أمان لي في كل الأحوال ، وكله بلا مقابل ، وأشعر بشيء من الإطمئنان تجاهه ، ولكني لم أقتنع بعد بما أخبرني به عن أبي  سعيد ، حسنا يا ولدي ساقوم بتأجيل موعدي مع أبي سعيد ، ولكني أيضا سأحتاط لك ، فلست بالخب ولا الخب يخدعني .

وفي الموعد المحدد ، في المكان المتفق عليه ، أقبل رشاد يحمل بندقية بصحبة رجلين مسلحين من جماعة الشيخ طراد ، وبدا له في ظلمة الليل أشباح تتحرك ، وقبل أن تنطلق به الظنون ويشرد به الخيال انطلق طفلان يركضان باتجاهه وهما يناديان : بابا .... بابا.... ضمهما إليه بلهفة  وشوق شديد ، عانقهما وبلل دموعه بخديهما ، ثم شد على يد الأمرأة التي وقفت تنتظره حتى يفرغ منهما وقد فاض مؤقاها بالدموع ، وإلى جانبها كان يقف مع هادي رجل آ خر لم يتبين حقيقته في البداية حتى اقترب منه وألقى عليه التحية ليتبين أنه صوت والده العجوز ، ضمه بقوة إليه وهو يربت على ظهره ودموعه تبلل ثيابه ، وأخيرا تقدم الشاب هادي ، فضمه نحوه بقوة، وعانقه معانقة الأبطال ، وهو يقول لا تؤاخذي فيما فعلت ، إن الاحتياط واجب . وإن المنافق قد احتال علي وكاد أن يوقع بي لو لا أن الله قد ابتعثك لإنقاذي .

أجابه الشاب : معك كل الحق فيما فعلت ، ولكني أريد أن أخبرك بأن ماجد قد اعترف علي تحت التعذيب ، وإني اليوم شريد ومطارد مثلك ، فلنكن النواة التي ستعمل وتجاهد لإزالة الظلم والبغي من  قبيلتنا ، وأما الجاسوس أبو سعيد ، المفتري الأفاك سيكون من الغد أول معتقل لدينا لنفاوض به مقابل ماجد .

ضمه مرة أخرى ، وشدّ على يده بكلتا يديه ، ولم يسمع هادي أي جواب، لكن الصمت والليل كانا أبلغ من جواب ، ومضوا جميعا تجاه مضارب الشيخ طراد.