بوابته في الخلاء الرمادي
عبد العزيز نايل
تململَ في فراشه ..... ثم أخذَ يتمطى في سريره عازفاً بأنّاتِه وآهاتِه أصواتاً كصرير البوابات القديمة ..... فتفتحت بواباتُ المهماتِ اليوميةِ تلك التي تحفزه على أن ينهضَ كما تنهض العفاريت مستبقاً الآخرين في سباقٍ من اجل لقمةِ العيشِ ، تتقافزُ تلك المهماتُ اليوميةُ في مُخيلته ، وكلُ مَهمة تشرحُ نفسَها لتستحقَ بما شرحته أن يضعها في المرتبة الأولى ...ردّد كعادته ـ تاركاً مهماته تتصارع ـ فكشفنا عنك غطاءك ،فبصرك اليوم حديد ، لكنه ما لبث أن أعاد بطاطينه ثانية على رأسه ، ولم ينهضْ ، عندما رأى الصقيعَ الصقيعَ ـ بحدة بصره ـ وقد استحال أسهماً تخترقُ جبهتَه وقمةَ الرأس الذي تَعرى إلاّ من شعيراتٍ قليلةٍ ، فآثر الاستجابةََ لمطلب أعضائه وجسده .. وبقيّ مختبئاً تحت بطاطينه الثلاثة ... فالتقت رغباتُ الراحةِ المدفونةِ مع إيحاءات الجسد الذي ماانفك يبرر له ، عدم القيام والنهوض من تحت غطائه الثقيل ، فأوحى له بأن العقل في برجه العاجي ، يصنع دائماً ، كما يصنعُ فرسان الديكتاتوريات القديمة والحديثة ،فهو مهووس بالأهداف العليا وكذلك هم، بالأهداف العليا ، مهووسون ، فيقدّمون على مذبح هذه الأهداف ، شعوبَهم وأوطانَهم قرباناً لكي تتحقق أهدافُهم أومأ برأسهُ حتى لامس بذقنه صدره ، صانعاً بالإيماءِ موافقةً خالصةً ، عندما رمحت ذاكرته ، مؤكدة هذا المنطق , فقد اختفت ألمانيا الموحدة من الوجود ، بنفس هذه الأسباب ، ودالةٌ أخرى على ذلك هي اقتراب اختفاء العراق ، بنفس هذه الأسباب أيضا ، تلك أول مرة يرى فيها أن الديكتاتورياتِِِ عقلا خالصاً ، وأن الإيمان بها يقود الشعبَ إلى نفق مظلم في اتجاه واحد ثم يَتْفُلُهم في صحن الجحيم ، ولو نهضتَ من سريرك الآن وخرجت إلى هذا الصقيع الصقيع ، فسوف تجدُ لك وحدك طريقا واسعاً ، ممتلئاً بالأوحالِ وبالإمراضِ ، فعقلك لا يستشعرُ بردَ شهر " طوبة " فلا تستمعْ له ، واسترخي حتى تنقشع الغيومُ في الخارج ويسكن المطر في خزانات سمائه وبعدها ستفتحُ السماءُ بواباتِها السبعة فتقوى الشمسُ ساعتَها على الترجّلِ من سماءٍ إلى أخرى وعندما ترسو على عتبة السماء الدنيا ساعتَها نخرجُ آمنين ... لها... هكذا أخبرته أعضاؤه قائلةً له وأيضا تقولُ له ، ليزدادَ يقينُه .... أَلسْتَ ابن هذه الشمس....؟.!!!! أومأ برأسه حتى لامس بذقنه صدره ، صانعا بهذا الإيماء موافقة خالصة ...
فاستدرك استدراكاً صَنَّعَته الغريزةُ التي جعلت حمارَ عمهِ يوم رآه يرتجف ولم يخطو على النار بنفس الغريزة استدرك ، كيف تموت الكائنات في الصقيع .. فلا تُخْطئه إن لَمَستْ يداك جثةً ماتتْ لتوها ...سيُخبركَ الصقيعُ في أطرافها وأعضائها بأنه اختطف إنسياً .. وفرّغه ليصنعَ لنفسه في كل خلية من خلاياه بيتاً بارداً .... وما تلبث إلاّ يسيرا و تتفجر هذه المدن التي صنَّعها الصقيعُ على سكانها من الدودِ والبكتريا ، فهو لا يُطيق سكاناً .... وبنفس الغريزة رأى انه بالدفء وحده تتقافزُ الكائناتُ لتلعبَ أو لتعملَ .... وبها رأى أن أجسادَ النساء العاشقات دافئةٌ ... بعكس النساء الغانيات والمأجورات ... ومثلهن جسد الزوجة الخائنة ...كلهن لهن أجسادٌ وفروج باردةْ........ثم قال بصوته المسموع ، رائع انت أيها الشعب ...استدرك معتذرا وواصل...رائعٌ أنت أيها الجسد ........
فأبى العفلُ أن يتركه يهنأ بامتداحه منطقَ الجسد ، فقال له علانيةً ، من أين اجتلب الجسد حكمته ؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! فأخذ يردد ملاحظة العقل ، حقاً... حقا ً : من اين اجتلب الجسد حكمته ؟!!!! وكيف صار يتغامز معي متهكما ساخرا من العقل !!!!!!!!
أغمض عينيه حتى التصق حاجباه بكراسي خديه وهو يتأسى على ما لحق به ، عندما تبين له أنها علامة للفصام والاختصام بين أعضائه وعقله ....
تراخى جفن عينه العلوى ..... صار ثقيلا حتى كاد أن يفقأ عينيه .. وهما يزددان برودة ويتزايدان ثقلا ... تأرجح الجسد فوق سريره ، ثم تارجحت كتلة السرير والجسد فوق امواج من الظلمة ... سرت البرودة في جسده رويدا رويدا فأزاحت دفء بطاطينه الثلاثة ، تعاشق البرد آتيا من الأعالي مع صقيع صقيع تطارده الأرضُ لتستبقي الحرارةَ في عروقها مدافعةً عن استبقاءِ الحياة في أنسجة الخنافس والديدان وما يليهُما ، فلماذا أنكرتني السماء والأرض تنكرني ، تلك كانت آخرُ جملةٍ ساهم عقلهُ في بنائها ، قبل أن يمضي متنحياً ، ترفعاً عن المؤامرات التي حاكها الجسدُ ضده ، تاركاً الجسد في مهب الأعاصير علويةً وسفليةً ، وكانت هي نفسها شهادته الأخيرة، فما استطاع النائم فوق سريره الخلاص من قوة تدفعه داخل انفاق طويلةٍ مظلمةٍ ، مدفوعاً بحركتها الدودية ، ثم تبصقه في زرقة الخلاء المفعم بالصقيع ......
ودّ لو استطاع أن يرسو على كوكبٍ من هذه الكواكب المحيطةِ وملآنة بالإشارات أن يبتعد ، رأى في هذه اللحظة ، كلَّ الكواكبِ ملآنةً بالمخلوقات , وعلى صُوّرٍ مخالفة لا يحيط بها خيال العلماء أو الفقهاء أو السوقة ، فأطاحت معرفتُه الجديدةُ بظنه القديم بأن للحياة شكلا واحدا هو الذي كان على الأرض ، أي سذاجة عاش بها حين تصور ان الكونَ " خَرابَةٌ "كبيرة ، أشفق على الباكين حول جثته ، رآها من علٍٍ ويرى احدهم وهو يتحسس الجثة الباردة جثته ، رآه ويداه تتجمدان ، ساعتها رأى جميعَ الشعب يشعلون ناراً ، وخلف الصقيع الصقيع تجري النساءُ والأطفالُ والرجالُ، وكذلك عساكر من الأمن المركزي ، في مظاهرةٍ ، فعادت يداه دافئةً ، وبيضاءَ من غير سوء ، قال يا ليتني نهضتُ من سريري ، وأشعلتُ ناراً ، ولوّحتُ مع الاطفال والنساء والرجال الا انه ما لبث أن رأى بوابتة في الخلاء قد أُغْلقت ، وسمع صرير الأقلام يزعق باسمه في سكون المتاهة .......