كما تدين تدان
محمد حسن فقيه
تمددوا تحت ظل شجرة عجوز هرمة متقشرة اللحاء ، يتفيؤون ظلها الخفيف المتناثر وقد تسللت من خلال أغصانها المتباعدة حزم متباينة من أشعة الشمس الذهبية ، فسقطت على الأرض بقعا وهاجة تلمع تحتها حبيبات الرمل البلورية ، وتنعكس على بعضها الآخر فتبدو كذرات ذهب متوهجة ببريق أصفر لماع ، تتحلب له أفواه العجائز من النساء .
أمام نظرهم تمتد سعة العين ، صحراء قاحلة إلا من بعض أشجار الشوك الصغيرة المتناثرة ، بعيدا عن الكثبان الرملية واتجاهات هبوبها ومسارات تحركاتها .
أرض تيماء ، ومفازة جداء ، وشمس لاهبة تحرق الأكباد ، ورمضاء حامية تظمئ الفؤاد ، ورمال ساخنة تذروها ريح كلفح النار، فتلتصق الحبيبات الناعمة منها على الوجوه المبللة بعرق غزير، ينفر من المسامات ويسيل على الجبين فتغطي الوجوه بطبقة رملية ناعمة ، ليصبح لون الانسان كالحا كلون الصحراء ، خشنا كجلد التمساح أو الضب ، أما الحبيبات الكبيرة منها ، فتصفع الوجوه بضربات كوخز الإبر، ممتزجة مع ملوحة العرق المتصبب فتزيد الوخز ألما والتهابا .
إن كان الليل جملا يتخد للصوص ، فان وقت الزوال والشمس في كبد السماء خير جمل يتخذ في مثل هذه البيداء المقفرة .
سيما الشر والتربص واضحة الملامح على وجوه الرجال المتجهمة ، فقد أعدوا عدتهم ، وأحكموا أمرهم لتنفيذ خطتهم المرسومة بعد أن تعاهدوا على الوفاء .....
نهض الرجل المسن ، خبير البادية ودروبها ، فقد عجنها وخبزها ، على ثراها عاش ، وفي مفازاتها تربى ودرج ، وبين رمالها وكثبانها أمضى جل حياته .
طاف حول الشجرة العجوز يتفحص المنطقة من حوله ، ويصوب ناظريه نحو الأفق البعيد .
دنا من الزعيم واتجه اليه مخاطبا : كأن صفقتنا لا تختلف عن هذا السراب الذي
يمتد أمام أعيننا .
- قاتلك الله يا رجل ما أشأمك ، أتينا بك دليلا وشريكا لتقول مثل هذا الكلام ؟ ! .
كم صبرنا من أيام وقطعنا من برار وقفار ، ننتظر صيدة العمر.... ونهاية المطاف .
رد الشاب ذو الوجه المكلثم دون أن يكلف نفسه عناء الالتفات نحو الزعيم ، ولم ستكون نهاية المطاف ؟ ألن تكون لصا بعد اليوم ؟ .
- ولم أتنازل إلى هذه المهنة الحقيرة ؟ ثم استطرد جوابه ما دمت سأملك الذهب والأموال والنفائس ... نظر الى الأفق البعيد .... سرح بأحلامه التي تهفو إليها نفسه ويختلج بها صدره... سأبني قصرا منيفا لا يقل عن قصر السلطان بشيء ، سأبتاع جوادا عربيا أصيلا أزهو به على كل أفراد القبيلة ، سأمتلك مزرعة كبيرة على ضفاف نهر جار، فيها ما يسر الأعين وتلذ الأنفس ، سأمتلك الجواري الحسان من كل قدّ ولون..... ومن كل الأصقاع ...... سأقتني الإبل والغنم ليسرح بها الخدم والرعاة فتعود سمينة ممتلئة الضرع ....
قطع عليه شريط أحلامه الشاب ذو الوجه المكلثم ، كابحا جماح خياله عن الاستمرارفي أحلامه عن جنته الموعودة في الأرض .... لعلك تظن أن الغنيمة كلها ستكون من نصيبك حتى طفت بأحلامك إلى الخدم والحشم والجواري والإبل والغنم ... والزروع والثمار والجياد والقصور........
إخرس يا غبي لقد تعاهدنا على الوفاء فيما بيننا ، وأن نتقاسم بالسوية والعدل ، وأن نجعل القسمة قرعة بيننا.... أما ترانا رجالا .... أم أنك ترى نفسك غير ذلك ؟.
أجابه ذو الوجه المكلثم : إني أرى نفسي لصا ، فهل ترى نفسك غير ذلك ؟
ضحك العجوز .......... لا شك في ذلك إنه أمير اللصوص .
- تبا لكما ألا تخجلان من ذكر هذه الكلمة .
أجاب ذو الوجه المكلثم ..... ولم تخجل منها ؟ ألم تختر مهنتها بنفسك ؟
ران صمت عليهم جميعا وقد تغيرت ملا مح الزعيم ، فقطب حاجبيه وصوب ناظريه تجاه بقعة من الرمل قرب حذائه مشيحا بوجهه عنهما ، وآثار الاشمئزاز بادية في عينيه وتقطيب حاجبيه ، ونفسه تغلي حمما لا يقدر على إطفائها.
أراد العجوز أن يحل العقدة فاقترب من الزعيم مداعبا .... وبأي كلمة نستبدلها أيها الزعيم ؟ .
التفت إليه الزعيم شزرا ...لا تنطقها ..... لا تتعرض لها ... سوف أطلق هذه
المهنة الحقيرة بعد هذه العملية طلاقا بائنا لا رجعة فيه .
علق ذو الوجه المكلثم .... وقد لا تتاح لك الفسحة لتركها ...... فلعل ......
صاح الزعيم بنزق وعصبية : أفصح بما عندك..... وعلى ما أضمرت عليه .
- يا سبحان الله كيف تفكر أيها الزعيم ؟..... لعل الدائرة تدور علينا ، أليس هذا واردا ؟
هز الزعيم برأسه هزات خفيفة كمتوعد، وهو ينظر الى الأفق البعيد ويتمتم ... بلى ....... بلى ثم انطفأت بهمهمة وكلمات مبهمة .
قال العجوز مازحا ما رأيكم أيها الرجال أن نكف عن هذه المغامرة، ونقفل راجعين بأحمال الرمل فنستخلص منها ذرات الذهب اللامعة .
وقبل أن يتم فكرته صاح زعيم العصابة ...... لقد أقبلوا ....... استعدوا ، نطق زعيم العصابة بهذا عندما لاح له في الأفق البعيد غبار متناثر خلف جملين محملين ، ويسير خلفهما رجلان تحت قيظ الحر ، وقد نال التعب منهما كل منال .
وما إن اقتربت القافلة من العصابة وأصبحت تحت مرامي سهامهم ، نهض الزعيم وهو يصرخ بأعلى صوته : إسمعوا يا رجال - جثا الرجلان على الأرض وهما يصيخان السمع جهة الزعيم - صاح الزعيم بصوت أعلى : اتركا الجملين بأقتابهما واسلما بروحيكما ...... وإلا.....
اتقوا الله فينا أيها الناس إنها ليست أموالنا ..... إننا شركاء فيها ومستأمنون عليها ، إن مائة فم طفل جائع مفتوح على ملئه ينتظرون عودتنا ببطون خاوية ، وثياب رثة مهلهلة .
دوى صوت الزعيم قويا كالرعد مختصرا بكلمتين : الأموال أو حياتكم ؟
صاح ذو الوجه المكلثم ولم تضحون بحياتكم ما دامت كلها ليست أموالكم ؟ من يستحق التضحية لأجله في هذه الدنيا ؟
علق العجوز على كلام صاحبه : روح الانسان أغلى ما في الدنيا .
- تناهى إلى مسامعهم ونطح رؤوسهم صوتا متقطعا : بل هي أرخص ما في الوجود عندما تهدد كرامة صاحبها أو تزهق في سبيل الله ...... من قاتل دون ماله فهو شهيد .
همس العجوز في أذن الزعيم إني أشم من رائحة هذا الكلام ، روح التمرد والرفض والعصيان .
أضاف ذو الوجه الكلثم .... إنهم يبيتون الشر، وفي كلامهم تهديد ووعيد....
صاح الزعيم : سددوا معي سهامكم إلى نحورهم .
نعق غراب في السماء وهو يحوم فوق رؤوس اللصوص القتلة، كأنما ينذرهم بعاقبة وخيمة ، ناحت يمامة حطت فوق الشجرة العجوز: ما أرخص دم الانسان في ميزان أخيه الانسان .... ما أرخص الدماء عند المجرمين والقتلة والسفاحين ... إن الدماء الطاهرة الزكية لا تضيع أبدا ... إنها تروى أرضا ظمأى ، فتنبت في مفازاتها جند ، تنتصر للحق وتنتقم من الظالم ولو بأظلم منه .
ركلوا الجسدين الذين تعفرا في الرمال وخرا صريعين، يرويان رمال الصحراء بدماء طاهرة زكية ، أبت نفوس أصحابها الانصياع والرضوخ إلى مطالب اللصوص ، كبوهما على وجهيهما ، سفوا فوقهما الرمال بأرجلهم ، داسوا فوق ظهريهما، ومضوا في طريقهم دون أن يكلفوا أنفسهم دفنهما تحت رمال الصحراء ، وتركوهما طعاما للسباع ونسور البادية وعقبانها ، تفقأ أعينهما وتنهش جسديهما.
إن للمال مفعول السحر في النفوس الضعيفة ، التي لا تفكر في غير دنياها وساعتها ، بلسم خطير يجنب صاحبه عن التفكير في كل سام ونبيل ، قناع عازل يحجب العقل عما حوله ، ويحول بين إشعاعاته من الانتشار للخارج ، ران ثقيل يضغط على القلب فيختل توازن صاحبه ويهوي به إلى الأسفل .
همس رئيس العصابة في أذن الرجل العجوز : إن القسمة على ثلاثة أمر شؤم في حياتي ، لا أحبها ولا يطاوعني قلبي ويدي عليها ، كما أني أشم رائحة الخيانة والغدر تنبعث من كلماته ونظراته ..... وكل حركاته ... كأنه يرتب لنا مقلبا .... لعله ذهب يتترس خلف كثيب الرمل ليمطرنا بوابل سهامه ، ويستاثر بالغنيمة لوحده .
- كأنك تتكلم بلسان حالي أيها الزعيم ...... ولكن
- ولكن ماذا ؟
- أخشى أن يزعجك القسمة على اثنين بعدها....
- يا معاذ الله أتشك بي ؟ .....إني أستأمنك على الغنيمة كلها ..... أنت رجل طيب ..... وتعجبني صراحتك هذه ، ومكاشفتك لي ....لا يمكن أن يتسرب لنفسي أدنى شك .... أو أتوجس منك أبدا .....إقسم الغنيمة أنت ....ووزعها أنت .... واختر نصيبك أولا .
- أمرك أيها الزعيم .... إننا متفقان .
- إذن وجه الآن وحالا ، سهم صائب الى ظهره وهو يقضي حاجته .
- لقد قتلتني أيها اللئيم .....أعرف أنه قد غرر بك ، وحشا دماغك بالأكاذيب ، فوجد في نفسك هوى ، وطاوعته يدك الغادرة ، لعنة الله عليكما معا ، وتبت يداكما أينما حللتما وارتحلتما ، ولتشربانّ من نفس المورد الذي سقيتماني منه.
كانت تلك آخر كلمة تفوه بها مساعد الزعيم ذو الوجه المكلثم قبل أن يسلم الروح إلى بارئها .
ركلاه بأرجلهما ، سفا فوق وجهه الرمل وحشيا فاه به ، كباه على وجهه ، داسا فوق ظهره ، ومضيا في طريقهما دون أن يكلفا نفسيها مشقة طمره تحت الرمال ، وتركوه طعاما لسباع البرية ونسور الصحراء وعقبانها .
خيم صمت مطبق على مسيريهما بعد أن حولا وجهتهما إلى ناحية أخرى لبيع البضاعة وتقاسم أرباحها ، وبعد أن تبادلا بضع أحاديت مقتضبة ، محاولين تبرير فعلتهما الغادرة بصاحبهما لعلهما يقنعا بعضهما بسداد ما قاما به ، بيد إنهما غير مقتنعين به في ذواتهما.
نظرات ساهمة وصمت مطبق ، ونظرات اختلاس وترقب ، تتفحص الآخر بين الحين والحين ، وحديث مع العقل الباطن يتحول عند الانفعال الى خلجات في الشفاه ،وهمهمات وحركات بالأيدي ، ولعل كل منهنا بفكر بما يفكر به الآخر تماما .
الفرق كبير جدا بين الغنيمة ....ونصف الغنيمة ، الغنيمة بكاملها قد لا تدعني أحتاج الى العودة الى هذه المهنة الحقيرة ومغامراتها الخطيرة مرة أخرى كل حياتي ، وتضمن لي مستقبلي، ومستقبل أولادي ، ويدفن السر للأبد ، فلن يبقى أحد على سطح هذه الأرض يعرف سر هذا الأمر .
ضمان مستقبل ،....راحة ضمير ..... كتم سر للأبد ..... بداية لطريق التوبة ! .
أتوبة نصوحا لله ...؟ ! أم خوفا على نفسك من أن تعود عليك الكرة مرة أخرى ؟ فما تسلم الجرة في كل مرة .
لا......لا ....لو كنت طيبا ... وحسنت الظن وصفيت النية ، ورضيت بما تعاهدنا عليه ، فمن يضمن لي هذا الأفاق ، ويؤكد لي حسن نيته ؟ من يمنحني حقي كاملا منه ؟ بل ومن يعدني بسلامتي منه ؟ ان القتل عنده لا يساوي دعس حشرة صغيرة
، ألم يقتل مساعدي بسهم واحد ، ولم يطرف له جفن ؟ هذا الأعرابي ، ابن البادية تعس عبد الدرهم - العجوز- وكاد أن يقع ، أمسك نفسه في اللحظة الأخيرة منتصبا على قدميه ، انتفض عبد الدينار- الزعيم - مذعورا ممتشقا سيفه منقضا عليه انقضاض نسر على فريسته ، متأهبا لبتر عنقه بضربة من سيفه .
صاح عبد الدرهم بصوت مرتجف : هذا ما كنت اخشاه منك ، وأحسب حسابه ، وتحدثني به نفسي طوال الطريق .
أجاب عبد الدينار إن نفسي كانت تحدثني بنواياك الغادرة وها قد أفصحت عنها ، وقد آن لك أن تنال جزاءك .
صاح عبد الدرهم مستغيثا : اسمع أيها الزعيم ، أرجوك : ابق على حياتي ، وخذ كل ما تريد ، الأموال والغنائم كلها ، ولن أتعرض لك ولن أراك أو تراني كل حياتك .
هراء .....هذا هراء ما إن تبتعد عني وتشعر بالأمان ، حتى تنسى هذا ويتغير تفكيرك ونواياك ، ويتراقص في دماغك نشوة الانتقام وألحان الغدر .
ولكني قتلت ثالثنا وفاء لك ، وبحسب أوامرك .
إنها النذالة والغدر بعينه ! ...... كيف آمن على نفسي منك ؟ كما طوعت لك نفسك قتله ، ستطوع لك قتلي .
لقد تعاهدنا .....وأعطيك الأمان..... فأعطني أمانك وعهدك .
أجاب الزعيم مستهزئا : كما تعاهدنا بالأمس وغدرت بصاحبنا .
أجاب العجوز : لقد كان ذلك بحسب تعليماتك ....ورغبتك .... واقتراحك .
ورغبتي الآن أن تموت فإن هذه الغنيمة لا تتسع للصين طموحين وقبل أن يجيب العجوز ويؤكد للزعيم تنازله عن كل شيء مقابل حياته ، كان الزعيم قد أهوى بالسيف على عنقه الدقيقة المعروقة ، فتدحرج الرأس بعيدا ، وشخبت الدماء منه تلطخ وجه القاتل وثيابه .
ترنحت الجثة وتهاوت على الأرض تعانق الثرى ، ركله برجله ، كبه على صدره ، ركل الرأس الى جانب الجسد المسجى ، سف عليه الرمل ، وملأ عينيه وفاه بالرمال ، كبه على قفاه ، داس على ظهره ومضى في طريقه ، دون أن يكلف نفسه مشقة طمره تحت الرمال ، تاركا إياه خلفه طعاما لسباع البرية ونسور البادية ، تفقأ عينيه ، وتنهش جسده .
أستطيع الآن أن أسير مطمئنا ، فقد تبددت الهواجس من نفسي ، ودفن السر ، وزال الخطر ، ودنا الفرج ، وأقبل طريق التوبة قريبا مني يلوح لي ! .....
بعد أن أبني القصر المنيف ، وأمتلك الجواد المطهم ، ....والمزرعة ...والابل ... والغنم ....والخدم ...والحشم ....والجواري... سأتوب بعدها ....سأتوب يا رب .
ولكن إن لم تكف الأموال لتحقيق تلك الأحلام فما العمل ؟
مازلت في شرخ الشباب ... والمستقبل أمامي ...... لست عجوزا ....لدي فسحة في الأمر ...لا بأس بأن أقوم بعملية أخرى وأتوب ..... أو عمليتين ثم أتوب ! ! .
لم لا أعيش منعما مرفها في هذه الحياة كما يعيش الملوك وأبناء الذوات؟ بم يفضلوني ؟ لعلني أحد ذكاء منهم ، وأكثر حكمة وتدبيرا، وأغزر علما ومعرفة ، وأمتن جسما ، وأقوى بنية ، وأشد مكيدة ومكرا... وأصبر نفسا على نوائب الزمان من هذا الجيل المدلل .
غبار أمامه قد ثار من بعيد ، امتقع وجهه ، انقبضت معدته ، تلوت أمعاؤه ، تغثت نفسه ، طاش فؤاده ، وفقد صوابه ، تزلزل تماسكه واتزانه .
انقلبت الحسابات ، اختلطت الأحلام ، تخبطت الأفكار... تساءل في نفسه : هل ينبغي أن يكون جميع رجال البادية لصوصا ؟ لعلهم تجار ؟ أو لعلهم أناس طيبون ...شرفاء؟ لعلهم يعرفون الحق ....ويميزون الحلال من الحرام ؟ !.
رفع يديه ضارعا الى الله : ربي سأتوب بعد هذه العملية مباشرة ولن أن أفكر في اللصوصية والقتل ...والمال الحرام بعد اليوم أبدا ، وستكون الأخيرة التي لا آخر بعدها .
وما أن دنوا منه حتى رأى سهامهم قد شرعت تجاهه ، صرخوا بصوت عال كالرعد من بعيد وقد أحاطوا به : الجملين بأقاتابهما أو حياتك ؟ .
يا لهذه الدنيا ما أصغرها ، المسرحية نفسها تتكرر مع اختلاف الأدوار، أسرقها من غيري وأقتل لأستاثر بها .... فيأتي غيري ليسرقها مني ويهددني بالقتل ... بل وربما .... لا.... لا يفعلوها .
لقد حل ما كنت أخشاه ، ووقع الفأس بالرأس ...... فكر في حل سليم أيها الزعيم المحنك .
طاف بخياله سريعا مشهد قتل العجوز ومن قبله مساعده ، زفر زفرة عميقة لو كانوا معي الآن لأبدنا هؤلاء جميعا ، بل وغنمنا ما معهم ... حتى لو أني أبقيت على
العجوز وكان معي ، لاستطعنا أن نسلم بالغنيمة فعدا عن أنه رجل البادية وخبيرها ، فهو رام أمهر مني ولا يخيب سهمه أبدا.
دوى الصوت أقوى من السابق يصك مسامعه : الجملين بأقتابهما أو حياتك ، ألم تسمع ما طلبناه منك أم مازلت تفكر ؟. أجب بسرعة .... وإلا..
دار في ذهنه وبسرعة : الأموال تعوض مهما كانت ، ولو سلم الغنائم كلها فهو لم يخسر شيئا من جيبه ، وما دام ذكيا .... ولماحا ، فإنه سيعوض هذه الغنيمة في المستقبل ، خاصة وأنه في مقتبل العمر، فما زال لديه الفرصة بالتعويض عنها وربما بأفضل منها .
قطع تفكيره صوت أعلى من سابقيه ، وسهم صوب قريبا منه ليوقظه محذرا: نحذرك وللمرة الأخيرة وقد أعذر من أنذر.
صاح بأعلى صوته : حسن أيها الفرسان ..... خذوا الأموال والغنائم وأبقوا علي حياتي ..... أتوسل إليكم ...
أبشر أيها الرجل .... لقد كنت حكيما في قرارك ، اطمئن .... لسنا قتلة .... نحن لصوص شرفاء ! .
ضحك في سره ، وهل كنت أقول عن نفسي غير ذلك ، حتى وصل بي الأمر لقتل شركائي طمعا وجشعا ، ثم نادى بأعلى صوته : خذوها حلالا لكم ....ودعوني وشأني أرجوكم .
- لك الأمان يا رجل ... هيا سر في طريقك ، ودعنا وشأننا مع الغنائم .
- أمركم أيها الفرسان .
- لكن إياك أن تسول لك نفسك بأمر ما .
وما إن ابتعد قليلا حتى بدأت الأفكار تعصف في رأسه بقوة ، وطار خياله يحلق بعيدا ، انتصب أمام خياله القصر المنيف الذي بناه في أحلام يقظته يتهاوى ويندك ، الجواد المطهم يهرب منه ، يطير في الهواء بجناحيه بعيدا عنه ليغيب عن ناظريه ، المزرعة الفسيحة الخضراء شحب لونها ، واصفرت أوراقها ، النهر الجاري غارت مياهه ، جف واديه ، الإبل والغنم ماتت... نفقت دفعة واحدة بالطاعون ، الخدم والحشم تنكروا له وثاروا عليه وعصوه ، الجواري أبقوا منه .. نشروا أسراره وفضحوه .
أكل هذه الأحلام تتبخر وتطير ؟ كل هذه الغنائم ينتهي أمرها بلحظة ؟ كل تلك الأمنيات والطموحات والتخطيط والقتل .... والمكر والكيد ينتهي بأمر بسيط من ثلة أعراب ... أنذال ، لصوص وقطاع طرق ، إنني لا أستطيع استيعاب ذلك وتصوره ، نظر جهة اللصوص فرآهم قد التفوا حول الجمال ، تمتم في نفسه إنهم أنذال هدفهم السرقة فحسب .... وهذه الغنائم .... هي كل أملي ... حلمي .. طوحي ... مستقبلي .. ومستقبل أولادي.... لا ... لا يمكن أن تطير من يدي بهذه السهولة ، سوف أباغتهم وأستعيد غنائمي ... وإلا فما قيمة الحياة بعدها .
صوب نظره بطرف عينه تجاه اللصوص ، شد سهمه وبسرعة البرق الخاطف ، أطلقه باتجاه أحدهم فاستقر السهم في أحشائه، وانتفض الجواد من تحته ، فسقط على الأرض معفرا يخضب الرمل بدمائه ، أسرع بتجهيز سهم ثان ، شده ، وتأهب لإطلاقه إلى صدر فارس آخر..... لكن القطار فاته .... فقد كانا أسرع منه إذ انطلق سهمان معا ليستقرا في صدره وأحشائه ، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، أخرج سلاحه الأخير .
انتزع زمزميته الصغيرة من حزامه ، وجرع منها جرعة ليعجل بنهايته ، ولا يرى نظرات الشماتة والتشفي في عيون قاتليه ، ولحاجة أخرى أهم قد بيتها في نفسه من الأمس .
لن يذهب رخيصا ، ولن يموت وحده ، لقد قتل أحدهم ، ويأمل أن يميت الباقي ، ولن يدع قاتليه يهنأوا ويتمتعوا بالغنائم ، لا بد أن تكون نهاية قاتليه في هذه الصحراء بجرعة ماء ممزوجة بسم زعاف من تلك الزمزمية .
أسرع الفارسان نحوه ليجهزا عليه ، خطف أحدهم الزمزمية من يده ، رفعها إلى فمه وكرع منها حتى ارتوى ، ناولها لصاحبه وهو يلهث من العطش فقلبها الآخر في جوفه حتى أتى على الثمالة فيها .
وبعد أن أجهزا عليه ركلاه بأرجلهما ، ملآ فاه وعينيه بالرمل ، كباه على وجهه ، سفا فوق ظهره الرمال ، داسا على ظهره ، ومضيا تجاه صاحبهما مسرعين لإسعافه ، دون أن يكلفا نفسيهما أو يفكرا في دفن عدوهما أو حتى طمره تحت الرمال ، وتركاه خلفهما طعاما لسباع البرية ، ونسور البادية وعقبانها تنهش لحمه وتفقأ عينيه ...
وقبل أن يبتعدا عنه وقبل أن يصلا الى صاحبهما ، ثقلت الرؤوس ، دارت الدنيا ،
تثاقلت الخطوات ، ترنحت الأجساد ، تعثرت الخطوات ، غاب الوعي والتفكير ، هوت الأجساد المترنحة على الرمل ، منكبة على وجهها ، معفرة برمل البادية ، وقد امتلأت عيونها وأنوفها بالرمال ، تنتظر سباع البرية ونسور البادية وعقبانها ، لتفقأ عيونها وتنهش أجسادها .
تابعت االجمال مسيرها بأحمالها ، بعد أن حولت اتجاهها إلى بيوت أصحابها ، وهي تجر خلفها جياد اللصوص تتبعها ، لتعرف عليهم وتفضحهم دون أي قائد يوجهها ، لتصل في غسق الليل الى أصحابها .... ولكن من دون رجالها .