الصحة للجميع

إبراهيم عاصي *

.. ولكن المفاجأة كادت تذهلني عندما مررت به ظهراً ! لقد كان بالإمكان أن أتصور طائراً يطير في السماء ، أو مخلوقاً خارقاً يتهادى ـ دون بلل ـ فوق الماء ! نعم كان بالإمكان أن أتصوره أي شيء ، أما أن أراه طبيباً يداوي المرضى ، فهذا ما لم يخطر لي في بال وأنا أتملاه في الضحى !.. فعندما مررت به ضحى ، رأيته يجلس بسمته الوقور الرزين على مقربة من مستوصف الناحية ، فوق حافة الرصيف العام .. كانت له لحية شعثاء مغبرة من اثر السنين ، وعينان اتسعتا قليلاً بما حف بهما من هالتي كحل أسود كثيف ، وإن كانتا في الأصل أشبه بزبيبتين ضاويتين . أما رأسه فيتوجه عقال مقصب وكوفية خضراء تشكو البلى . إلا أن خصره كان مشدوداً بزنار أصفر كالح اللون يسدل من تحته قنباز صفيق رفيع . أنامله تعبث بحبيبات عجفاء لمسبحة أثرية ، صنعت من نوى الزيتون .

بدأوا يفدون منذ الصباح الباكر إلى المستوصف ، قادمين من القرى المجاورة والأرياف ، في انتظار مجيء الطبيب .

كانت نظراته ساكنة مديدة متأملة . أما منظره العام فبرغم أنه يبعث على النفرة لأول وهلة ، إلا أنه سرعان ما يثير الشفقة نحو إنسان لابد أن الدهر قد اعتصره كثيراً فجعله يتمرس بأشياء وأشياء ، أقلها هذا الصبر الصامت على ما يعانيه من علل وأمراض ، جعلته ينتظر جالساً على الرض في هذا الطقس القارس الأليم .

ولكن كيف لي أن أنكر ما أسمع الآن وأرى ؟! إنه طبيب فعلاً وها هم أولاء المرضى قد تجمعوا حوله وأخذوا يتدافعون عليه . أولهم عند قدميه وآخرهم في المستوصف . المستوصف الذي كان قبل قليل يغص بالمرضى من الأطفال والنساء ، ومن الرجال والعجزة والمسنين .. فأنت لا تسمع إلا توجع المتوجعين وأنين الأمهات ، وبكاء الصغار، وارتجاف العراة تصطك منهم الأسنان ، وبين وجوه صفر، وعيون زائغة ، وأنفاس محمومة وأجساد أنهكتها العلل .. كلهم في انتظار الطبيب يطل عليهم من عليائه ساعة من الزمان ، ويجود عليهم ببعض (البلعات) دواءً واحداً لجميع الأمراض على السواء ! غريب ما ارى فليس هنا من يمنع (الشيخ محفوظ) من ممارسة حرفته ! كما ليس هنا من يصرف المرضى عن التماسهم الطب والشفاء لديه ! كان كل واحد منهم يقعي بدوره عند قدمي الشيخ محفوظ ثم يستسلم له . يدا الشيخ كلتاهما تشتغلان مع فمه . كان فمه يتمتم ثم ينفتح بالتناوب ، وكانت يسراه تقبض الدراهم باستمرار وتدسها في جيبه العميق ، أما يمناه فكانت تمسك بعود مورق أخضر تهش به على رأس المريض أو بطنه أو عجزه .. بحسب نوعية المريض ومكان الألم ، ثم هي تدفع بين الحين والآخر ببعض التمائم لهذا المريض أو ذاك .

دفعني الفضول للوقوف قريباً منه ، وصادف أن كان دور (المعاينة) في تلك اللحظة لطفل لم يتجاوز الرابعة من عمره . يحمله أبوه على ساعديه وتجهش أمه من ورائه بالبكاء . أدركت أنه وحيدهما.

تخيلت الطفل قبل أن يصيبه المرض .. طفلاً ناضر الوجه ، واسع العينين ، جميل الطلعة ، وثاب الحركة ، لا يملك الناظر إليه إلا أن يقول : ما شاء الله كان ! ولكنه الآن كتلة شبه هامدة ، ووجه ذابل ، وجمرة تتقد .

انتهت طقوس المعاينة والمعالجة ، ودفع الأب المسكين ثمن التميمة والإسعافات الأخرى جميع ما كان في جيب سراويله من فرنكات ـ لعلها بلغت العشرين أو الثلاثين ـ ثم انسحب ظافراً ، فالشيخ محفوظ رجل قنوع لم (يفتش معه) ورضي منه بما تيسر..وهكذا فليكن الدراويش من أهل الله ،وإلا فلا !.

لم يسبق أن أحسست بدافع شديد للتدخل في شؤون الآخرين ـ ولو على وجه النصيحة والإرشاد ـ مثلما أحسست به اليوم ، وذلك عندما مشيت في إثر هذين الأبوين ، وانتحيت بهما جانباً من الطريق أخاطبهما في أمر طفليهما المريض . لقد ظننت بادئ الأمر أن السبب في ذلك هو مجرد شعور إنساني تجاه طفل مريض بريء ، وأبوين بائسين جاهلين . ثم تبين لي أن وراء ذلك دافعاً عميقاً آخر، فصورة الطفل بعثت في (لا شعوري) صورة طفلي أنا ، وأحيت ما بين الصورتين من شبه شديد !.

كان أول سؤال وجهته للأب ، بلهجة تفيض بالتلطف والإشفاق معاً :

يا أخي .. أفما كان من الأحسن أن تعرض طفلك على الطبيب أولاً ؟! فأجاب بيأس وحزم :

ـ لقد ثبت لي أخيراً أن طب الدراويش أحسن من طب الأطباء فقلت :

ـ لعلك تعني أولئك الدراويش الذين يرقون المرضى بتلاوة الآيات القرآنية ! أنا مثلك أومن بأن كلام الله شفاء ورحمة للناس .. ولكنني أنصت إلى صاحبك باهتمام فلم أفهم مما قاله حرفاً واحداً ، لا من القرآن ولا من سواه ! هذا فضلاً عن أن التلاوة نفسها يجب أن يسبقها أو يلحقها استشارة طبيب وتعاطي دواء ..

وقبل أن أسترسل في كلامي أجابني في محاولة لقطع الحديث :

ـ إن التميمة التي أخذناها هي الطب وهي الدواء والشفاء !. فقلت له وقد أحسست بغيظ شديد :

إنني أجزم بأن صاحبك مشعوذ كذاب ، إن مظهره يغش لأول وهلة ، ولكن سرعان ما ينكشف عن أنه خبيث ، يعرف كيف يتصيد ، كما يعرف أين يلطي كالقط الماكر يتغافل عن فريسته وهو بالقرب منها !. وإنني لأجزم لك بأن التميمة لا تعدو كونها (خربشات) ورسوماً سخيفة ، وليس فيها كلمة واحدة من كلام الله . افتحها إذا شئت واطلب مني ما تريد غرامة إن لم تصدق ظني في شيخكم محفوظ !.

يبدو أن الحمى قد اشتدت على لطفل ، فأخذ يصرخ عالياً بين يدي أمه ، بينما بدأت دموعها تنهل بغزارة ونحن على حافة الطريق .. في الوقت الذي شعرت فيه بأنني قد نكأت جراحات في الرجل وأثقلت عليه من حيث لم أشأ .. شعرت بذلك عندما رأيته يغالب انفجاراً يكاد يقع له في صدره ويدير في عينين ساخطتين ولسان حاله يقول : من أين جاءنا هذا الحضري الثقيل ، يتدخل في شأننا ويزيد همنا ؟! وقد صدقت ظنوني ، عندما رأيت الرجل يشيح بوجهه عني ، ويهم بالانصراف ممتعضاً وهو يقول :

ـ الأحسن لكم يا أهل المدن أن تحتفظوا بآرائكم ونصائحكم لأنفسكم .. أما نحن فاتركونا نعيش ونموت كما نريد !

طعنة عميقة مؤلمة ظننت أنها تغور في أحشائي .. ومع ذلك تحاملت على نفسي ورددت عليه متلطفاً بقولي :

ـ ثق إنني ما قصدت الإساءة إليك يا أخي أبا .. أبو ماذا من فضلك ؟ فقال : أبو شدهان . فقلت : يا أبا شدهان .. ولكنني أشفقت عليك وعلى هذا العدد الغفير من أمثالك المنكوبين . انظر أما تراهم كيف يتهافتون على هذا المشعوذ ، ويعرضون عن المستوصف وطبيب المستوصف الرسمي ؟! وهنا لم يتمالك أبو شدهان نفسه أن تبسم بسخرية صفراء وأردف يقول :

ـ أجاهل أنت يا (أخونا) أم تتجاهل ؟ أي مستوصف تعني ، وأي طبيب تقصد ؟

قلت بانكماش :

ـ أعني مستوصف ناحيتكم هذا ، وطبيبه الموظف فيه .

 أدار أبو شدهان وجهه يسرة بحركة عصبية ، وتقل على الأرض بعنف ثم التفت إلي محاولاً كظم غيظه المتأجج ، وابتدرني يقول :

ـ لا تؤاخذني يا أخ .. وأنت السبب في غضبي على كل حال .. وأنا عارف أنك غريب وحضري ، ونيتك عليّ طيبة ، وتريد أن تنصحني وتنفعني .. جزاك الله الخير.. ولكن اسمع : الطب على رأسي وعيني ، وما أنكره ، ولولا إيماني بالطب ما رأيتني هنا .. ولدي الوحيد ، شدهان هذا ، وقع في المرض منذ ستة أيام . ومنذ ذاك اليوم ونحن ـ أنا وأمه ـ نصبر أنفسنا ونعللها بمجيء يوم السبت اليوم الوحيد من الأسبوع الذي يحضر فيه الطبيب إلى مستوصف الناحية ساعتين من زمان .. وأخيراً جاء يوم السبت ، وها نحن حضرنا .. حضرنا منذ الصباح .. البرد قارس شديد كما ترى . في الساعة الثامنة لم يحضر الطبيب ، وفي التاسعة ، وفي العاشرة ، والثانية عشرة والواحدة لم يحضر.. ومن نصف ساعة فقط قال لنا الممرض بأن الطبيب لن يأتي اليوم ـ يعني لن يأتي هذا الأسبوع ـ ثم أمرنا بالانصراف فانصرفنا ؟! الشكوى لغير الله ذل يا (أخوي) .. وأنا لا أشكو لك .. وأظنك تفهم الضرورة والحاجة التي جاءت بي ، وبهؤلاء الخلق كلهم إلى هنا وجعلتنا ننتظر طيلة هذه الأيام والساعات ؟! بارك الله في الشيخ محفوظ إنه لا يتأخر أبداً ولا يغيب .

أردت أن أجيبه بشيء ، أي شيء ، ولكنني رأيت لساني جافاً ، ورأيتني في مكاني مسمراً . ومرت ثوان من الصمت .. لم اقو خلالها على قول شيء ، ولم يحاول أثناءها أبو شدهان أن يضيف على ما قاله أية كلمة !.

هززت رأسي عدة هزات ، وأنا شارد العقل ساهم الطرف ، أتميز من الغيظ وأفور من الألم ، بينما كان صراخ الطفل ينغرز مسلات مسمومة في أذني .. لقد قعدت به أمه قريباً منا على الرصيف المقابل للمستوصف العتيد ، وأخذت تهدهده دون جدوى !.

صحوت من شرودي عندما حط بصري على لوحة كبيرة تتصدر صالة المستوصف ، وقد كتبت بخط فخم جميل ، تطل علينا من وراء الباب العريض المفتوح .. لوحة تقول : " لكل مواطن حقه في الغذاء ، وحقه في الدواء . الصحة للجميع "!!

وعندها .. عندها فقط فهمت معنى هذا الشعار الجذاب .. وبالتالي بدأت أفهم معاني كثيرة من الشعارات المماثلة التي تملأ الجدران وغير الجدران .

               

* أديب سوري معتقل منذ عام 1979