القرار

ثناء محمد كامل أبوصالح

القرار

ثناء محمد كامل أبوصالح

[email protected]

جلست على طرف السرير تحتضن رأسها بين كفيها, وتستمع إلى صوت المؤذن يتعالى- رخيماً ندياً- من المسجد القريب .. وانثالت الدموع من عينيها مالحة مريرة.

كانت صورة مجسمة للعذاب .. للقهر والأسى, تململ الجنين في أحشائها فانتصبت واستدارت تلقي نظرة على طفلها الآخر - ذي السنوات الأربع- الذي يرقد بجوارها.. كان نائماً على وجهه وقد ألقى الغطاء عنه وضم قبضتيه وكأنه يهدّد أحداً ما, أحكمت الغطاء حول جسده الصغير وابتعدت والنحيب يكاد يشق صدرها شقاً.

توضأت ووقفت بين يدي الله تسأله أن يهديها طريقها ويعينها على اتخاذ القرار, وعادت تستلقي من جديد في سريرها لتواصل الدوران في دوامة الأسئلة الأبدية التي لا تنتهي ولا ترحم .

منذ سنوات خمس تزوجته.. ومن يومها وهي تحيى على هامش حياته, حاولت الكثير لتعيش معه الحياة التي حلمت بها.. الحياة المشتركة القائمة على الود والألفة, حاولت الكثير لتشعر أنها صارت جزءاً منه كما هو منها .. لكن محاولاتها باءت بالفشل, وبقي يحيى حياته اللامسؤولة التي اعتادها قبل الزواج.

سألته يوماً وهو يتأنق أمام المرآة استعداداً للقاء الأصحاب : لمَ تزوجتني ؟.. تأملها وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه وكأنه فطن إلى ما ترمي.. ثم قال : وما الذي ينقصك ؟ الطعام؟ الشراب ؟ الملابس؟

: وهل حُرمتُ ذلك عند أهلي ؟!.. ينقصني وجودك إلى جانبي.

: ولكني بجانبك .. كل الليل بجانبك

وثارت : أي ليل هذا ؟ الليل الذي يبدأ بعد منتصفه ؟

أجاب وقد اشتعل الغضب في ملامحه : اسمعي يا هذي, أنا رجل .. ولم تُخلق بعد المرأة التي تربطني إليها كحمار الجر .. أفهمتِ ؟

أصابها الذهول .. وتركها في ذهولها لينصرف إلى أصحابه .

       ولمّا أحست آلام المخاض الأول كانت خائفة .. خوفاً ما عرفته في حياتها, رجته أن يبقى إلى جوارها لكنه انصرف إلى موعد سابق واعداً بسرعة المجيء, وجاء طفلهما إلى الحياة وهو بعيد.. وعندما عاد وحمله بين يديه, ولمحت السعادة في عينيه.. تناست لومها وعتبها, واطمأنت .. فالكل حولها كان يردد عندما يصبح أباً سيشعر بالمسؤولية, ولكن ..ما من شيء تغير .

أدارت رأسها إلى طفلها النائم بجوارها, طوال اليومين الماضيين أقلقها صمته وشروده, لم يسألها عن أبيه وهو المولع به, لم يتحدث إليها بشيء, وبقي وحيداً ساهماً, وفشلت كل محاولاتها في إعادته إلى دنياه .. ترى يا صغيري فيمَ تفكر ؟ .. لن تنسى عمرها كله الانفعالات التي ارتسمت على وجهه وهو يرى كف والده تهوي .. تهوي ..

وعضت على شفتها تقاوم الدموع, وارتفعت يدها بلا وعي إلى وجنتها تتحسسها..

تململ الجنين في أحشائها, فمرت بكفها فوق بطنها البارز وفكرت .. ترى أي مصير مجهول ينتظرك أنت الآخر ؟.

زقزقات العصافير تتسلل إلى الغرفة المعتمة, لقد أغلقت النوافذ وأسدلت الستائر واعتزلت العالم, فما يجري هناك ما عاد يهمها في شيء.. لكن أصوات العصافير أبت إلا أن تتسلل إلى أذنيها توقظها من إغفاءتها القصيرة .. وقبل أن تفتح عينيها أحست أصابع الصغير تتلمس بطنها, لقد اعتاد أن يفعل ذلك حتى إذا تحرك الجنين ضحك مدهوشاً : لقد ركلني بقدمه .. أرأيت ؟.. تركته يفعل, لكن الجنين لم يتحرك, فلما يئس ..امتدت أصابع كفه الصغيرة الناعمة إلى وجنتها تتحسسها .. كادت أن تبكي وهي تتذكر الأصابع الغليظة القاسية, وأحس الصغير بارتجاف شفتها, فألقى برأسه فوق صدرها وأجهش بالبكاء.. شدّته إليها تهمس في أذنه, تخفف عنه .. وقد أراحتها دموعه التي حبسها ثلاثة أيام طوال .

رفع رأسه إليها, فضمته تخفي دموعها عن ناظريه لكنه تملص منها وسأل : لماذا تبكين؟ أما زال خدك يؤلمك ؟!.. لم تجب .. فكيف تشرح لطفل الرابعة أن ألم النفس أقسى وأمضى ؟؟

في اليوم الرابع سألتها أمها : ماذا قررتِ أن تفعلي ؟ .. لم ترد وهربت بنظراتها منها, عادت الأم إلى الإلحاح : يا ابنتي خراب البيت ليس سهلاً, والأمر وإن كان قاسياً لا يستأهل ..

لا يستأهل ؟؟!! صحيح .. لا يستأهل كثرة التفكير والعذاب المضني الذي أحسته طيلة هذه الأيام,

فعلى أي شيء تبكي ؟.. على حياة قلقة جافة أشبه بقطعة خشب تتقاذفها الأمواج ؟ أم على زوج أناني زاده اهتمامها به وصبرها عليه .. حباً لنفسه وعشقاً لذاته ؟؟

-: يا ابنتي.. زوجك منذ البارحة ينتظر, ويلح في طلب رؤيتك, لقد ندم على فعلته .. ماذا قلت؟..

ابتسمت ساخرة .. ندم على ما فعل, الآن ندم على ضربها, لكنه لم يندم على تركها وحيدة عشرات الليالي ينهشها القلق عليه.. لم يندم على مئات الجروح التي زرعها في كل جزء من قلبها وعقلها ..بسخريته وعدم مبالاته ..أخيراً أحس بالندم, ربما لأن الضرب ليس أسلوباً حضارياً يليق به.

-: يا ابنتي.. ابنك هذا ما ذنبه حتى يُحرم من أبيه ؟.. والجنين في بطنك ..أنسيتِه؟..

مدت يدها تربت على رأس صغيرها, فرنا إليها بنظرات قلقة, فهو رغم صغر سنه يدرك أن الحديث يعنيه, وفكرت .. ترى أليس من الخير له أن ينشأ بعيداً عن والده ؟..أغلقت عينيها تفكر .. يارب إلى متى أدور في هذه الدوامة المفزعة ؟؟..

عادت أمها إلى الإلحاح : يا ابنتي أنت تعرفين الله .. وتخافينه, فاصبري لأجل ولدك ..

وهو .. ألا يعرف الله ؟ .. ألا يخافه ؟.. لم يجب أن أصبر أنا وأحتمل ؟ من الذي أوجب ذلك على المرأة وحدها؟.. وغطت وجهها بكفيها وصرخت : كفى .. كفى, ونهضت أمها تغادر الغرفة وقد تجمعت هموم الدنيا في عينيها.

 سألها الصغير وهو يزيح كفيها عن وجهها : ماما ..ماذا تريد جدتي ؟

وجمت لحظة .. ماذا تقول له ؟.. كرر سؤاله فأجابت : لا شيء.

-: لقد تحدثت عن بابا, أين هو؟ ألم يرجع من سفره ؟

سألته بتردد من يخشى الإجابة : وهل .. هل تريده أن يعود ؟

-: نعم .. لقد اشتقتُ إليه, وأنت يا ماما ؟

رنت إليه بنظرة عتب حزينة, فخبأ وجهه في صدرها وكأنه فهم ما تعنيه, أما هي ..فلم تجرؤ على النفي, ولكن .. ليس بالحب وحده يحيى الإنسان .

ليلتها أيضاً لم تنم, اتخذ تفكيرها منحى جديداً.. في لياليها السابقة كانت تفكر بنفسها .ز في أنها لن تستطيع العودة إليه, لأنها على يقين من أنه لن يتغير, صفعاته تلك لم تؤلمها بقدر ما أشعرتها بتفاهتها في دنياه.. صفعاته كانت الهزة التي أيقظتها من الوهم الذي عاشته طيلة خمس سنوات وهي تأمل أن يتغير, كانت السيف الذي هوى فمزق آخر أمل في أن تحيى معه الحياة التي كانت ترجو, وكانت معالم القرار قد بدأت تتضح أمامها, لكن كلمات الصغير ردتها بعنف إلى الدوامة.. ومن جديد عادت تعاني .. أليس من حق الصغير أن يختار ؟ .. ولقد اختار.. حين حدثها بشوقه لأبيه وهو في أحضانها, إنه يريدهما معاً, فهل يحق لها أن تحرمه الأب الذي يشعر بحاجته إليه؟.. هل تستطيع تحمّل أسئلته كل يوم عن الأب الذي لم يعد من سفره بعد ؟.. أم ترسله إلى أبيه ؟.. وكيف تعيش وقلبها ممزق يحاول اللحاق به وهو بعيد ؟..

وصاحت من أعماقها : يا رب .. إليك ألجأ وإليك أضرع .. امنحني الصبر وألهمني الرشاد ..

وفي الصباح عادت إليه وهي ترجو الله أن يكون هذا هو .. القرار الصحيح .