جهنم أهلها طيبون

جهنم أهلها طيبون؟

عماد كامل

العراق- البصرة

[email protected]

ذات ربيع كان العالم مغمورا بالفرح،أما أبناء قريتنا التي تقع خارج خارطة العالم تتلبسهم مرارة سوداء،وتترسب في أعماقهم جراحا لا تبصرها العيون..قبتهم الزرقاء أصبحت لا تجود عليهم بالمطر، بينما كانت الأفراح لا تنتهي في تلك القرية ...على دروبها تمرح الصبايا كالفراشات،ويهب النسيم بموجاته الرقيقة على الوجوه..

في ذلك العام تملكهم الخوف وأينع الذعر في عيونهم لان السماء خاصمت الأرض،فلم يجن احد من حصاد ذلك العام سوى كميات قليلة من القمح.

كثر الحديث في القرية عن سبب خصومة السماء لهذه القرية... قال شيخ حفرت الأيام وجهه بشكل مقرف

- لقد غضبت السماء على هذه القرية لأنها لم تعد كسابق عهدها تقدم النذور للصالحين،ارتفع ضجيج الحاضرين فقال احدهم: هل يقبل الصالحين أن يموت أطفالنا من الجوع؟ وقال آخر ومن يكون هذا الذي لا يملك من الإيمان سوى سبحته السوداء ،الذي يعتقد إن الله هو المسئول عن كل مصيبة تحل بهذه القرية

تفرق أهل القرية منكسين رؤوسهم متمتمين بكلمات لا يفهمها إلا الله، اختلط غبار الأرض بعرق وجوههم الشاحبة.

شعرت بالتعب فارتميت تحت نخلة هرمة منتصبة،توسدت يدي واخذت احدق بالسعف المتشابك بشكل مريع، استلقى"احمد" الى جانبي متأففا يلوك بلوعته وسألني

- هل قررت ان تهجر هذه القرية اللعينة؟؟

قلت له واين يمكنني ان اهرب من القدر الذي يشدني اليه؟

لفنا صمت ثم قال لي:

- انا سوف ابيع الارض التي ورثتها عن المرحوم والدي واسافر الى حيث لا ارى اناسا يصرفون شؤون حياتهم بالنذور

قلت له بضجر الى اين ستسافر فالعالم متشابه،والحياة معاناة متواصلة،وليس شيء احب الي من الموت.

كم اكره هذه النخلة التي تنتصب منذ سنوات تتفرج على مآسينا،وكم حاولت ان اجعلها حطبا مع كوني احببتها من اجل "سميرة" التي كانت ترغب بالجلوس تحتها عندما تتسلل خفية في عتمة تلك الليالي السوداء الصامتة التي لا يسمع فيها غير نباح الكلاب.

"سميرة" انسانة رائعة ذات روح بريئة،كانت تحلم بالزواج مني، لكنّ مشكلتي لا أرغب بزواجها،الا انني امطرها في كل ليلة عندما نلتقي بوابل من القبل،كانت تثير غرائزي عندما تلامس اصابعي وجهها الذي لسعته شمس الريف القاسية،وعندما تسكت "سميرة" صوت الغريزة في داخلي،اهرب منها على اجنحة ذكرياتي الميتة.

أنا انسان غريب حقاً، فلم تستطع المدينة ان تلبسني ثوبها، ولم ارغب بأوهام القرية،في المدينة ألمح الخداع في العيون، ولا يشعر الإنسان بوجوده الا ان يمارس الكذب، المدينة جنة بلا ناس والقرية جهنم اهلها طيبون.

الشمس تزداد قسوة في الصيف ، والكسل يجتاح القرية،مشاعرنا في الصيف حادة ونزقة،لان الانسان عندما يعيش في مكان فقير تتشابك في ذهنه التساؤلات وتختفي الاجوبه،الصيف تحمل رسله ألينا أشكالا متنوعة من المأساة،لأننا نعيش واقعا ليس بيدنا تغييره بين أناس تأخذ الخرافات رأس الهرم من عقولهم.

جارنا(سيد علي) الذي يعد طبيب القرية بتعويذاته التي يكتبها بلغة أهل الجن،يزعق بوجهي كلما صادفني في طريق

- لقد أفسدت أولاد القرية افسد الله دمك يا ملعون

 - لا تحزن لن امنع اولاد القرية من زيارة كوخك المتهالك لطلب الشفاء اذا مسهم الشيطان.

كم حاولت ان اقنع ابناء قريتنا ان يتمردوا على العادات التي ورثناها عن الاجداد،الا ان هذه الافكار لم ترى النور وبقيت حبيسة الذهن،فهم في كل مرة يلقمون افواه من يحاول ان يزعزع ايمانهم بمعتقداتهم العفنة. 

قلت "لأحمد":

ـ إن عذابنا أقسى من عذاب هذه النخيل التي تبخل عليها الغيوم الحبلى بمائها.

_ لقد كتب علينا ان نعيش بصمت ونتعذّب بصمت ونحلم أيضاً بصمت، فأصخب ما في هذا العالم صمت البائسين.

_ المشكلة اننا لا نستطيع ان نحطم الاوثان الوهمية التي تتربع على عروش رؤوسهم.

_ لقد تعبت فكل شيء في هذه القرية معكوس بطريقة مؤسفة،فلو اجتمع المصلحين والفلاسفة على تغيير أوضاعهم لما استطاعوا، إنهم قانعون بعيشهم كمتسولين.

ـ يبدو أن ربك لا يعنيه شأن هؤلاء الناس...

اشمئز احمد من كلامي ورد قائلا:

_ انت تصر دائما انك ملحد، وانا واثق ان الله قادر ان ينتشل هؤلاء من بؤسهم 

اجبته إن مأساتي في رأسي، وكم اتمنى لو أستطيع العيش بلا رأس.