موكب التشريف

محمد حسن فقيه

[email protected]

أحلامه التي تتواثب في خياله آمال عذبة تدب في أوصاله ، فيحس بنشوة تسري بدعة ونعومة في خلايا جسده وعبر مفاصله ، منسابة بدبيب ناعم مخدّر إلى حنايا قلبه ، ماء زلال ينسكب فوق لسانه الجاف المتيبس فيهبط الإرتواء والانتعاش إلى قلبه الصادي وسط مفازة في بيداء مقفرة ، فتروي جسده المسجى فوق الرمـال بريح كلفح النار ، أطياف نورانية تومض في خياله ، فرحة طاغية تملأ قلبه وتفيض على جوانحه ، فيتراقص في ذهنه صورة زوجته وأولاده وهو يرى أمامه على عقارب الساعة أن الفراق قد انتهى ، ولم الشمل بات وشيكا .

في الصباح الباكر مع إطلالة الندى وتفتح الزهور وزقزقة العصافير، خرج من المنزل وهو يحمل حقيبة سفره ، بالإضافة إلى حقيبته الدبلوماسية ليستقل سيارة تحمله إلى المطارليعود إلى بلده وينهي هذه الغربة ، لكنه  رأى عجبا ...

جميع الطرقات مغلقة باتجاه المطار والشوارع مقفرة من السيارات .

طلاب المدارس الإبتدائية والإعدادية والثانوية ، من بنين وبنات مع مدرسيهم ومدرائهم و فراشيهم ، انطلقوا من العاصمة والمدن المجاورة والقرى المحيطة وقد حشروا جميعا في شوارع العاصمة في مواكب متناسقة بزي موحد لكل فصيل على حدة ، وهم يسيرون بانضباط ونظام رتيب جميل . طلاب الجامعات ، أساتذتهم ومدرسيهم الذين ساروا في المقدمة خرجوا جميعا لاستقبال القائد .

 نقابات العمال ، الفلاحين ، السائقين ، الأطباء، الصيادلة ، المهندسين... وحتى نقابة الحلاقين والجزارين ...

الموظفون الرسميون في جميع الدوائر الحكومية والهيئات والمؤسسات الرسمية ، من مدراء ورؤساء أقسام وموظفين صغار ومراسلين وفراشين... كلهم رتبوا أنفسهم وساروا في مجموعات لاستقبال سيادة القائد ، أما الوزراء ووكلاؤهم ورؤساء الأجهزة والهيئات وعلية القوم ووجهاء الدولة ، فإنهم ينتظرون في صالة التشريفات لاستقبال الملهم .

الجميع يرفعون صور الملهم بأشكالها وهيئاتها المتعددة ، ويرفعون إلى جانب تلك الصور شعارات تحيي سيادة الملهم ، ممهورة في أسفلها باسم الوزارة أو المؤسسة أو الهيئة أو النقابة التي يمثلونها .

كأن البـيـوت قد أقفرت من سـاكينها ، في المدن والقرى، والسهل والجبل ،والساحل والصحراء، اللـهم إلا من طفـل رضيـع أو عجـوز مقـعد ، فالجميع مدعوون – شاؤوا أم أبوا – للتشرف باستقبال الزعيم ! .

تسابق المواطنون في الخروج من دوائرهم ، والطلاب من مدارسهم ، والعمال من مصانعهم ، والفلاحون من مزارعهم .. والتجار أغلقوا محلاتهم وساروا جميعا مع الموكب... أما الجيش ،حامي الحمى والدرع الواقي ، فهو الأكثر انتشارا وتميزا بين الحاضرين ، ولعل قطاعات الجيش كلها قد حضرت من كافة المعسكرات في العاصمة وأنحاء البلاد .

الموكب يسير على الطريق باتجاه المطار... أيها الطريق كم تجمع فوقك من المتناقضات ، تحمل فوقك مودعا قلبه معلق بما ترك وراءه من أهل أو حبيب أو ولد ، وتحمل قادما متلهفا لعناق حبيب بعد طول فراق ! .

توزع العساكر على جانبي الطريق ، بين كل عسكري وآخر، ينتصب عسكري ثالث وفوق كل سطح وعند كل زاوية ومفترق طريق ومدخل فرعي ، وتحت كل نافذة تطل على الطريق وقف عسكري متأهبا بسلاحه وإصبعه تلامس زناد بندقيتة .

ما زالت السيارات تتوافد إلى العاصمة من جميع مدن البلاد وأريافها محملة بكل أنواع البشر، شاحنات ، باصات ، قطارات ، وسيارات .....  تحمل عساكر، طلابا ، فلاحين ، عمالا.... دكاترة ومهندسين .

الدنيا بأسرها خرجت لتستقبل سيادة الملهم ، وتبارك له بالشفاء من وعكته الصحية .

الدراجات النارية تروح جيئة وذهابا وضباط الأمن يوزعون تعليماتهم باللاسلكي ، سيارات الأمن تنطلق كالسهم بين الحين والآخر وسط الطريق مع أصواتها المرعبة فتتلاطم موجات البشر على جانبي الطريق ليفسحوا لها الطريق .

تعثرت موجة بشرية... تساقط أصحابها وسط الشارع ، مرقت السيارة المنطلقة كالصاروخ فوق أجسادهم ، التصق بعضها بإسفلت الطريق ... تهاوت السيارة يمنة ويسرى ثم تهاوت فوق موجة أخرى ، ففرشت أجسادهم فوق إسفلت الطريق .

اندفعت سيارة أجرة من أحد الطرق الفرعية الخارجية نحو شارع المطار، أنتصب العساكر أمامها يشيرون إلى السائق بالتوقف والعودة من حيث أتى ، توقف السائق على يمين الطريق ، خرج من السيارة الرجل الآخر، يوضح لهم أمره .... زوجته في مخاض ولادة متعسرة لمولودها البكر بعد أن عجزت الداية في القرية عن توليدها !

فالجنين حانق غاضب ، لا يريد الخروج إلى هذه الدنيا والإنخراط في فصولها النكدة ، وأمه في حالة نزيف حاد .. . ولا بد من إدخالها المستشفى ، فوضعها خطر لا يحتمل التأخير ، والله وحده يعلم ما حل بالجنين البكر.

رد العسكري بغلظة جافة...  بعد تلك المقدمة المملة ! .  إن دخول العاصمة ممنوع هذا اليوم في هذا الإتجاه .....

-     لكننا نريد المستشفى ...لا المطار.

-     وهذا ما أعنيه ، المستشفيات لا أحد بها .

-     لا بد أن يكون بها دكتورا مناوبا ... قابلة ..... أو ممرضة .

-     لا أستطيع مخالفة التعليمات .

-     ستموت المرأة مع الجنين إن لم تصل المستشفى حالا.

-     التعليمات عندي واضحة .

-  دبر لنا حلا ....أخرج معنا... أوصلنا بسيارة الأمن ...اتصل بقائدك... إشرح له الوضع لعله يجد لنا مخرجا ...

-  أنا في مهمة عسكرية ولا يمكنني تجاوز الأمر.. وإن تقدمت خطوة واحدة أفرغت هذا الرشاش في جسدك وجعلت سيارتك غربالا .

نحن على موعد وشيك مع وصول الملهم ... تسارعت الحركات ، رفعت الجاهزية إلى أقصى حد ، الدراجات النارية تشق طريقها خلال الجماهير المحتشدة ، السيارات تنطلق كسهم موجة جيئة وذهابا ، العساكر تدفع بالجمهور للتراجع إلى الخلف ، العساكر تضرب الجمهور بالعصي والسياط ، فينكفئون للخلف قليلا ، تشرئب الأعناق للأعلى ، يرتفعون على رؤوس أقدامهم ، يلتفتون جهة المطار ثم يندفعون إلى الأمام ثانية ، يتعثر الناس يتكومون فوق بعضهم ويدوسون بعضهم بعضا .

نحن على موعد وصول الملهم .... وها هي طائرته تحوم فوق المطار. انطلقت رصاصة خاطئة في الهواء من بندقية أحد الجنود بعد أن ضغطت إصبعه على الزناد وهو في حالة انفعال وفقدان وعي لما يدور حوله ، صوب نحو صدره ألف مسدس وبندقية ورشاش من فوق سيارة ودراجة نارية... وطائرة حوامة ....  ومترجل عسكري أو مدني متخف ... خر صريعا في لحظته ، وقد تحول جسده إلى كومة أشلاء مدماة  ، وخر صريعا معه كل من ساقه حظه التعيس في هذا الموكب السعيد ليكون قريبا منه .

انطلقت من بوابة المطار سيارات الموكب السوداء الفارهة بزجاجها العاتم كسهم تسابق الريح وتشق الهواء ، وقد أحاطت بها الدراجات النارية من جميع الاتجاهات وفي المقدمة والخلف سيارة مكشوفة نصبت فوقها كاميرات فيديو لتصوير موكب التشريف والإستقبال من جماهير الوطن ، وهم يهتفون بأناشيد الإستقبال ، ويترنمون طربا بعودة القائد سليما معافى ، ويلوحون بأيديهم ، ويندفعون إلى الأمام تجاه سيارات الموكب ودون أن يميزوا أحدا بداخلها... أو حتى يتأكدوا إن كان الملهم في سيارات الموكب ، أو أنه فعلا نقل بطائرة سمتيه إلى القصر كما أشيع فيما بعد حرصا على سلامته ، بعد إطلاق الجندي التعيس رصاصة خاطئة في الهواء .

سيارة أمن في مقدمة الموكب بصوتها المزعج تطير مسرعة لتفرق الناس من وسط الطريق وتفتحه... سقط أحد الطلاب... انكب على الأرض ، تعثر به ثان وثالث وسط الشارع ...عبرت السيارة فوق بعض أجسادهم الغضة الطرية ، ثم تابعت مسيرها وكأن شيئا لم يكن .

في المساء تحلّق الناس في بيوتهم أمام الرائي ليشاهدوا نشرة الأخبار: مواكب الإستقبال والتشريف من الموظفين تهرع من جميع أنحاء البلاد لتحية القائد الملهم ، وتهنئه بالعودة سالما معافى ، وتنتشر على الطريق العام عند مدخل المدينة على مسافة عشرات الكيلومترات على طريق المطار.

عرضوا الخبر ، صور التصفيق والصفير، والأناشيد والهتافات ، والشعارات واللوحات البراقة التي ترحب بالقائد وتحييه ، أما صوره المرفوعة فقد عرضت ببطء ممل بكل أشكالها وأنواعها : بلباس شعبي ، بزي العشائر أو ببذلة إفرنجية وربطة عنق ونظارة عاكسة ....  في المسجد قائم يصلي خاشعا ، في الحقل خلف المحراث القديم ، في المصنع وبيده مطرقة ، على الجبهة بلباس عسكري مع الرتبة الفخرية  .... بين يديه كتاب يقرأ فيه ، نسر طائر يقود طائرة قاذفة ، في المستشفى يتفقد المرضى ، في حي شعبي يتفقد أحوال الفقراء والمساكين  .....

 يدشن مصنعا ... يؤسس سدا .. يغلق سجنا.. يفتح مدرسة.. يبني مستشفى .

ظهرت صورته أخيرا وهو يفتر بابتسامة عن ثغر نضيد ويرد على تحية الجماهير " لا نريد الإستقبال أن يكون بالهتاف والتصفيق والشعارات فحسب... بل نريده بالعمل الجاد الدؤوب ، من الموظف والمعلم والطالب والمهندس والدكتور.... من العامل والفلاح ... كل من وظيفته ومكان عمله "

أخرج صاحبنا نفسا عميقا مرا ، وآهة طويلة  ، وهو يحسب في ذهنه غربة وفراق ثلاث سنوات قادمة جديدة على الأقل ، بعيدا عن الأهل والأولاد ليتسنى له إكمال بناء وتجهيز منزله في القرية بعد أن عاد من موكب الإستقبال... بلا سفر وبلا حقيبته الدبلوماسية... والتي بداخلها حصاد ثلاث سنوات من الغربة ، والضنك والفراق .