حكايات
حكايات
مصطفى ذكري
(1)
كنتَ دائماً مع أصدقاء السوء، لكنكَ بشكل مُبهم لم تكن واحداً منهم. تتردد في اللحظة الأخيرة فقط. هم لا يعاتبونكَ على ترددكَ، وكأنهم يعرفون أنكَ تحب أن تكون معهم في لحظات السلم. اليوم حلمتَ بأحدهم. كان دخوله السجن عقاباً عادلاً. عاهة مستديمة للطرف الآخر. رأيته في الحلم في مكان ما، وسعدتَ برؤيته، وسألته عن أخباره، وكأنكَ بشكل ما تعتذر عن دخوله السجن، تعتذر عن تعقلكَ في اللحظة الأخيرة. في الحلم أيضاً أنبأكَ شخص غامض، وكأنه محام مجهول، أنه يجب عليكَ تسليم نفسكَ عوضاً عن الصديق لقضاء مدة الحبس. حينها شعرتَ بالكره الشديد ناحية الصديق والمحامي معاً، بل شعرتَ أنكَ تحلم، وأصبح كل تركيزكَ هو أن تفيق من الحلم. لحظة رائعة أن تكون في منتصف الحلم ويراودكَ الشك في أنكَ تحلم. تعرف أنكَ تملك العقل الذي لا يسمح لكَ بخطر الحلم. بهدوء قمتَ من النوم. شعرتَ بسعادة أبدية في كونكَ كنت تحلم، وأن مدة حبسكَ ذهبت هباءً. لم تستمر السعادة الأبدية أكثر من دقائق معدودة، أيّ انتهتْ بقيامكَ من الفراش.
(2)
إلى ما لا نهاية أنت مع الأم في زيارات. صديقات قديمات لها. زاهية التي استخدمتَ اسمها في فيلمكَ الأول. دمياطية، نظيفة لحد الهوس، ذات لحم خمريّ، ابتسامتها سمحة عريضة، أسنانها مصفوفة مثل طقم أسنان اصطناعية. كنت دائماً تشرب الشاي في صمت بين ساقيّ أمكَ. عالم شديد الحسيَّة يتفجر من حولكَ، تحسه في عينيكَ. بنات جميلات يظهرن ويختفين في لحظات ساحرة. عتمة البيوت ورطوبتها محببة إلى نفسكَ. تتمنى دائماً أن تطول الزيارات دون أن يظهر عليكَ استمتاعكَ بالبقاء. تعرف أن الشوارع في الخارج بها قسوة الضوء الواضح وزمتة القيظ. الحديث عن الموتى أكثر ما يكون. يتصعَّبون على الدنيا الفانية، الدنيا الكرَّارة الفرَّارة. حس رواقيّ يكتنف كلماتهن. وداعة وأمن وأنت تسمع "الله يرحم الجميع". العبارة الشجيَّة تطلقها جدَّتكَ كثيراً وهي تترحم على ابنها سليمان وعمَّتكَ نعيمة وجدَّكَ محمد. لم تر هؤلاء، لكن تكرار الاسم أمامكَ بنفس النغمة ونفس الحسرة يقطعُ في قلبكَ. لم تنس الجدَّة أن نعيمة الجميلة ماتت بسبب تخلي عربي ابن عم أبيكَ عنها وزواجه المفاجئ بإحسان. المرارة في قلب الجدَّة لن تزول. الجميع يعرف هذا. والجميع يحترم الحزن، حتى عربي وإحسان. كل ما في الأمر هو تحاشي الخوض أمامها بذكر نعيمة كي لا تهيج الذكرى.
(3)
فكَّرتَ أن السر ليس بمحتواه، بل بحركة إخفائه.
ابتلعتَ وأنت صغير قرط شقيقتكَ الحُمُّصة، فأخذتْ أمكَ على نفسها مهمة مُراقبة الفضلات التي تخرج منكَ، وسبرها بإبرة كانفاه رفيعة.
قالتْ لكَ بلهجة حازمة: لا تخبر أحداً حتى نجده.
أخذتْ عليكَ عهداً بعدم الذهاب إلى التواليت دون علمها، ورغم ذلك ساورها الشكُ في أمانتكَ.
كانت أقرب إليكَ منكَ في معرفة رغبتكَ في الإخراج.
وكنتَ أنت تنافسها في لعبة شيقة غير مُدرك خطر بريِّمة القرط التي من الممكن أن تخترق بطنكَ.
المنافسة من جانبكَ كادت أن تولِّد الحقد تجاهها.
عرفتَ بعد ذلك أن السر الصغير كان سرها، وليس سركَ، ولم تكن مُشاركتكَ فيه إلا مُشاركة تافهة سطحية، على اعتبار أن أقصى إفشاء لسرٍ هو أن يكون بين اثنين، ولم تكن أنت الثاني أبداً، بل هي فقط التي حملتْ سركَ المُعلن بكتمان تام.
عندما وَجَدَتْ أخيراً القرط تنفستْ الصعداء، وأعلنتْ على الجميع الخطر الذي كاد أن ينال منكَ.
(4)
في فيلم "ساعي بريد نيرودا" وفي رواية أنطونيو سكارميتا التي تحمل نفس الاسم.
يسأل الساعي الحالم شاعراً كبيراً عن الكلمات، وكيف لها أن تؤثر فينا.
يقول الشاعر: عن طريق المجاز، فيسأل ساعي البريد: وما المجاز؟
يقول الشاعر: المجاز هو وصف شيء بصفة شيء آخر.
السماء تبكي. يقول ساعي البريد: الإنسان هو الذي يبكي.
لكن لو جعلنا السماء هي التي تبكي، فماذا نفهم من بكاء السماء؟
قال الساعي: إنها تمطر.
هذا هو المجاز.
يسأل الساعي: هل نستطيع القول بأن هذا العَالَمْ الذي نعيش فيه من أرض وسماء وبحار وأنهار وكلمات هو مجاز لشيء آخر.
قال الشاعر: قد يكون المجاز في حقيقته هو مُفاجأة ودهشة التطابق والتماثُل بين الشيء الذي نستعيره لنصف به وبين الشيء الموصوف.