ابن الحطاب
نازك الطنطاوي
في قرية صغيرة كان يعيش فتى اسمه محمد مع والديه في كوخ صغير، كان الأب يعمل حطاباً.. يذهب كل يوم في الصباح إلى الغابة ولا يعود إلا في المساء، يحتطب ويبيع الحطب ليعول بثمنه نفسه وأسرته، وكان ولده محمد الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر ذكيّاً محبّاً للقراءة، ومساعدة أبيه.
في يوم من الأيام، وبينما كان محمدٌ عائداً إلى منزله، رأى أهل القرية وقد اجتمعوا أمام المنزل، وسمع أصوات النسوة تضجّ بالبكاء.. صُعق محمد لهذا المنظر، وأيقن أن مصيبة كبيرة قد نزلت بأهله.. دخل إلى البيت فرأى أباه ممدداً على الأرض، قد فارق الحياة، والدماء تغطي وجهه وثيابه، وعلم أن أباه قد سقطت عليه شجرة كبيرة فقضت عليه. اندفع محمد نحو أمّه، وأخذ يضمّها بشدّة، والدموع تملأ وجهه.. احتضنته الأم بحزن، وأخذ الاثنان يبكيان، وبعد أن هدأت الأم، نظرت إلى ابنها الصغير، وقالت له بوداعة.
- لا تحزن يا بني، فلله ما أخذ، ولله ما أعطى، والحمد لله على كل حال.
وسكتت برهة ثم قالت بشيء من الحزم.
- الآن أصبحت رجلاً -يا بني-.. يجب أن تعتمد على الله أولاً ثم على نفسك..
* * *
مضت الأيام، ومحمد يذهب إلى الغابة صباحاً، ويعود مساء، فيأكل ما تيسر له من الطعام، ثم يسرع إلى السوق ليبيع حطبه، كما كان يفعل والده.
لم يستطع محمد الصبر على هذا العمل، فالحال لم يتحسن، وبقي كما هو عليه، وفي يوم من الأيام أحضرت الأم الطعام لابنها ليأكل، فوجدته شارد الذهن، وقد وضع يده على خدّه.. جلست بقربه، وأخذت تمسح على رأسه، وهي تقول بنبرة حزينة.
- مالك يا بني؟ لماذا أنت شارد الذهن هكذا؟ أنا أعرف أنّ الحِمل ثقيل عليك، ولكن ما العمل؟
تنبّه محمد من شروده وقال برجاء.
- أريد أن أسافر يا أمي..
ضربت الأم بيدها على صدرها مذعورة.
- ماذا تقول يا بني؟
- أجل يا أمي أريد أن أبحث لي عن عمل آخر نعيش من ورائه.. لقد تعبت من هذا العمل بلا فائدة.. إنه لا يجلب غير القليل من المال، ويأخذ الصحة معه..
لم تصدّق الأم ما سمعته أذناها، ولكنَّ محمداً أمسك بيديها، وأخذ يقبّلهما بحبّ وهو يقول.
- أرجوك يا أمي اسمحي لي بالسفر.. أريد أن أجرّب حظّي في مكان في غير هذا المكان.. أرجوك..
أطرقت الأم واجمة، وأخذت تفكّر، وبعدها التفتت إلى صغيرها ونبرة الموافقة في صوتها.
- توكّلْ على الله يا بني.. وأدعو الله أن يُنير طريقك..
فرح محمد بما قالته أمُّه وأسرع يقّبل جبينها ويديها..
في اليوم المحدد للسفر، جمع محمد متاعه، وأحضرت له أمُّه زوّادة تكفيه بضعة أيام.. تناول محمد الزوادة، وودّع أمّه، محاولاً إخفاء حزنه ودموعه.
- ادعي لي يا أميّ الحبيبة، وبإذن الله لن أتأخّر...
كانت عيون الأم تلاحقه، وصوتها يصل إلى مسامعه، إلى أن غاب عن ناظريها.
- رافقتك السلامة يا حبيبي، وأرجو من الله العليُّ القدير أن ييسّر لك طريقك، ويُغنيك من فضله، ويردّك إليَّ أميراً..
كان محمد يسمع دعاء أمّه، وعندما سمع أنها تريده أن يعود إليها أميراً، ضحك وقال في نفسه:
"أتمنى ذلك يا أمّي الحبيبة، ولكنْ.. من أين تأتيني الإمارة، وأنت تعرفين من أكون.."
مشى محمد مسافة طويلة، وكلام أمّه ودعاؤها يؤنسانه في الطريق، وعاهد نفسه أن يعود إليها في أقرب فرصة ممكنة وقد تحقّق له كلّ ما تحلم به نفسه.
مرّ يومان ومحمد يمشي وحده في الطريق، يرتاح قليلاً ثم يتابع المسير، وكان رفيق دربه المصحف الشريف يقرأ ما يتيسر له، ومع وحشة الطريق وشدّة التعب شعر محمد بالضيق، وتمنّى لو يرى رفيقاً يصحبه في هذه الرحلة، ويتجاذب معه أطراف الحديث..
في اليوم الثالث وبينما محمد يسير وحيداً مهموماً، رأى من بعيد حصاناً مربوطاً إلى جذع شجرة، وما إن اقترب من المكان، حتى شاهد شاباً وسيماً قد اضطجع إلى ظل الشجرة.. تبسّم فرحاً، واقترب من الشاب محيياً.
- السلام عليك يا أخي.
ردّ الشاب.
- وعليك السلام.. أهلاً بك.. اجلس..
جلس محمد بجانب الشاب، وقد لفت نظره ثيابه الفاخرة، وحصانه القويُّ، وتمنّى في نفسه لو يكون رفيقه في الطريق.. ثم سأله محمد.
- من أنت أيها الشاب وإلى أين وجهتك؟
أجاب الشاب باستعلاء.
- اسمي أيمن ووالدي تاجر، وأنا قررت أن أعتمد على نفسي، وأعمل تجارة خاصة لي.. وأنت من تكون؟ وأين وجهتك؟
- اسمي محمد، ووالدي كان يعمل حطاباً، ثم توفي، وأنا أبحث عن عمل أعول به نفسي ووالدتي.
واتفق الشابان على أن يترافقا في الطريق.
نهض الشابان ووضع محمد متاعه على ظهر الحصان، ومشى إلى جانب أيمن، وبعد فترة أحسا بالجوع فقال أيمن لمحمد.
- دعنا نتوقّف لبعض الوقت، ونأكل شيئاً من الطعام، ولنبدأ بزوادتك ثم زوادتي.
وافق محمد على اقتراح أيمن، وجلس الاثنان يأكلان.. وبعد ذلك تابعا المسير، وكلّ منهما يقصّ على صاحبه ما مرّ به، وبعد فترة طويلة من المسير طلب محمد من أيمن أن يتوقفا ليستريحا ويأكلا، ولكن أيمن رفض أن يخرج طعامه.. أمسك بالزوّادة قائلاً.
- أنا آسف يا صديقي، فزوّادتي لا تكاد تكفيني أنا وحدي.
ثم ركب حصانه وانطلق مسرعاً..
نظر محمد إلى أيمن وهو يعدو بحصانه بسرعة البرق قائلاً بأسف.
- لي الله يا بخيل.. يا غدّار.. لم تترك لي كسرة خبز..
تلفّت محمد حوله يفتّش عن شيء يقتات به، وشدَّ يده على بطنه من ألم الجوع، وفيما هو يفكر كيف سيجد الطعام ليأكل، رأى على البعد شجرة كبيرة، فاتجه إليها، وأكل من أوراقها، ومن حشائش الأرض، لعلها تعينه على السير.. أحسّ بالتعب، وهجم عليه النُّعاس، فأسند رأسه إلى جذع الشجرة، وأسبل أجفانه، وأغمض عينيه، وأسلم نفسه لنوم لذيذ، بعد جوع وتعب.
وفيما هو نائم، رأى نفسه في غابة، وأنّ الشمس قد غربت، وأنه خاف من وحوش الغابة أن تلتهمه، فأوى إلى كهف يحميه، ولم يكن يدري أنّ هذا الكهف هو المكان الذي تجتمع فيه حيوانات الغابة، بمليكها الأسد كلّ ليلة، لتقصّ عليه ما حدث لها وما شاهدته وسمعته من قصص وحكايات.
شعر محمد بالخوف، فاختبأ خلف صخرة كبيرة في عمق تلك المغارة الكبيرة..
حضرت حيوانات الغابة، ونظر الأسد حوله.. رفع رأسه وأنفه ليشمَّ أكثر ثم قال:
- ما هذه الرائحة؟.. أظن أنها رائحة إنسان..
نظرت الحيوانات حولها فلم تر شيئاً.. وتفقّد الكلب المكان لعله يجد شيئاً، وهناك قطع محمد أنفاسه، وابتهل إلى الله أن يحميه من أنياب تلك الحيوانات.
عاد الكلب وهو يقول.
- لا يوجد أحد هنا.. ربما كانت نسمة حملت معها هذه الرائحة.
اطمأن الأسد، وتوجّه إلى الحيوانات قائلاً:
- من سيتكلم أولاً؟..
نهض الكلب واستأذن الأسد بالكلام:
- سمعت، يا زعيم الغابة، أنّ هناك جُحراً قريباً من هذا الكهف، يسكنه جُرذٌ كبير الحجم، يخرج من جُحره مع طلوع الشمس، ويفرش الأرض بالليرات الذهبية، ويتقلّب عليها فرحاً مسروراً، وعندما ترتفع شمس الضّحى، يجمع الجرذ ليراته الذهبيّة، ويعود بها إلى جحره مرة أخرى.
استغرب الأسد هذا الكلام، وتساءل بدهشة:
- كيف لم أر هذا الجرذ، ولم أعرف قصّته وأنا زعيم الغابة؟..
فتح محمد عينيه وأذنيه وهو غير مصدّق لما يسمع.. وبينما هو يفكّر بما قاله الكلب، سمع صوت الأسد مجلجلاً:
- هل عند أحد منكم خبر كبير كخبر الجرذ؟
رفعت العنزة رأسها مستأذنة الأسد بالكلام، فأومأ الأسد إليها أن تتكلم، فقالت:
- أمّا أنا يا زعيم الغابة، فقد سمعت أنَّ حاكم البلدة التي بقربنا، يوصف بالحاكم السعيد التعيس.
نظر الأسد والحيوانات بدهشة نحو العنزة، وقال الأسد وهو يضحك:
- ماذا تقولين؟.. حاكم سعيد وتعيس في آن واحد؟ هل تمزحين؟
أجابت العنزة بجديّة.
- لا يا أسد الغابة وسيّد السّباع، أنا أقول الصدق.
سأل الأسد:
- وهل تعرفين، أيتها العنزة الذكيّة، أسباب سعادته، وأسباب تعاسته؟
اقتربت العنزة من الأسد، ونفضتْ رأسها، ثم قالت:
- ماع.. ماع.. أمّا أسباب سعادته فكثيرة، فهو الحاكم، ويملك من أسباب السعادة ما يملكه كلّ حاكم، فعنده القصور، والأموال، والضّياع، وعنده العبيد والجواري والخدم، وعنده جيش يحميه ويحمي بلاده، وأما أسباب تعاسته، فتكمن في ابنته الشابّة الجميلة، وزوجته الرائعة.
فقاطعها الأسد بنزق:
- ما دامت زوجته رائعة، وابنته شابة جميلة، فلماذا كانتا سبب تعاسته؟
قالت العنزة:
- لا تَعْجل عليّ يا مولاي.. سأشرح لك..
قال الأسد:
- هيّا اشرحي بسرعة..
قالت العنزة في خوف:
- أمّا ابنته، فقد أُصيبت بحمّى شديدة أثَّرت على عقلها، فحزنت عليها أمّها أشدَّ الحزن، ومن شدّة البكاء عليها، فقدت الأم بصرها، وعَجز الأطباء عن شفاء الملكة والأميرة، فأعلن الملك عن جائزة عظيمة لمن يستطيع أن يشفي زوجته وابنته.
زمجر الأسد:
- همم.. ألم يجد الطبيب الفهيم الذي يشفيهما؟
ردّت العنزة:
- إلى الآن لم يستطع أحد من الأطباء علاج الملكة والأميرة، مع أنَّ الأمر بسيط جداً..
سأل الأسد:
- علاجهما بسيط جداً، ولا يعرفه الأطباء؟ كيف؟
وضحك الغزال من قول العنزة وقال بسخرية:
- وما هذا الدواء العجيب، الذي يشفي الملكة والأميرة، يا عزيزتي العنزة؟
لم يكد محمد يستفيق من دهشته الأولى لقصة الكلب، حتى أُصيب بدهشة أكبر، وهو يسمع قصة العنزة والحاكم السعيد التعيس.. ثم أنصت لما تقوله العنزة.
قالت العنزة.
- هل تعرفون يا حيوانات الغابة ويا سباعها ووحوشها تلك الشجرة الضخمة فوق تلّة البلّوط؟
أجابت الحيوانات بصوت واحد:
- نعم.. نعرفها..
قالت العنزة:
- الحمد لله.
توقفت العنزة قليلاً لتلتقط أنفاسها، فنهرها الأسد بقوة.
- تحدثي بسرعة، وإلا أنشبت مخالبي بجسمك.
ارتعدت العنزة، ورجعت خطوتين إلى الوراء وهي تتابع:
- لو أخذوا عدّة ورقات من تلك الشجرة، وجفّفوها، وسحقوها، ثم مزجوها بقليل من الزيت، وقطّروا الملكة بذلك المزيج ثلاث مرات، لعاد إلى الملكة بصرها، ولكانت صاحبة أجمل عينين:
قالت الغزالة:
- ليتني أستطيع ذلك..
فضحكت الوحوش والسباع، وزمجر الأسد:
- أكملي حديثك الغريب أيتها العنزة.
قالت العنزة:
- في أعلى تلك الشجرة ثمرة تشبه الجوزة، لو قطفوها، وكسروها، لوجدوها ممتلئة بماء مرّ كالعلقم.. إذا خلطوا ماءها هذا بكأس من حليب، وسقوه الأميرة، لشُفيت الأميرة، وعاد إليها عقلها، وصارت أعقل البنات، وأجمل النساء.
كان محمد يصغي بانتباه... فسمع صوت الأسد قائلاً:
- كفى أخباراً هذا اليوم.. قوموا إلى أوكاركم واسعوا جيّداً في تحصيل رزقكم.
قام الأسد وقامت بعده الحيوانات إجلالاً واحتراماً، وتفرّق الجميع..
واستيقظ محمد، فهبّ واقفاً يفرك عينيه، وعرف أنه كان مناماً، فتنفّس الصّعداء، وخرّ إلى الأرض ساجداً لله تعالى، شاكراً إياه، فقد حماه من تلك الوحوش الضارية، ولكنّ كلام الكلب والعنزة ما يزال يرنّ في أذنيه. قال في نفسه:
- سوف أتحقق بنفسي من كل ما سمعت.. ولأبدأ بالجرذ أولاً..
في صباح اليوم التالي، مشى محمد قليلاً نحو الجحر الذي يسكنه الجرذ، فسمع صوت خشخشة من داخل الجحر، فاختبأ وراء شجرة قريبة، وإذا بفأر كبير يفرش الأرض بالليرات الذهبية، ثم يستلقي عليها في فرح غامر..
في بادئ الأمر لم يصدّق محمد ما رآه، فرك عينيه ليتأكد أنّ الذي رآه صحيح، وأنه في يقظة وليس في حلم.. وبهدوء شديد تناول من الأرض حجراً كبيراً، وضرب به الجرذ ضربة قاتلة، ارتمى على أثرها الجرذ ميتاً، ثم أسرع يلتقط الليرات الذهبية، ويخبّئها في جيوبه وقبعته التي على رأسه وهو يقول:
- الحمد لله الذي رزقني من بعد فقر..
* * *
ارتفعت الشمس، وأصبحت في كبد السماء، وأحسّ محمد بالجوع.. تلفّت حوله، فرأى على البُعد تلّة عالية، فوقها شجرة ضخمة، فقال في نفسه:
- لعلّ تلك الشجرة هي التي كانت تعنيها العنزة.. سأتسلّق التلّة، لعلي أجد ما آكله عند تلك الشجرة.
حينما بلغ أعلى التلّة، كانت فرحته عظيمة، فقد تأكّد أنها هي التلّة التي تحدثت عنها العنزة، وأنّ هذه الشجرة الضخمة هي المقصودة، فقال لنفسه في أمل:
"تُرى.. هل يستجيب الله دعاء أمّي، فأكون أميراً؟ ولكن.. كيف؟.. الأمر بسيط يا محمد.. أن يأذن الله بشفاء الملكة والأميرة على يديك.. عندئذ تصير أميراً"، ولكنّه ما لبث أن أبعد هذا الخاطر عن نفسه، واستغفر الله، وشخص ببصره إلى السماء وابتهل.
- يا ربّ.. لا أريد أن أكون أميراً.. أريد أن يعود النور إلى عيني الملكة، وأن يعود إلى الأميرة عقلها.. لا أريد شيئاً آخر يا الله يا كريم..
ودمعت عيناه..
استراح محمد قليلاً تحت تلك الشجرة، ثم تناول بعض الأعشاب، نظّفها بيده،. ونفخ عنها الغبار، ثم أكلها، وحمد الله تعالى، ثم أغفى إغفاءة قصيرة، رأى نفسه فيها وقد صار أميراً في قصر مع أمّه وزوجته الأميرة، والقصر يعجّ بالخدم والحشم.
استيقظ محمد من نومه، والأمل يداعبه.. نهض نشيطاً، وتسلّق الشجرة، وفتّش عن الثمرة، فوجدها، وقطف بعض أوراق الشجرة، ونظّفها بيديه، ثم نشرها تحت عين الشمس المحرقة، فيبست.. سحقها بأصابعه، ثم وضعها في كيس نظيف كان معه.. وأحسّ براحة لا مثيل لها.
* * *
دخل محمد المدينة والشمس تقترب من المغيب، ثم اتجه إلى خان ينام فيه حتى الصباح، وهو يحلم بالملكة والأميرة، وتذكّر والدته ودموعها، ودعا الله أن ييسر مهمته، ليعود إلى أمّه في أسرع وقت ممكن..
استيقظ محمد على ضوء الشمس يملأ فضاء الغرفة.. نهض من فراشه فرحاً، وأسرع وتوضأ وصلّى ركعتين لوجه الله تعالى على نيّة التيسير، وبينما هو يدعو الله، سمع منادياً ينادي بأعلى صوته:
- يا أهل المدينة.. الحاضر يُعلم الغائب.. الملك يبحث عن طبيب ماهر يداوي الملكة والأميرة.. من يجد في نفسه الكفاءة العالية فليتقدّم إلى الملك وله ما يتمنّى..
أسرع محمد وفتح نافذة الغرفة ليتأكّد مما سمعه.. أخرج العلبة والكيس ووضعهما في جيبه قاصداً قصر الملك.. وما إن وصل إلى القصر حتى قال للحراس:
- أنا الطبيب الذي يريده الملك.. أنا طبيب الملكة والأميرة.
كان الوقت يمرّ ببطء شديد، حتى سمح له كبير الحراس بأن يتقدّم إلى قاعة العرش.. دخل محمد القاعة، ورجلاه لا تكادان تحملانه من الخوف.. سلّم على الملك:
- السلام عليكم يا مولاي الملك المعظّم.
نظر الملك إلى محمد، فرآه شاباً يافعاً في مقتبل العمر، فقال له بحزن:
- ما الذي أتى بك إلى هنا يا ولدي؟..
أجاب محمد بأدب واحترام:
- جئت حاملاً الدواء للملكة والأميرة يا سيّدي، وسيكون شفاؤهما على يديّ بإذن الله يا مولاي..
قال الملك في إشفاق عليه:
- ولكنْ ألا تعلم أنك إذا فشلت في مهمتك فإنَّ السجن بانتظارك؟
خفق قلب محمد من شدّة الخوف، ولكنّه قال في ثقة:
- سأجرّب دوائي والله معي.. فأنا واثق من دوائي..
ساد الصمت قاعة العرش، قطعه تصفيق الملك ليأتي الحاجب على الفور.
- أمرك مولاي..
- قل لملكتك والأميرة أن تجهّزا نفسيهما لكي يراهما الطبيب..
- أمرك مولاي..
خرج الحاجب وعينا محمد تلاحقانه إلى أن غاب، لينتبه على صوت الملك يقول له:
- وماذا تتمنّى وترجو، لو كان الشفاء على يديك؟
أجاب محمد:
- أتمنّى أن أكون خادمك وصهرك المطيع يا مولاي..
دُهش الملك من كلام محمد، وهمّ أن يرفض العرض ولكنه قال في نفسه:
-" أظن أنه سيخفق كما أخفق غيره.. لذلك سوف أوافق على طلبه"..
ونظر إلى محمد، وابتسامة خفيفة تُشرق من بين عينيه:
- أوافق على شرطك أيها الشاب المغامر..
- إذن على بركة الله.. فلنذهب أولاً إلى جناح الملكة..
دخل محمد على الملكة.. وكانت جالسة على سريرها مغمضة العينين.. تقدّم من الملكة بهدوء قائلاً لها بلطف شديد:
- السلام عليك يا مولاتي الملكة المبجّلة..
ردّت الملكة بأسى وحزن شديدين:
- وعليك السلام أيها الطبيب.
اقترب محمد من عيني الملكة وحاول أن يفتحهما، أخرج الكيس الذي معه، وأخذ منه شيئاً من المسحوق وخلطه بالزيت، ثم مسح به عيني الملكة وهو يقول:
- باسم الله الشافي..
ثم أمر الملكة أن تفتح عينيها ببطء شديد..
حاولت الملكة أن تفتح عينيها، ولكنها لم تفلح، وفي المحاولة الثالثة استطاعت الملكة فتح عينيها، وإذا بالنور يعود إلى عينيها صرخت من الفرح.
- أبصرت أيها الملك.. أبصرت أيها الملك.. عاد النور إلى عينيّ.
كانت فرحة محمد عظيمة عندما رأى الملكة تصرخ من الفرح.. وأمام دهشة الملك وأعوانه، رفع رأسه إلى السماء شاكراً الله على نعمائه..
سُرَّ الملك برجوع البصر إلى عيني زوجته، ونظر إلى محمد قائلاً في رقّة:
- شكراً لك يا ولدي..
ثم صحب الملك والملكة محمداً إلى جناح الأميرة، وعندما رأى محمد الأميرة دُهش لجمالها الأخّاذ، وحزن لمرض صاحبته التي كانت تبكي وتشدّ شعرها، وتضرب خدّيها، ثم تضحك كالمجانين.. تقدّم الملك من ابنته يحاول تهدئتها، أما الملكة فقد احتضنت الأميرة، وأخذت تمسح شعرها الأسود الطويل، وتقرأ ما تيسّر لها من القرآن العظيم، ثم أخذت تسمعها الكلمات الحلوة، لعلها تهدأ، وما إن هدأت الأميرة حتى أشار الملك إلى محمد بالتقدّم..
تقدّم محمد نحو الأميرة.. لاطفها ومسح شعرها بيديه، إلى أن اطمأنت له، ثم أمر الحراس أن يأتوه بكأس حليب، ومزج ماء الثمرة بالحليب جيّداً، وطلب من الأميرة أن تشربه.
رفضت الأميرة شربه، فأمسك محمد الكأس، وقرّبها من فم الأميرة وهو يبتسم.. فتحت الأميرة فمها، وشربت ما في الكأس دفعة واحدة.. وفجأة.. أخذت تصرخ، وتضرب وجهها، وتشدّ شعرها، والملك والملكة في ذهول تام.. أمسك محمد بيديها بقوة، وأخذ يهدّئ من روعها، إلى أن هدأت ونامت، وقبل أن يتكلم الملك قال محمد:
- لا تستغرب يا مولاي.. بإذن الله سوف تشفى بعد أن يأخذ الدواء مفعوله..
استأذن محمد من الملك أن يظلّ بالقرب من الأميرة إلى أن تستيقظ، وتتحسّن حالتها، فوافق الملك:
- لك ذلك، وسوف ننتظر في الغرفة المقابلة..
مضت ساعات طويلة والأميرة نائمة.. اشتدّ خوف محمد على نفسه وعلى الأميرة أيضاً، فَشَرع يدعو الله أن يمنّ على الأميرة بالشفاء العاجل.. وبينما هو في توسلاته ومناجاته لربّه، إذا بالأميرة تتحرّك.. أمسك محمد قلبه خوفاً من أن يقع.. اقترب شيئاً فشيئاً منها، وأخذ يداعب شعرها الجميل إلى أن فتحت عينيها، وإذا بها ترى وجه محمد، فسألته بهدوء واستغراب.
- من أنت أيها الشاب الوسيم؟
كاد قلب محمد يقفز من صدره من الفرح، وهو يرى الهدوء والطمأنينة على وجه الأميرة، وقال لها بفرح غامر.
- أنا الطبيب يا أميرتي اللطيفة.
وقبل أن يكمل جملته، فُتح باب الغرفة، ودخلت الملكة مسرعة، والملك خلفها.. عندما رأت الملكة الأميرة جالسة على السرير في هدوء وابتسام، أسرعت نحوها، وأخذت تقبّلها بفرح غامر.. أمّا الملك، فأقبل على محمد يلفّه بكلتا يديه، والدموع تملأ عينيه، وهو يقول بسعادة:
لك كلّ ما طلبت.. الأميرة لك أيها الأمير..
وأمام حشد كبير من أهالي البلدة أعلن الملك عن موافقته زواج الأمير محمد بالأميرة، بعد أن تمكّن من علاج الملكة والأميرة، وأُقيمت الأفراح والليالي الملاح في قصر الملك شهراً كاملاً، ومُدّت الموائد، وكان أمر الملك واضحاً:
"لا أحد يأكل في بيته طوال شهر الفرح".
* * *
بعد مرور شهر العسل، استأذن الأمير محمد عمّه الملك بزيارة أمّه، فأضاء وجه الملك بابتسامة أحلى من العسل، وقال له:
- بشرطين!!
قال الأمير:
- أنا طَوع أمرك يا جلالة الملك المعظّم.
قال الملك:
- الشرط الأول. أن تصحب معك زوجتك الأميرة.
فأشرق وجه الأميرة بالحبّ والسعادة وقالت:
- أنا موافقة، بل سعيدة برؤية أمّ زوجي الطبيب الحبيب.
وقال الأمير محمد في فرح:
وأنا سعيد جداً بتنفيذ هذا الشرط، فما هو الشرط الثاني؟
قال الملك:
- أن تأتي أمّ الأمير محمد، لتعيش معنا في القصر.
لم تملك الأميرة نفسها من الفرح، فهتفت:
- وأنا معك يا أبي في تحقيق هذا الشرط.
* * *
جهّز الحراس الأمير والأميرة، وسار الموكب الأميري أياماً. وفي أثناء ترحالهم وجد الأمير محمد مجموعة من الرجال يعملون في حراثة الأرض، ولفت نظره شاب يعمل في جدٍ.. أنعم النظر فيه، وإذا هو الشاب الذي غدر به، وأكل زوّادته.. أمر الحراس أن يأتوه به، وعندما مَثُل بين يديه سأله محمد.
- من أنت أيها الشاب؟ ولماذا تعمل هنا؟
أطرق الشاب رأسه نحو الأرض وقال بخجل:
- اسمي أيمن، وأنا ابن رجل غني، ولكنّ الزمان غدر بي..
نظر محمد إلى الشاب نظرة عتاب قائلاً:
- غدرت بك الدنيا كما غدرتَ أنت بالشاب الذي أطعمك..
تعجّب الشابّ من كلام الأمير وقال والدهشة تملأ وجهه:
- وهل تعرفني أيها الأمير العظيم؟
تبسّم محمد وقال في ودّ:
- انظر في وجهي وسوف تعرفني..
تقدّم الشاب من الأمير ونظر إليه، ثم صرخ من الفرح:
- أنت محمد أيها الأمير؟
ثم انحنى على رجليه يريد تقبيلهما وهو يقول في توسّل:
- سامحني أيها الأخ الكريم، فقد سرقتُ طعامك، فبعث الله لي من يسرق مالي..
سأل الأمير:
- وكيف ذلك؟
أجاب أيمن:
- بعد أن هربت بحصاني منك، أقبل الليل عليّ، وإذا بمجموعة من اللصوص تستوقفني وتأخذ حصاني وكلّ ما أملك، وأنا هنا أعمل لكي أتدبّر أمر رجوعي إلى بلدي..
ثم أجهش بالبكاء، وطلب الصفح والسماح من الأمير:
- سامحني يا مولاي واصفح عني..
صمت الأمير لحظات، ثم أمر له بألف ليرة ذهبية، يعود بها إلى بلده وأهله، معزّزاً مكرّماً، فانصرف الشاب وهو يدعو للأمير بالبقاء وطول العمر، ويعاهده على أن يكون شاباً صالحاً أميناً.
بعد مسيرة أيام وصل الأمير إلى قريته المتواضعة، فأمر الحراس بالبقاء بعيداً عن بيت والدته، كي لا يرعبها منظر الجند، ونزل إلى بيته، وأمر زوجته أن تبقى خارج المنزل حتى يناديها.
تقدّم محمد من بيته، ودقّ بابه دقّات خفيفة.. أسرعت الأم وفتحت الباب.. في بادئ الأمر لم تصدّق عينيها.. ولكنّ محمداً أسرع إليها، وأخذ يقبّل يديها ووجنتيها قائلاً:
- أنا محمد يا أمي.. أنا ابنك الحبيب..
ضمّت الأم وحيدها إلى صدرها تقبّله والفرحة تغمرها:
- أخيراً عدّت يا حبيبي.. كم كنت خائفة أن أموت ولا أراك..
مسح محمد عينيّ أمّه وقال مداعباً.
- لقد تحقّق دعاؤك يا أمي وأصبحت أميراً..
لم تصدّق الأم ما سمعت أذناها، فطلبت من ابنها أن يُعيد الكلام مرة ثانية، وثالثة، فضحك محمد وقال:
- وقد تزوجت أيضاً أميرة جميلة يا أمي..
ونادى الأميرة.. دخلت الأميرة بحياء، ووقفت بجانب زوجها محمد، والأم غير مصدّقة ما تراه عيناها، وهي تفركهما، لتتأكّد من أنّ الذي تراه صحيح، وليس حلماً من الأحلام، فأومأ محمد لزوجته أن تقبّل يد أمّه، فأقبلت الأميرة، وأمسكت بيد الأمّ وقبّلتها، وأكبّت الأم على الأميرة تقبّلها وهي تبكي من الفرح قائلة:
- الحمد لله والشكر لك يا ربي..
وقال محمد، ودموع السرور والسعادة تملأ عينيه:
- كلّ هذا بفضل رضائك عني ودعائك لي يا أغلى الناس يا أمي..