دوبلير مزعج

رياض الأسدي

[email protected]

كم وددت أن أبقى مدة أطول لكي أحاول فقط، لكن، يبدو لا فائدة، لم يعد ثمة ما يمكن ان أفعله، وددت بجد؛ ليس لأني أحبّ ذلك، أبدا؛ ثمة متعلقات بشرية لي هنا؛ جسور وراء جسور: وهذه الشفرة هي كلّ ما تبقى من متعلقاتي. وأرى من الواجب – لا أجد كلمة مناسبة غيرها- أن أقوم بذلك؛ كم اكره كلمة الواجب هذه، لكن قاموسي أضعف عن أن يختار غيرها. عفوا.. سامحوني.. رغبة دائمة بالمعرفة: معارف قديمة غير مجدية غالبا تشبه معارف الأحلام جوجو بوبوهوووووووششششششششش شكو: مستحثات لا معنى لها-هنا- أراها وسط أحلامي بكلمات لا معنى لها أيضا وتلك حالة لا اجد لها تفسيرا لكني أتذكرها: تنتشر صورها على الجدران. مستحثات غريبة. قيء. صباح جديد آخر. حقيقة كم انا آسف على سؤ عرضي لكم.( هاي شبيك اليوم دختوووور!) لاتعبأوا بهذا الطرن ولا بكلامة إنه دوبلير مزعج تعرفت إليه منذ مدة قصيرة ( لا بالله! هـ هـ هـ مخبل! هـ هـ هـ مجنووووووووون)

كان الشعور بالتحول طاغيا منذ لحظة الاستيقاظ الأولى. طبعا. كلّ يوم. تحول آخر. جديد. بلادة ما نكون. والتحول ليس فكرة، هنا؛ الأفكار ليست بهذه الأهمية التي تكتسبها هنا؛ الآن؛ وهو ليس تحولا عن عالم ما؛ التحول أكثر الأشياء وضوحا في النهاية. ربما يكون اختفاء آخر، قسريا،أيضا؛ من النوع المباغت والسلس: تحول آخر. مزكوم بالتحولات. الحركة. هيرقليطس صديقي. النهر: تفففف! من اخترع كلّ ذلك الوهم؟ ومن يدري فربما يكون قاموسي أسوأ هذه الأيام في اختيار العبارات المناسبة. أنا فاشل. أعترف نغل!. تاريخك أضحى معروفا للجميع. ربطة العنق (الفيونكا) والحقيبة، وربع اللحية البيضاء تلك (السكسوكه) لن تغير من هويتك.. القذرة.. أنت معادي لكلّ شيء.. حتى نفسك. أعترف. هل تخاف بعد هذا العمر؟  

تقلصات بطنيه تهاجمني فجأة. كتب القانون الدولي والتاريخ القديم تتساقط من الرف واحدا تلو الآخر في إثر حركة غير مسبوقة. أششش. هذا أول الغيث أيها الألعبان. ما علاقة ذلك بتقلصات البطن؟ هل ثمة جنّ في الدار؟ ليس ثمة قصف هذه اللحظة. أووهوو! ماذا يحدث هذا اليوم؟ تبقى صور المستحثات تراقبني وأراقبها في عملية مبهمة كلما رفعت رأسي قليلا. تعددت اهتماماتي في السنين الأخيرة وشعرت بلا جدوى اختصاصي: ماذا يمكن ان يتعلم مني طلبة أغبياء يركضون وراء سرابات الجنس؟ بدأ الاهتمام بالقانون الدولي متأخرا بالنسبة لي، بعد أن شاهدت (الهمرات) تجوب الشوارع. لم أهتم لها في البداية وعددت الأمر مجرد لعبة غير مناسبة في أواخر حياتي. الستون التي هاجمتني أخيرا (عمرك خمس وستون عاما بالتمام والكمال) وفرغت كل الطاقة من جسدي. لم أعد أهتم بالطعام. لم آكل بعد ان ماتت زوجتي؟ آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآوه ( كانت تكرهك وتعتقد أنك إنسان عديم الأهمية وتعيش مع المستحثات .. أنت آخر المستحثات في هذه المدينة) أكلها انفجار مفخخة. لم يبق من زوجتي شيء ادفنه. قالوا لي: اجعل لها رمزا ما.. لماذا؟ ما فائدة الرموز؟ المرأة طارت بعد ثلاثين عاما من الخدمة الزوجية. لم ألتفت حتى. لكنها لا تزال موجودة تحدثني كل صباح عن أهمية تناول فطورا خفيفا قبل الذهاب إلى باب المعظم. لم احدّث أحدا بذلك. لماذا أحدثكم أنتم. ربما ستفضحونني. أجل. شيزوفرينيا. أستروني. رجاء. كأني لم أقل شيئا. سأحيل نفسي إلى التقاعد فورا. هاي شبيك؟ دكتووووور؟ منو منو منو؟ كخنازير حديدية جاثمة. كانت. هذه البقايا. أصوات عربات تلو عربات تجتاحني رغم أن ليس ثمة سكة قطار تمر بالقرب من داري: قطارات المعذبين الذاهبين قسرا إلى الاختفاء –هي- سبقتني إلى أمكنة عديدة في هذه المدينة الواسعة التي تحمل شارة الإمبراطورية. لكن المستحثات هي كل ما تبقى من الذاهبين أيضا. يمكنني أن اسمع أسماءهم وعناوينهم الآن: أنصتوا لهم من أجل لحظة الولادة فقط هوووو! أية ولادة حقيرة كانت لنا جميعا – آسف!- تعالوا شويه شويه:

-  السياسية صفية العمري علقت عارية لمدة ثلاثة أيام على عمود نور في أحداث غريبة     فتحت أبواب الموت العام.

-  تومان يعزف الفيفرا .. ويشاكس النساء في الشارع.

-  عامل السكة الحديد، جنجون، النقابي، القديم، سحله معترضون على قير الشارع ولم أفهم أسباب ذلك حتى الآن.

 (بعد عقود على تلك الحادثة الشهيرة)

-  الضابط حامد، أطلق عليه الرصاص وسط الشارع، قالوا كان ضابطا مطيعا للأوامر

كان يحدثني دائما عن خطته في السفر إلى عمان.

( بعد أشهر قليلة)

-  العجوز، نوعه التي تشبه سحلية سوداء،تلك الواجمة، دائما، أم المحل الصغير في نهاية الشارع التي اعتدت شراء السكائر منها وجدوها مطعونة بسكين مطبخ وسجل الحادث ضد مجهول.. من يقتل امرأة في السبعين؟ وأعرف من قتلها.. ولماذا قتلها.. مصيبة.. رجاء لا تتحدثوا بذلك إلى احد.. سوف أتهم بأشياء أفضع من الجنون

( بعد يومين فقط)

-  كنت أرى دائما جثثا طافية على ظهر النهر المحاذي لمنزلنا ولا اخبر أحدا. من اخبره بذلك. أششششش! أراها في أحلامي وأعرف أصحابها.. واحدا فواحدا: هم اخبروني بذلك. وأعرف من قتلها.. ولن أخبركم عن أي شخص آخر. روحي عزيزة طبعا. لكني فقدت شهيتي للطعام تماما. شكرا.

اختصاص جديد في البحث لم أجربه من قبل. حسنا: هاهو العالم مرة أخرى؛ شكرا للشاشة الإلهية الكبيرة دائما. هاهو يراهم، يلوحون له، من سقف الصالة: هالللللو مشغل الماكينة الخلفية. الفيلم لما يبدأ بعد. هآآآآآآآآآآآآآآآلو! أسف انقطع تيار التعريف بنفسي لأني أرغب بالبكاء الآن. أعذروني فالألم أصبح شديدا. وواصل حركته اليومية المعتادة؛ لكن أشياء كثيرة تتغير هذا الصباح دون إرادته، ثم عرف بصعوبة: أن ثمة انفلاتا واسعا للأشياء لم يعهده من قبل، وعليه أن  يواجهه بقوة؛ فأجهش ببكاء متواصل ثانية. من الممكن توقع ذلك بسهولة. لكنه رغم ذلك، بغتة، فرح كثيرا لأنه طالما أنزعج من الميكانيكا والفيزياء المحددة للحركة. طنطنطنطن. طننن. اشتعال سلك مغنيسيوم وهاج. بله كبير أن يختص الإنسان بالتاريخ القديم في هذا الزمن الغريب. لم يتعلم الكثير منه رغم أنه نال درجة بروفيسور. الفيزياء ضرورية في آخر العمر، وخاصة بعد الستين. شكو أنت؟ تريد توصفني؟ تفضل: كم أنت فضولي. أنت منو؟ الأشياء تتحول على نطاق مبهم وسريع ولا تفسير لديه؟ ذهنه متبلد جدا: Block head ماذا يمكن أن يفعل الواحد منا بإزاء هجوم كثيف من جبهات متعددة؟ هذا ما كان يردده في الأيام الأخيرة. ! dummmmmmm

أزعجه ذلك قليلا وفكّر في إمكانية التآلف مع كلّ ذلك التحول المضطرب. طالما بقي غير مؤمن بشيء في النهاية. وكانت علاقته بالأديان قد ورثها من تخصصه في التاريخ القديم فقط. زميل الشرقيات في دراسات الشرق الأوسط القديم: تعرف إلى عشرات الرؤى البشرية عن عالم المابعد.. وليس ثمة غير تحول بطيء من حال إلى حال. سنرى ذلك حتما مثل فيلم ومشغل.. ويبقى صباحا عاديا جدا. ربما. هنا. لا شيء مهما في النهاية. لكن من يدري ما الذي تختزنه اللحظات القادمات؟ سيختفي أخيرا، شكرا من القلب لجميع اللعب القديمة التي مورست معه أو ضده. د...روووووح! لا يذهب. دوبلير مزعج.

ولاحقته كلمتا "الاختفاء القسري" من جديد، بقوة، منذ أن استيقظ في هذا الصباح التموزي الحار. هاهو يجرب ارتداء بدلته الجديدة السوداء المهداة من الحكومة. حسنا أخيرا اهتمت به الحكومة بعد أربعين عاما من خدمة الجامعة. بررررر. هذا صوت دراجة نارية. بصق على الأرض من جديد؛ كانت رغوة زرقاء كبيرة متماوجة لم يشاهد مثلها من قبل. لم يفعل ذلك إلا في الأيام الأخيرة. تغيرت عاداته وطبائعه على نحو مقرف في الأيام الأخيرة. وكان شديد البصاق متعمده. أقترح عليه زملاؤه في القسم التقاعد فرفض: تففففف! على القسم. أيها ألبصاقي العجوز لقد أزعجتنا بما فيه الكفاية. قال: وماذا أفعل في منزل وحدي؟ ها؟ ساجن مبكرا. هل تريدون لي ذلك بعد أربعين عاما من الخدمة؟ دعوني اعمل. فقط. من يدرّس لكم السومريات بعدي للدراسات العليا؟ ومن قال لكم إني سأرتاح في منزلي؟! بدأت الحكومة تفكر به بعد أن تهرأت كلّ الملابس القديمة التي جاء بها من لندن منذ أربعين عاما. أعطته الحكومة بدلة رمادية من معمل (النجف) تحمل رائحة المقابر الكبيرة والمتداخلة: أرض السلام. أخيرا. فضحك في سرّه وتساءل عما إذا كان ثمة معنى لهذه البذلة، هنا، خاصة بعد أن شاهد الدبابات و(الهمرات) تجوب المدينة المتهالكة أخيرا.

ماذا يمكنني ان أفعل يا ألهي لم اعد أستطيع حتى الك..لام. نزعوا عني...كلّ.. شيء. س..ل..ب..و..ن..ي. التاريخ القديم كله. غير مجد ما كان وما سيكون. وهاأنذا أخيرا أمام حالة تحول كبيرة. ربما. من يدري ما الذي سيكون حقيقة؟ آه هاهم يخرجون من النهر تقطر من ملابسهم الدماء. نوعه العجوز تقهقه قائلة: يا لها من نهاية. الدم يملأ أرض الدكان الصغير. صور الأولياء معلقة. أووووه أشياء تتكرر دائما. التاريخ يعيد تغوطه عليّ غالبا. علينا علينا علينا جميعا. ربما. لا احد ينجو من هذه الفعلة الشنيعة. بس. بس. هذا ليس كلامي: كلامه هو. أقدم لكم اعتذاري. الدخان في كلّ مكان.

من أين يأتي هذا الدخان؟ هل قصف المكان؟ هل عادوا؟ ياالهي: البارحة طرق باب المنزل أناس لم أرهم من قبل، ملثمون، قساة. قالوا: طرطور ماذا تفعل هنا؟ أنا شنو؟ أأنت الدكتور؟ إي. أنا. شنو. شيل شيل!. ليش؟ أنا لدي أهمية أيضا؟ طبعا. شيييييل!. وين أشييييل؟ كانوا يريدون المنزل و الأثاث المتهرئ منذ أربعين عاما. صرخت بقوة: أثاثي! أثاثي! فاستيقظ الجيران وأنقذوني في اللحظة الأخيرة ببضعة أطلاقات رشت في الهواء. ططاه ططاه ططططاه؟ وقالوا لي عليّ أن أقتني بندقية أخيرا من اجل الدفاع عن نفسي، لا أعرف كيف استخدم هذه المستحثة الصناعية؟ وربما لا يجدون الوقت الكافي للدفاع عني في المرة القادمة.

كانت أوراق طلبة الماجستير في حقيبته مبعثرة، فوضعها بسرعة فائقة على غير عادته في حقيبته الإنكليزية الأثيرة التي اشتراها من افخر المحلات بعد نيله شهادة الدكتوراه في التاريخ الشرق أوسطي القديم. كان أستاذه واحدا ممن أسهموا في فكّ رموز اللغات السومرية القديمة، وشجّعه على السير بالطريق نفسه في لندن، لكنه كان يؤثر العودة للوطن دائما. هوووووو الوطن: أخيرا. هذا ما لم أستطع فكّ رموزه قط. طلبة أغبياء جدد لا يجيدون الإنكليزية، ولا يكتبون بعربية سليمة. طنطنة. كلّ ما كان. طنطنة من طراز الضحك الدائم غير المبرر في الظلام. ربما كان حلما بائسا مكررا يجد طريقه إلى النوم دائما وسط ليلة قلقة: المرأة المتلفعة بالسواد الحاملة للعصا التي تشبه عظمة زرافة، والصراخ المدوي بباب قلعة رمادية، والريح؛ للريح وقع آخر في ذاكرة ما بعد الاستيقاظ. يمكنه الآن أن يسمع هبوبها الفريد.. وبدت الشمس من خلل الشباك المفتوح غريبة مثل قرص مدمى وراء غيمة نووية. ملفات نوووية. هل استعملوا أشياء جديدة في الحرب؟ لم يعد يهتم بما يرى. لا شيء مثير رغم المشاهدة  المتأملة. هذا العجوز لم يعد يستوعب شيئا. ربما هو مصاب الزهايمر.

وضع الحقيبة على الطاولة حيث يقبع تشكيل قديم لسفينة شراعية غارقة منذ قرون. ربما سيجد فيها السراق ما يكفي من المعاني. هل أصبت بالزهايمر فعلا؟ لكن ذاكرتي قوية جدا. كذابون. يريدون إزاحتي عن رئاسة القسم فقط. القسم هههههههه! كان بإمكانه أن يسمع صراخ البحارة وهم يغوصون إلى جوف محيط متلاطم عريض، والمرأة تصرخ: يبوووو!، والريح تزأر. لم تكن ثمة عاصفة حقيقية، أدرك ذلك بسهولة. شكو؟ عندك عرض مسرحي؟ وحدهم القتلى السابحون على ظهر الماء يعرفون الحقيقة كاملة.

-  وأنا أعرفها أيضا! يمكنني ان أقول الكثير

-  أنت لا تعرف شيئا مما يحدث.. ومما حدث..

-  لأني مستحث .. يعني.. سأقول!

-  لن يصدقك احد.

-  لأني مريض؟

-  عليك نور!

إنهم يحاولون أخافتي، اجل، تماما كما يحدث للأطفال. ليس مهما. ركّز في القادم أيها الستيني. وبدت صورة (العشاء الأخير: سمكة مشوية الرائحة قوية نفادة) متحركة على الجدار الآخر من الصالة: وكان المسيح يخطب بصوت واضح: أيها التلاميذ إن هي إلا ليلة واحدة وسوف أغادركم! كانت لغة من فيلم " آلام المسيح" شاهده مرات عديدة، لكنه لم يفهم حتى اللحظة لم حدث كلّ ذلك؟ كان يتوقع ان يكون المسيح بلا صليب ولا دم ومريم المجدلية تصبح ملكة على اليهود!: ماذا تعني التضحية من اجلنا؟ ثم أجهش ببكاء جديد أخر كطفل هذه المرة. كان قليلا ما يهتم بما سيأتي بعد المرئي.. ألم أقل لكم إنه انتهى ولا يصلح لشيء؟ وبما أنه لا يجيد الآرامية فقد كان من الصعب عليه معرفة عباراته بشكل دقيق.. تعلم عددا من اللغات القديمة وعدّ واحدا من العارفين بها. لكنه الآن تناساها على نحو غريب. لم تعد ذاكرته تسعفه. ليحل إلى التقاعد لأسباب صحية. قدم استقالتك من رئاسة القسم. ولم يعد يريد أن يعرف أي شيء عن الماضي السحيق. تفففف على كلّ الماضي! تأكد الآن أن المسيح - على اللوحة-  يحذر الأتباع من الشيطان والسقوط في حبائله؛ أربعون نهارا وليلة وأنا أكرز في البرية، وهو يراودني، ركض خلفي التلامذة والريح و امرأة, وانا أعانده حتى صرعته.. هاللويا. أخيرا. وجد صعوبة كبيرة أخرى في تمييز قسمات وجه الأسخريوطي –لحظتئذ- وهو يركض خلف التلاميذ. لم يكن قد أكتشف بعد أن الاسخريوطي كان أعرجا! معرفة متأخرة على أية حال.

 دلف إلى الحمام بعد أن تحسس ذقنه الطويلة. ثم حلق بسرعة على غير عادته. نصف موس منقوعة في ماء موحش تشبه مركب (فايكنغ) لمهاجمين مجهولين: أناشيد الوصول إلى الغنائم. كانت بقايا صابون "أدم" للحلاقة لما تزل عالقة بين فوديه، لكنه لم يعر لها اهتماما. كان صباحا تموزيا مشمسا ورطبا وغامضا. ولم يكن صباحا عاديا، هو، لا يجده كذلك لكنه أيضا كان أقرب إلى الصباح الأصفر النهائي. ولم يكن صباحا مسجلا في دفتر مذكراته التي اعتاد كتابتها منذ عشر سنوات تقريبا.

أنت لم تحقق الكثير مما خططت له. أنت فاشل حقيقي. حدّق جيدا في نفسك أيها العادي كمسحوق غسيل: ماذا ترى؟ أستاذ تاريخ قديم يعطي محاضرة يهرب منها نصف الطلبة. مجموعة أوراق دائما منذ عشرين عاما تكررها.. (اللولوبيون)(1).. ولم تكن (زارالولو)(2) مهمة حتى ورد إليها (أنسي)(3) كان الطلبة يسخرون منك طوال الوقت. وخرج من المنزل بصعوبة. لم يقفل الباب كما اعتاد منذ ثلاثين عاما. لم يساوره قلق ما بشان عطل السيارة الروسية القديمة الجاثمة منذ أشهر قرب السياج الخارجي للمنزل كلما خرج من الباب. كانت تبدو بذلك الصفيح المبقع بخرائط الصدأ مثل كائن لا معنى له. بصق على الأرض من جديد، وواصل فتح باب الحديقة القديم. للدقة هو لم يفطر في ذلك اليوم. ربما يفعلها لأول مرة, فمحاضرة أمدها ثلاث ساعات في التاريخ القديم عن المعابد والزقورات والأهرام والمدافن تحتاج إلى فطور دائم. حاول أن يقضم قطعة من الصمون متيبسة في جيب بنطاله الخلفي لكنه لم يستطع.. ولأول مرة شعر بأنه في حالة تحول حقيقي. فصوت باب الحديقة أحدث زعيقا متواصلا يشبه العواء القديم لحيوان منقرض. طالما كره ذلك الباب لأنه يذكره بأبواب القلاع والسجون والكنائس الصغيرة. آخر مرة ذهب فيها إلى الكنيسة كان منذ عقود طويلة. لا ذنوب لديه ليعترف بها. ولم يعد الخلاص فكرة ضاغطة. وجد الباب مغلقا فطرقه بقوة مرات عديدة حتى جاءه الصوت من الداخل:

- من؟

- أنا أنا!

- .......

- أنا أنا!

- ماذا تريد؟؟

- هلا فتحت الباب أيها الأب؟

- أنت أخيرا.. أيها المشلوح(4)؟

- هل أنا مشلوح حقا؟!

- أرحل لم تعد مسجلا لدينا!

- .........!

- يرعاك روح القدس.

- هل أنا مارق؟

- المسيح يأخذ بخاطرك!

لكنه لم يعد يسمع صوته بعد ذلك كان بابا أبيض خارجيا كبيرا من حديد وثمة صليبين أسودين رسما على ظلفتيه: أين صورة المصلوب؟ كان الطريق إلى الجسر محفوفا بالمخاطر. وسار بقوة لم يعهدها من قبل، واكتشف بان الهاوية قريبة لأول مرة. طوال السنوات الماضيات كان مخدرا بلا نتيجة. لم يهتم أبدا لها. حسنا إنها اللعبة البارعة للمواجهة الأخيرة وهي تظهر أنيابها الريحية متأخرة. مرحى لجميع اللعب المفاجئة وغير المحسوبة. كان جسرا كبيرا حقا بلون اخضر. وشكر الله لأن الألوان لما تزل موجودة. فسار على طول طريق تزاحمه سيارات الأجرة والحافلات الكبيرة والدراجات النارية وأصوات الباعة المتجولين وطقطقات العربات. بطاطا طماطم خيار، أشترِ يا ولد. وهاهو العالم من جديد, هاهو يوم آخر. وجد صعوبة في صعود الجسر. لهث. كيف يمكن له أن يبقى موجودا وسط هذا الحشد الصباحي الأخاذ طوال هذا الصعود. لم يجد ثمة غربة بعد أن لاحظ الآلاف مثله. خذني خذني! لم أعد احتمل! وكان عليه أن يسير إلى مسافة ربع ساعة وصولا إلى نهاية الجسر.. الآن هو يسير بلا وقت. شكرا لله.

بغتة، وجدت نفسي مباشرة أمام جسر كبير أخضر آخر جديدا مرتبطا بالجسر الأول ومصبوغا حديثا ويرتفع عاليا.هل طوروا جسر الجمهورية وأنا لا أعلم؟ وجدت صعوبة بالغة في ارتقائه، وفي تفسير قيامي بتلك السرعة الفائقة؛ إذ لم يكن له أي وجود حتى عصر البارحة. لا يمكن أن يكون جسر الجمهورية؟ ربما، لم يكن جسرا؛ للجسور شكل وثوابت وركائز؛ لكن هذا يتكون من أعمدة خشبية أو حديدية, غير واضح، وأسلاك ضخمة. هذه الأسلاك لم تكن موجودة من قبل. كما هي صورة جسر لندن المرسوم على شفرات الحلاقة تماما؛ حيث تخرجت قبل أربعين عاما؛ هي موصلات صنعها البشر لنقل الناس وأشيائهم من مكان لآخر. لكنها الآن لم تعد كذلك. لكنها الآن لم تعد كذلك.لا لا هي كذلك كلّ ما في الأمر هو أنك لم تعد تميز الأشياء جيدا. أنت ميت. ماذا؟ ميييييت!أنت لماذا لا تتركني وشأني؟ من سلطك علي؟   

وهذه وظيفتها منذ أن خرجنا من الكهوف السود. جسور للتواصل. ربما كان علينا أن نبقى مدة أطول في هذه الكهوف لتلمس طريقنا جيدا. حسنا لقد بالغنا بالخروج مبكرين. فالجسور وليدة جذوع الأشجار على الأنهار والقناطر، عباله ديلقي محاضرة هههههه، تعلمنا ذلك منذ وقت طويل في دروس التاريخ القديم. لا يعلم التاريخ القديم الكثير من الأمور، لكنه من حيث التقريب في الرؤية بيننا، ولكي لا يضيع الخيط الحريري علينا هو: جسر.. اجل جسر.. ويمكن لأي مخلوق أو غير مخلوق استعماله في هذه الساعة. غير المخلوقين أكثر دهشة لأنهم لما يتعلموا شيئا بعد مما تعلمنا بصعوبات بالغة، ولذلك فقد أتعبونا بأسئلتهم. يمكنني أن اكتشفهم بسهولة لكثرة أسئلتهم. هاهم بتلك الرؤوس البيض المنتفخة والذيول السود المتحركة. لعب أخر.

هل الجسر ما زال بعيدا؟ وما هذا الذي نرتقي؟ شارع الجسر. والجسر؟؟ بعيدا بعيدا. هل ما زال بعيدا جدا؟ هييييييوين وين وين توقف!

               

(1) أقوام همجية جبلية هاجمت العراق في العصر السومري.

(2(2) زارالولو: مملكة سلام سومرية تقع في بغداد الجديدة الآن.

(3) أنسي: الحاكم في اللغة السومرية.

(4) المشلوح: المطرود، لغة كنسية.