مرفق طيه رسالتها
عصام أبو فرحه
الصديق العزيز محمود حفظه الله ورعاه ,
بعد التحية ,
اعتدت أن أكتب لك يا صديقي في بداية كل شهر , وربما ستحس بوقوع أمر جلل حين تلاحظ تاريخ رسالتي , فتاريخها ليس كما اعتدت أن تراه , ليس الأول من الشهر , نعم فإن الأمر جلل , ربما ستراه أمراً عادياً , لا أدري , ولكن دون تفكير وجدتني أحمل ورقتي وقلمي وأكتب إليك ,
وجدت رسالتها يا محمود , نعم , أقول لك وجدت الرسالة , وجدتها بعد خمس عشرة سنة من البحث واللوعة والحنين والأشواق واليأس والأمل , وجدتها في كتاب قديم في مكتبة والدي في غرفة الجلوس , ألا تذكر يا محمود ؟؟ قلت لك حينها , بينما كنت أحمل الرسالة وأهم بفتحها سمعت وقع خطوات والدي يقترب مني , أحسست برعشة وبجفاف حلق ودوار , فأنت تعرف والدي جيداً وتعرف كم كان شديداً وعصبي المزاج , لو رآني حينها أحمل رسالة من فتاة لما كان أبقاني على قيد الحياة , أذكر يومها أني قمت بإخفاء الرسالة بحركة سحرية خاطفة , ولا أذكر غير ذلك , فلقد أنساني الموقف ورهبته كل ما حدث , وضاعت الرسالة ,
أكتب لك يا محمود وأحدثك عن الرسالة وضياعها وكأنك تهتم بأمرها مثلي , فقد نسيت أن غربتك وعملك وزواجك وأسرتك كلها أمور ربما أخذتك منا أو ربما شغلتك عنا , فما عدت تذكر ماضينا , فلعلك تقول ما به صديقي عمر ؟؟ وعن أية رسالة يتحدث ؟؟ ولعلك تقول بسرك والله لقد جن عمر , لا ألومك يا صاحبي , فقل ما تريد , فأنا من بدأ الحديث بشكل غير مفهوم , فقد اعتقدت أنك تذكر موضوع الرسالة مثلي تماماً , قد فاتني يا صاحبي أن الزمان ينسي ,
على أي حال , سأحدثك عن موضوع الرسالة لعلك نسيتها , ألا تذكر يا محمود شجرة الجوز في ساحة بيتنا الخلفية ؟ لا أظنك تنساها , ولا أظنك قد نسيت المقعد الخشبي الذي كنا نجلس عليه في ظلال تلك الشجرة , هل تذكر شرفة المنزل التي كانت تطل على مقعدنا ؟؟ أظنك الآن ابتسمت وقلت : كم أنت مجنون وواهم يا عمر , ذات العبارة التي كنت أسمعها منك كلما حدثتك عن مريم , آه ثم آه ما أجمل هذا الاسم , مريم ,
ما بك يا محمود ؟؟ ما بك تجهمت وكأنك لا تذكر مريم ؟؟
مريم يا محمود , ربما نسيتها ؟ لا غرابة أن كنت قد نسيتها , فما كانت تعني لك شيئاً , أما أنا فكيف لي أن أنسى ؟؟ كم كنت أنتظر قدوم الصيف لتأتي , فقد كان أهلها مغتربين في إحدى الدول العربية , يأتون في كل صيف لقضاء الإجازة في بيتهم الواقع خلف بيتنا , كانت مريم جميلة كالقمر , رقيقة كنسمة الصبح , كنت أرى في عينيها كل أنوثة الكون , أحسست بحبها مع بداية إدراكي وإحساسي بوجودي , منذ أن أدركت أن هنالك ولد وهنالك بنت , ومنذ أن عرفت فصول السنة , عرفت أني أحب الصيف وأحب مريم ,
كبرنا وكبرت مريم وكبر حبي لها , حتى امتلأ الفؤاد بحبها , وما عادت العين تبصر غيرها , وما عاد الخريف ولا الشتاء ولا الربيع إلا فصول انتظار وترقب واشتياق , أتذكر كيف كنت أتلبك عندما كانت تطل من الشرفة ؟ كنت أريدك أن تغادر فلا أقوى على الكلام , فأمد يدي وأبدأ بلسعك في ظهرك , أحياناً كنت تستجيب لرغبتي وتغادر أو تبعد قليلا ً , وأحياناً كنت ترفض وتقول لي : كم أنت مجنون وواهم يا عمر , لم تكن تصدقني حينما كنت أقول لك أنها تحبني , نعم كانت تقف على شرفة منزلها كلما رأتني أجلس هناك , من يحب يفهم لغة الحب يا محمود , ألا تذكر خجلها وحمرة وجنتيها حينما التقيناها في عرس أختك ؟؟ , وهل تذكر كيف نطقت اسمي حين سألتها أمك إن كانت تعرفنا ؟؟ أذكر صوتها وكأنني أسمعه الآن , يومها نظرت إلى الأرض وقالت لوالدتك بخجل : نعم أعرفهم , هذا ابنك محمود , ونظرت إلي بطرف عينها وازدادت حمرة وجنتيها وقالت بصوت بالكاد يسمع : وهذا جارنا عمر , قرأت الحب في صوتها كما كنت قد قرأته في نظراتها , في ذلك اليوم أيضاً يا صاحبي قمت بتسخيف شعوري , حيث قلت لي : كم أنت مجنون وواهم يا عمر ,
ظل الأمر هكذا إلا أن جاء ذلك الصيف الأسود , كنا في ذلك العام سنتقدم لامتحان الثانوية , جاءت مريم مع أهلها كالعادة في إجازة الصيف , وجلسنا تحت شجرة الجوز , وسعدت بلقاء مريم من بعيد من خلال النظرات والأحاسيس , لكن الخبر الذي تناهى ألى مسامعي قطع كل حلاوة اللقاءات , كان مفاد الخبر أن مريم وعائلتها سيهاجرون إلى بلاد بعيدة دون عودة , أحسست حينها بصدق الخبر من خلال نظرات مريم , كنت أقول لك انظر للحزن في عينيها واعرف مقدار حبها لي وأسفها على فراقي , ولم تكن لتكترث بمشاعري أو بمشاعرها , وكنت تردد عبارتك العروفة وتضيف إليها عبارة : يا لك من مراهق , توهم نفسك بأشياء لا وجود لها , وما كنت استطيع أن أرد عليك اتهامك , حتى جاء برهان الحب ورسول الغرام , هل تذكر أم نسيت ؟
نظرت إلي من شرفتها والدموع تسيل من عينيها , والتفتت إلى كل الإتجاهات ثم ألقت إلي برسالة , هرعت والتقطت الرسالة وقلت لك , هل صدقت ؟ هل أنا واهم ؟ لم تجبني حينها وكأن الدليل أسكتك ,
لم أستطع حينها قراءة كل رسالتها , فتحت الرسالة وقرأت السطر الأول منها , وقد ظلت حروف ذلك السطر منقوشة في عقلي وقلبي ووجداني , حيث قالت : ( حبيبي , انتظرني لا محالة سأعود لك في يوم الأيام , انتظرني ) رقصت بي قدماي فما عادت تحملني , ضحكت وبكيت في آن واحد , يأس وأمل اجتمعا والتقيا أمام عيني , وحين أردت إكمال قراءة الرسالة سمعت خطوات والدي كما أخبرتك في بداية الرسالة , فقمت بإخفاء الرسالة , وحين أردت استعادتها نسيت مكانها , فتشت وفتشت دون جدوى , كل ما أعرفه حين أخفيتها أني كنت في حالة هستيرية اختلطت فيها مشاعر مختلفة , فرحي بكلمة حبيبي , وعزمي على الانتظار , وحزني على الفراق , وخوفي من اقتراب والدي , مشاعر اختلطت ودارت بي في أرجاء غرفة الجلوس , عدت في اليوم التالي فلم أجد الرسالة , فتشت عنها وفتشت دون جدوى , خانتني ذاكرتي ولم تسعفني ,
بقيت على العهد , وعشت بانتظار الحلم , أكملت دراستي , ووجدت وظيفة مناسبة , مات الوالد والوالدة وتفرق الأخوة , بقيت وحيداً في البيت القديم انتظر عودتها , لا أنكر أن اليأس كان يتسلل إلى نفسي أحياناً , لكن ذلك السطر وما حوى من كلمات كان يعيد الأمل إلي من جديد , لا محالة ستعود , هي التي قالت ذلك , أيام طولية أمضيتها جالساً على المقعد الخشبي في ظلال شجرة الجوز , أحاكي طيفها الذي يتمثل لي على شرفة بيتها , أعدها بالانتظار وتعدني بالعودة , وكم قلت لنفسي آه لو أكملت قراءة الرسالة , فلربما كتبت بها موعداً لعودتها , أو لربما كان فيها بعض مؤشرات لموعد اللقاء أو مكانه ,
وبعد أن أوقفت البحث عن الرسالة , وبعد خمس عشرة سنة يا محمود , وجدت الرسالة , وجدتها صدفة بين صفحات كتاب قديم في مكتبة والدي , وهاهي بين يدي , قرأتها مرات ومرات , رسالة تحمل أشواقاً وحباً ووفاء انقطع نظيره , لكنها تخلو من موعد محدد لعودة أو لمكان لقاء ,
وقد أرفقتها لك مع رسالتي , هي الصفحة الثانية المرفقة , أرفقتها لك حيث ما عادت تعنيني , فما كنت أنا المقصود , نعم لست أنا المقصود , فقد اختتمت مريم رسالتها بعبارة ( لن أكون لسواك يا محمود ) , سلمت يا صديقي من كل سوء , ومرفق طيه رسالتها .
( انتهت )