حالة نزع
حالة نزع
إبراهيم عاصي *
قلت في نفسي : لابد من زيارته مساءً ، فلقد مضى على آخر زيارة بيننا عدة شهور، وما هكذا تكون الصداقة أو يكون الوفاء !
أقبل المساء وكنت متهيئاً للزيارة . نزلت إلى الشارع ، أومأت إلى أول سيارة أجرة . انطلقت تجوز بي الشوارع وخواطر كثيرة بدأت تترى على بالي .. سرعان ما تلاشت جميعها ، جميع الخواطر والذكريات ، باستثناء ذكرى زيارة سابقة قمت بها لصديق اسمه سامي . استقبلني يومها على الباب بفتور! ثم دلفنا بعد ذلك إلى قاعة الاستقبال الفخمة ، إذ أن سامي ممن أنعم الله عليهم بالنعم الكثيرة : مال ، وجاه ، ودار منيفة ، إلى حظ من العلم ونفوذ كبير .
تبادلنا بعض أحاديث المجاملة ، ثم ساد السكون . لاحظت من أول نظرة أن في وجه صاحبي شيئاً من الوجوم يحاول إخفاءه ، وأن في عينيه تعابير من الأسى العميق ، يسعى جاهداً إلى كبته . أما سمته وأما حركاته ، فكانت كلها تشي بتعب شديد وهم وشرود !.
أحسست بأن دارة صاحبي تغوص كلها في بحر من الصمت ، هو أشبه ما يكون بصمت القبور ! وشعرت كأنني في مأتم عقدت فيه الألسن ، وأطرقت الرؤوس !.
لكنني لم أطق صبراً على السكوت ، فانطلقت أسأل ـ ويا ليتني لم أفعل ـ :
ما لك يا سامي ؟ ماذا دهاك ؟ أجبني أرجوك ، فأنت لست كما عهدتك !..
وبعد كثير من الانتظار، وكثير من التلجلج والتردد ، أخذ يحرك لسانه بتثاقل ليقول : لغيرك لا أتحدث ، ولسواك لا أبيح . ولكنك عزيز علي ، قريب من قلبي يا رضوان .. لقد كنا في سفر طويل ـ أنا وزوجتي ـ وها قد رجعنا منه قبل ساعات .. كانت سفرتنا هذه آخر محاولة نقوم بها من أجل غرضنا .. جلنا عدداً وافراً من عواصم البلدان ، وكان آخر مطافنا بيروت . جميع الأطباء ، وجميع التحاليل قالت لنا أخيراً ، وبكل قسوة : لا أمل .. لا فائدة .. واغرورقت عينا صاحبي بالدموع ، ثم أردف : قلت لهم ، توسلت إليهم : خذوا مالي ، خذوا كل ما أملك ، خذوا من عمري ، وأعطوني طفلاً واحداً فقط ، نبدد به وحشة قبرنا الذي نسكن ، نلأم به جرح سعادتنا الذي ينزف ، نجد فيه استمراراً لحياتنا التي تتصرم خذوا ذلك كله وأعطونا طفلاً ، بنتاً .. مولوداً واحداً فقط !.. وأصروا على جوابهم : لا فائدة .. لا أمل . لقد سبقت كلمة القدر..
عقدت المفاجأة لساني ، فغام على عيني ، وظللت هكذا دقائق ـ حسبتها دهراً ـ لا أحير نطقاً ، ثم نهضت مستأذناً ، فما عاد بمقدوري أن أتابع الزيارة ، لا سيما وأنني كنت أسمع بأذني نشيج زوجته ونحيبها في الغرفة المجاورة .
وكان كل ما أسعفني به لساني ، وأنا أشد على يده مودعاً ، أن قلت له :
نعم لقد سبقت كلمة الله يا سامي على ما يبدو ، ولكن لا تيأس من رحمة الله !..
السيارة وقفت بي حيث كنت طلبت من سائقها أن يقف . كنت هذه المرة أقصد صديقي محموداً ، أبا نادر. حسبت لأول وهلة أن صاحبي ليس في بيته ، فقد فتح لي الباب واستقبلني ابنه نادر. قلت له : أين أبوك يا نادر؟ فقال : هو نائم في الغرفة المجاورة يا عم . فقلت : إذا لم يكن مريضاً أو متعباً فأيقظه ، وإلا فاستأذن لي عليه . فقال : بل أستأذن لك عليه ، وعندها أيقنت بمرض صاحبي ، وزاد في يقيني أنني أحسست بحركة غير عادية ، تتوالى بين غرف البيت وردهاته . أخذت أردد فغي خاطري : لا حول ولا قوة إلا بالله .. هل تراه مصاباً بمرض خطير ؟ ما هذا الطالع السيئ الذي تلبسني هذا المساء ؟! بل ما هذا التقصير الشديد بحق أصحابي ، يمرض أحدهم مرضاً شديداً ، ولا ادري به إلا متأخراً أو بالمصادفة ؟! تباً للمدن الكبيرة ، وأف من سكانها ، وتباً لمشاغل الحياة ، ما أكثرها !.
دخلت على صاحبي ، فلم يكن نائماً ، وإنما كان له وجه عابس مصفر، ورأس مطرق مكدود ، ونفس حاد نزق يتردد في صدره ، وأعصاب مرهقة مهتزة !.
انفجرت حالاً ، ودون ريث : ماذا ؟ ماذا بك ، أسرع ، أجبني أكاد أصعق يا أبا نادر !.
رنا إلي أبو نادر بهدوء مصطنع ، وهو يغالب كلاماً كثيراً يحاول أن ينطلق من حنجرته ، لكنه لم يزد على أن قال لي :
" أم نادر.. توشك أن تموت .. إنها الآن في حالة نزع .. حبذا لو يأخذون مالي ، مالي كله ، وجميع ما أملك ، أو يأخذون من عمري ويرونها علي ، وعلى أولادي .. لكنهم يئسوا من تطبيبها ، نعم يئسوا .. إنها غلطتي ، وغلطتها على كل حال .. إننا كلينا سعينا إلى الطبيب ، وألححنا على تجريف الرحم ، أصررنا على (الكورتاج) ، رفضنا مولوداً سابعاً كان في طريقه إلى الحياة . فكان انثقاب الرحم ، وكان النزيف الشديد .. وكان ما تراه منا الآن !.
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979