البطل الأول

البطل الأول

سامي العباس

أخيراً حططت الرحال في حي شعبي!!...الأزقة أنفاق من الطين اللزج.. في بعض الأحيان يفلح في تشليح المارة أحذيتهم... ولحظتها يتصاعد السباب على بلدية دمشق.. وعلى الحظ العاثر.. وعلى الحياة برمتها.. المهم ليست هنا المشكلة..أنا بحاجة إلى امرأة.. هذا الإحساس تترجمه كل خلية من خلاياي إلى جوع شرس...أمشي في الأزقة.. آكل الركب والمؤخرات والصدور العابرة.. بعيني!!..

من قهري أعرِّج إلى أول مطعم حمص لأحشي معدتي المحشوة سابقاً.. لماذا..؟!.. طيب سأقول لكم السبب، واعذروني إن تفلسفت قليلاً: في بعض الأحيان تجتاحني رغبة لفعل شيء ما!!. ضبابي.. لا أميز كنهه جيداً.. غير أن شعوراً بالإحباط تجاه الجنس الآخر يلازمني.. وعندها.. يكون المتنفس الوحيد هو باب أول مطعم حمص!!..

*   *   *

أسأل نفسي لماذا أنا تعيس دائماً؟!وأبحث وأنقب في الجذور السطحية والعميقة محاولاً الكشف عن آفة شقائي الدائم.. وعبثاً تذهب جهودي.. فالتعاسة هي في حاضري.. في نفس اللحظة التي تعبرني متجهة نحو ما يسمى بالماضي.. هذه اللحظة المتخمة بلا شيء.. والمجردة من أي نكهة..

ترى هل المرأة هي السبب؟!في بعض الأحيان.. وعندما أكون وحيداً.. وما أكثر ما أكون !!.. أتمثل نفسي مع امرأة.. امرأة غير مكتملة المعالم لكنها امرأة على أي حال...أحسها قربي.. أشعر بالدفء المنبعث من أكثر من مصدر حراري تملكه.

الدفء المنبعث من عينيها وهما تحدثاني حديث الأهداب في ارتعاشتها الخفيفة!!..

الدفء المنبعث من أنفاسها.. والدفء المتساقط كالغمام الربيعي والذي لا أدري مصدره ولكنني أدرك أن تواجدها قربي هو سبب هطوله

*   *   *

تعتورني الآن رغبة حادة وغامضة.. أحسها تغوص في قلبي سكيناً مرهف النصل.. غير أن قوة غامضة تحبط أي محاولة جادة لاتخاذ قرار بمغادرة مكاني قرب المدفأة!!..ترى ما كنه هذه القوة؟!..

*   *   *

في هذه اللحظة أشعر بأن قوة خارقة تفتح عيني على مصراعيهما لتريني كم هي الحياة سخيفة ومبتذلة!!..الحب لدي.. مشاعر غريبة لم أجربها قط!!.. لماذا؟!..لأن مارداً يقبع في رأسي، ويفرض علي انتقائية حادة... "الغباء يهيمن على كل من حولك" هكذا يقول القابع في رأسي وهو يغذيني دوماً بأمل العثور على من لديها القدرة على استقبال جسوري التي لم أجسر حتى الآن على مدها إلى الضفة الأخرى.. في هذه اللحظة:

أحس فوراناً داخلياً يجعلني أتمزق بين رغباتي الجسدية الطامحة إلى مد الجسور مهما كانت حالة الضفة الأخرى.. وبين ذاك المارد الذي يدفعني إلى التريث...البارحة لفتت نظري وأنا أقرأ كتاباً لكولن ولسون هذه العبارة: "إن الرجل الذي يرقب المرأة وهي تتعرى، له ما للقرد من عين حمراء!!.. إلا أن الرجل الذي يرى عاشقين شابين يجلسان معاً لأول مرة، ويشير إليهما بالعطف والشعور الرقيق، ليس حيواناً بل هو إنساني جداً.. على أن القرد والإنسان يستقران في جسد واحد فإذا ما تحققت رغبات القرد اختفى ليحل محله الإنسان الذي يشمئز لرغبات القرد"...

في الأماسي التي أنزل فيها إلى دمشق.. أسير في الشوارع تأكلني الرغبة.. أرقب فساتين الفتيات والريح تعبث بها.. فيجن جنون القرد الثاوي في أعماقي...ترى هل سأعثر على من ستشبع لدي القرد والإنسان معاً؟؟..

*   *   *

البارحة: عدت الساعة الحادية عشر ليلاً..كان الليل يتدفق من النوافذ المطفأة..

"الجيران نيام".. قررت في ذهني وحاولت ألا أصدر أي صوت قد يتواقح حذائي وينفثه في باحة الدار الصامتة...رفعت رأسي إلى السماء المجلببة بسحب داكنة.. كان شريط من النور رفيع مستلق على طرف الجدار.."ما زالت مستيقظة"..وشعرت بقشعريرة لذيذة تداعب جلدي ودلفت إلى غرفتي.. كان الدفء يعشعش في هوائها نصف الفاسد..

أطفأت النور فبرزت الصور المبعثرة على الجدران..خلعت ملابسي وأنا أنصت إلى حركة خافتة تأتيني من السقف "لا ريب أنها مقصودة"...

أجهد في إقناع نفسي.. فتحت التلفزيون.. بعد قليل.. تصدرت الشاشة ثلة من المطربين العرب يتوسطها المخرج نبيل المالح... بعينيه الصغيرتين كعيني فأر وصوته الإسفنجي المبلل لكأنه يتكلم بحضور صحن من الحلوى...

*   *   *

هذا الصباح قالت لي وأنا أهم بمغادرة المطبخ:- انتظر  دقائق من أجل...

ولم أدعها تكمل:- أنا لا أشرب الحليب بتاتاً.. شكراً لعزومتك..

وضحكت أسنانها المرصوفة بانتظام بديع، ثم أنها أكملت بصوت ما زالت  فيه بحة الصباح :غير معقول!!.. صحيح لا تشرب حليب؟!..

وأومأت مؤكداً.. ولسبب ما حدقت في ثدييها المندلقين بشكل شهي فوق بطنها المنفوخ قليلاً.. وبلعت لعابي..ضحكت أسنانها المرصوفة بانتظام بديع للمرة الثانية:-

تبلع ريقك لرؤية الحليب.. معنى ذلك أنك تشتهيه..

وابتسمت بارتباك.. وبارتباك تابعت مسارقة النظر:- أبلع ريقي لا من أجل الحليب بل من أجل شيء آخر!!..

وكأنها اقتنصت نظراتي غير المهذبة.. فانداحت في بؤبؤيها غيوم ربيعية شاردة..

وبلعت لعابي للمرة الثانية.. وقلت في سري:- طاب الموت...

*   *   *

كانت الجلسة صامتة.. وكنت مضطرباً.. وكانت تنظر إلى التلفزيون تارة..

وتخطف بؤبؤيها باتجاهي تارة...وكنت أكتفي بالابتسامة حيناً وبالنظرة الساهمة حيناً آخر.. وكان قلبي ينتفض بلا انتظام..."امسك البطل بكف البطلة.. أسبلت جفنيها..

أقترب رأساهما.. اختلطت أنفاسهما.. همس : أحبك... ظلت صامتة.. كانت سعيدة..

سعيدة إلى حد بعيد.."وانزلقت عيوننا عن الشاشة.. التقت عيوننا.. ابتسمتُ.. ابتسمتْ.. أسبلت جفنيها.. تمنيت لو أنها  قربي.. لو  تلاصق رأسانا.. لو اختلطت أنفاسنا.. لو.. لو.. لكن عيني أخيها الشبيهتين بعيني قط كانتا تفترسانا!!.. لقد كنا فأرين رومنتيكيين تعيسين!!...

*   *   *

الأسى ينبت في صدري.. يغرس أشواكه الحادة في جدراني الداخلية كعوسج.. أسأل نفسي: لم كل هذي الكآبة؟!..ويرسب السؤال في حلقي حموضة ثخينة.. لابد أن معدتي لم تعد قادرة على التلاؤم مع حالتي العاطفية..البارحة.. كانت نفسي كهفاً كلسياً تنقط نوازله فرحاً.. واليوم.. يعشعش الحزن، وينسج شباكه في زوايا قلبي كعنكبوت نشيط ترى.. وجودي بعيداً عنها هو الدافع فقط؟!..لا أظن أن هذا كاف لتراكم كل هذا الحزن..

*   *   *

مضى حتى الآن شهران على بدء تعارفنا.. مرت مناسبات كثيرة.. كان باستطاعة أي شاب يحمل قليلاً من الجرأة أن يخطو الخطوة الأولى.. لكني أنا المتخم بأفكار  من الوزن الثقيل، عن مجتمع يصبح الحب فيه حاجة مقضية كالهواء والماء ,أعجز عن تأمين شيء منه لنفسي ..إن ثورتي على التقاليد لااكثر من" غضب الخيل في اللجم"..

اللجم  التي روضتني بها    العائلة ببراعة طبلة ربع القرن المنصرم من حياتي..ففي تماساتي التي لابد أن تحدث مع الجنس الآخر، أشعر كلما حاولت التقرب بأن العائلة قد سكبت فيّ  صبة من الإسمنت المسلح كافية لمسمرتي عند نقطة البدء كائنا متبلداً يرشح بالإحباط..لقد اشبعتني التربية الدينية تهذيباً..

فتحولت إلى قسيمة نصائح أخلاقية تمشي على قدمين..والدي: أنا أعلم أنك أفقر من أن تورثني شيئاً ذا فائدة.. واعلم أنك لا تحمل من متاع الدنيا سوى هذا الجنزير الطويل من الأوامر والنواهي..أمي: أنا أعلم أنك حملت جنزيرك الثقيل بما يشبه الاستسلام اللذيذ لإرادة إلهية سامية.. وأعلم أنك تودين من كل قلبك أن أرث هذا الشعور بالاستسلام اللذيذ للإرادة الإلهية السامية...ولكن يا أبي ويا أمي العزيزان:أتدركان ما فعلتما بي؟؟..لقد حولتماني إلى  ...

*   *   *

نصف مستلق على طرف السرير... قلبي حبة حنطة مذعورة ترتعش عند فوهة سطل المطحنة... منذ قليل  رجعت  من الدوام.. تعمدتُ أن أحدث كثيراً من الضجيج.. لا بد أنها قد أحست بمجيئي... أسمع وقع خطواتها على الدرج.. إنها تقصد النزول..

دخلت المطبخ.. فتحت صنبور المياه.. الماء يطش منتظماً.. إنها لا تستعمله.. ومع ذلك.. أبقى نصف جالس.. بين يدي عدد من الملحق الأدبي لجريدة الثورة.. عيناي على صورة محمود عبد الواحد.. ملامحه تفقد طعمها في محجري الجامدين.. السطور أثلام سود.. أذناي مستنفرتان لالتقاط أضأل الأصوات.. مذيعة تلفزيون تثرثر.. طفل يضحك برنين حاد.. صوت الباب يغلق.. الصمت يعود إلى الهيمنة .. تنفست الصعداء.. عدت إلى القراءة.. محمود عبد الواحد يقول في معرض رده على أحد الأسئلة:"ما دامت القصة لا تحتاج إلى أكثر من قلم وورقة ورأساً مليئاً بالأفكار، لذا اخترت القصة.. فهي على الأقل وسيلة أخرى لامتلاك العالم من قبل المفلسين أمثالي" أرمي الملحق على الطاولة.. يتصاعد من داخلي إحساس بالغثيان.. لا أريد القراءة.. لا أريد الدفء.. المدفأة في الزاوية ترسل أنيناً أجشاً.. أنهض بتثاقل.. أحرك مفتاح الوقود.. يعلو الأنين الأجش تتوهج النافذة الدائرية الواسعة ..يبرز عمود ثخين من اللهب البرتقالي.. في الماضي كنت أحب منظر النار من وراء الزجاج..الآن أشعر بحاجة ماسة إلى شيء غامض..أريد أن أضرب إنساناً وحشية..صوت فتح الباب يأتيني من الخارج.. لحظة.. ويأتيني ضوء شاحب... تبرز من وراء زجاج النافذة أوراق عريشة العنب والخط المنكسر بانتظام لطرف الدرج.. يتصاعد وقع أقدامها.. يتصاعد إحساسي بحركة الزمن... يتسرب فتور شديد إلى جذعي الأعلى.. أنهض بتثاقل.. جفاف مفاجئ يندلع في حلقي.. أمسك بكأس الماء الفارغة.. أفتح الباب.. أتجه إلى المطبخ.. المطبخ مضاء أقترب.. النور يطفئ!!.كانت هي بجسدها الفتي تسد الباب نصف المعتم..

بدت رائعة والضوء الشاحب ينسكب على وجهها الدائروي ويرسم مساحات متفاوتة الإضاءة على صدرها المشرئب التضاريس..- مساء الخير..جافة خرجت.. كان بلعومي يحترق.. أريد شيئاً شديد الحموضة..

- أهلاً...همست ببحة... وابتسمت.. ولم تحاول إعادة الإضاءة..

- أشعلي النور..

قلت بحماقتي المعهودة وأنا أخاوص برأسي كحمار يحاول النفاذ من مكان ضيق...

كان قلبي حبة حنطة مذعورة.. ترتعش عند فوهة سطل المطحنة...مدت يدها إلى مفتاح النور..- طق..ظهرت من ورائها مجموعة من الأواني النحاسية..

وبرز البوتوغاز برؤوسه الثلاثة المسودة..تحركتُ منكمشاً قدر المستطاع.. عبرت بالقرب من أنفاسها.. كانت دافئة إلى درجة أشعرتني بدوخة لطيفة مبتسره.. تماسكت كقطعة من الجليد.. اتجهت إلى صنبور الماء.. فتحته.. طش الماء.. وكان صوته وحيداً في الصمت المهيمن..

- كيف الصحة؟..

وظل الصنبور يطش وحيداً.. أدرت رأسي للوراء.. كان الباب خال.. بلعت ريقي بحنق.. أسقطت الكأس في الحوض.. جاءني صوت تهشمه مبحوحاً بسبب تراكم الماء.. رجعت إلى غرفتي.. كانت أصابع دبقة تسد حلقي من الداخل.. ألقيت نفسي على السرير..

سحبت نفساً طويلاً.. ثم زفرت بقسوة..أريد إنساناً لأهشم وجهه بقبضتي..تفو...كم أنا جبان حيال النساء؟!.. فكرت..وبلحظة، تدفق إحساس عارم بالإحباط.. وكتربة غضارية هشة انتبجت خلاياي به.. وكقطعة طين مشربة بالماء البارد، استلقيت على الفراش.. الصقيع يملأ رأسي بدوي عاصفة ثلجية..

- طق..

صوت باب يفتح.. صوت خطواتها على إسمنت الباحة.. وجهها الدائروي يطل من وراء زجاج النافذة.. أومأت برأسي بحركة ميتة.. دار مقبض الباب ربع دورة..

ابتسمت بسذاجة.. ثم مدت كفها بقلم حبر كانت قد استعارته.. وللحظة ظللت صامتاً.. وظلت حائرة.. أومأت إلى الطاولة.. عبرت العتبة ووضعته على طرف التلفزيون.. تريثتْ قليلاً..

- اجلسي..قلت بلهجة ناشفة.. وكان وجهي قطعة من اللحم المقدد..

- عندي شغل..وابتسمتْ بوهن..

- من عندكم؟..

- لا أحد.. أبي وأمي.. تعال نسهر..

- "أنا أريد أن أسهر مع أبيك وأمك"تهكمت في سري.. كان صمت حرج يهيمن.. كررت ثانية:

- اجلسي.. وأومأت إلى كرسي..

- عندي شغل..

ورمقتني بنظرة جانبية ثم انسحبتْ.. وبقيت ممدداً على الفراش قطعة طينية باردة رطبة.. ومن جديد دوت في رأسي عاصفة ثلجية.

" كم أنا جبان حيال النساء!!..كان يجب أن أنهض.. أمسك بكفها.. أضغط برفق.. أبتسم بوهن.. أهمس ببحة..

سوسن أريد أن أصارحك بشيء.. لا.. لا.. لا.. ليس هكذا..كان يجب أن أنهض.. أقفز إليها.. أمسك بجذعها الأعلى أقبلها في فمها بحركة سريعة.. ستستسلم.. وبلعت لعابي..تف...كم أنا جبان حيال النساء؟!..وأمضي في تقريع نفسي.. وفي التهويم.. والزمن يكر.. وقلبي حبة حنطة مذعورة ترتعش عند فوهة سطل المطحنة...

*   *   *

- سوسن.. تعالي..

كان همسه في غاية الاضطراب.. وكان الليل المهيمن على باحة الدار يضفي على ملامحها غموضاً لذيذاً..- تعالي..وأومأ بذراعه المشدودة من الانفعال واقتربت بتؤدة.. اقتربت من باب غرفته..

وقسر نفسه على الابتسام.. أحس بإنهاك مفاجئ..

- ما بكَ؟..همستْ..- ادخلي.. سأقول لك شيئاً..وظلت صامتة.. فمد يده وأمسك بمرفقها.. سحبها إلى الداخل.. كانت مقاومتها واهنة.. وقفا متقابلين.. غرست فيه عينين متسائلتين.. واتكأ على الجدار.. كان خور لطيف يتسرب إلى عموده الفقري..

وكان قلبه يؤلمه على نحو لذيذ..

- سوسن.. أنا أحبك..أخيراً نطق.. والتمعت عيناها ببريق غامض..

- ما رأيك؟؟.. تابع..وتورد وجهها الدائروي المشرب بحمرة قمحية..

- هه؟.. ما رأيك؟..كرر ثانية.. وكانت كفه في تلك اللحظة تحاول احتضان كفها المتملصة بدلال.. وأخيراً رقدت في يده ككتكوت مرتعد.

- لا أعرف..جاء صوتها متهدجاً بعض الشيء..

- تعالي نجلس قليلاً..

- الأفضل أن نذهب إلى غرفتي.. لميس تنتظرنا..

- لا.. لا.. هنا أحسن..

وجذبها ثانية.. ودار حول الطاولة.. جلست على كرسي الجلد.. فتلت رأسها باتجاه الجدار.. حاولت أن تقرأ بعض العبارات المتناثرة.. حاول أن يسترق قبلة..

تملصت بلطف ورمقته بنظرة تحذير "ثم نهضت"

- تعالي نجلس على السرير..

قادها كنعجة وديعة.. جلسا متلاصقين على الحافة.. ظلت أصابعها في يده.. كانت باردة قليلاً.. ورفعها إلى شفتيه.. لثمها عدة مرات.. ثم راح ينفخ عليها أنفاساً دافئة.. ضحكت ضحكة خافتة.. حاولت أن تسحب أصابعها.. تشبث بها..

- أرجوك.. اتركي يدك في يدي.. أنا سعيد بها..

ضحك لخاطرة ألمت بذهنه.. ثم شرح لعينيها المتسائلتين:تذكرت مسيو ريزلر بطل بلزاك في قصته عودة الزوج.. كان يمسك مثلي بأصابع حبيبته.. وكان سعيداً جداً..

ولم يكن يتقن فن المغازلة كان يكتفي كل هنيهة بترداد هذه العبارة:"أنا سعيد.. أنا سعيد"..

وضحكت سوسن.. وكانت ضحكتها دافئة وناعمة كفراء ثعلب..- ولكن أنت أحمد على ما أظن ولست سعيد..قالت مصطنعة الجد.. وضحكا معاً.. حاول أن يقترب بشفتيه من عنقها.. ابتعدت.. أسند رأسه على صدرها.. لمح من فتحة ثوبها الاستدارة اللطيفة لنهديها الغاطسين في الفتحة.. همس:- ثدياك مشرئبان كقبتي زين العابدين..

أنهضت رأسه الملقى على صدرها نظرت في عينيه..- يا لطيف ما أكفرك!!..

وضحكت.. وضحك.. ثم أعاد رأسه إلى صدرها.. كان ليناً كقالب كاتو.. وكان دافئاً كإبط دجاجة..

*   *   *

يا غاليتي:

أجلس وحدي.. في مكتبي المتجهم.. قلبي هناك.. في غرفتي الكئيبة أبداً.. تركته على الطاولة.. البارحة أوصيتك به.. ضحكت.. وكانت ضحكتك مطرقة من المطاط المضغوط انهالت على رأسي..حبيبتي:يؤلمني أنك لا تفهمي طريقتي في التعبير عن حبي.. يؤلمني أن لا أجد من جانبك إلا الحب المقنن.. لكأنما كلينا مقبلان على مجاعة عاطفية.. لقد كتبت على جدار غرفتي وبالمانشيت العريض: أريد حباً شديد اللهجة وهاأنا أكتب لك ثانية:

أريد أن يكون حبك نهراً جبلياً صخاباً.. لا أريده جدولاً يسقسقل واهناً..

ورغم ذلك تظلين كموظفة جمعية استهلاكية.. تتعاملين بالربع أوقية، وتغضبين مني إن ألححت عليك لتطبيش الميزان قليلاً لصالحي.. ما ذنب قلبي حتى أتركه كل يوم على الطاولة في غرفتي الباردة.. متأملاً أن ترِّقي قليلاً فتنزلي وتخبئيه تحت قميصك الداخلي.. بين ثدييك الدافئين.. ولكنك لا ترقي.. وتبقين في غرفتك العليا..

ويبقى قلبي في الغرفة السفلى، يرتعد من الحب ومن البرد معاً‍!!..أطلب منك عند الصباح عند مغادرتي البيت.. أن تنزلي لأراك ولو لخمس دقائق.. وتعلمين أني سأبقى يومين كاملين بدون رؤيتك. وتعلمين مقدار ما سأعانيه في كل ثانية ، ومع ذلك ترفضين تسليحي بخمس دقائق من الدفء أحارب بها ثمان وأربعين ساعة طويلة كصبر أيوب من الصقيع..ترى!!.. ألا ترين بأنك أقسى من الآلهة التي حكمت على برومثيوس.. أن يصلب على صخرة.. ويُمنْحَ كل صباح كبداً جديدا ًتنهشه الطير حتى الصباح التالي..إنني لم أسرق ناراً إلهية كما فعل برومثيوس .كل ما أفعله: أنني أحاول سرقة قلبك لأضعه قرب قلبي.. وأستمتع برؤيتهما ينتفضان كعصفورين ذبيحين.. ترى: هل ستفهمينني أخيراً.. أرجو ذلك..

*   *   *

فرغتُ من غسل وجهي.. فرغتُ من ارتداء ملابسي.. فرغتُ من ترتيب السرير جلستُ على حافته.. الصقيع يملأ الغرفة.. عقرب الساعة الجاثمة على التلفزيون يزحف بسرعة نحو السادسة والنصف.. إذناي تزحفان على السقف.. عيناي تزحفان على الدرج.. أسمع صرير سريرك.. أسمع وقع خطواتك.. يقف قلبي.. لا يقف عقرب الساعة.. لا يقف الزمن.. لا تنزلين على الدرج.. يبوخ الأمل..أنهض.. حزيناً أنهض.. أخرج من باب الغرفة.. أخرج من باب الدار.. مطرقاً أسير.. كئيباً إلى حد بعيد أمشي.. وتطلين من النافذة.. تبتسمين.. تمدين لساناً أحمراً.. تضحكين كطفلة غريرة.. وأبقى متبلداً.. أشير بيدي.. تشيرين بيدك.. وأطرق برأسي وأمشي كئيباً.. في حلقي تزدحم الكلمات وأضغط على حلقي.. كنت أريد أن أوصيك بقلبي.. لقد تركته على الطاولة.. في غرفتي الباردة.. أريدك أن تنزلي.. أن تشعلي المدفأة.. أن تدعيها تهدر على مزاجها.. لا.. لا.. لا.. أريدك أن تنزلي.. تأخذين قلبي عن الطاولة.. تضعينه تحت قميصك الداخلي.. بين ثدييك الصغيرين.. وتدفئينه بلهاثك.. عندها.. سأشعر أنا..

في مكاني البعيد.. بالدفء  يلفني كفراء أرنب سيبيري.. ولكني ضغطت على حلقي.. لم أفتح فمي بقيت مطرقاً.. وعند المنعطف رفعت رأسي.. أشرتُ بيدي.. أشرتِ بيدكْ.. وغبتِ عن ناظري.. وغبتُ عن ناظريك. مشيت في الأزقة المفعمة ببرودة الصباح.. تذكرت ليلة البارحة.. كنت تقولين لي:عندما تكون بعيداً أشتاق إليك.. عندما تكون قربي لا أشعر بشيء هل أنا أحبك؟؟..وكنا نسير على غير هدى في الأزقة ذات الحفر الطينية والأضواء الكابية .وكنت متشبثاً بيدك كطفل مذعور من زحمة المدينة التي يدخلها لأول مرة.. وكنت جميلة إلى حد بعيد، تحت السماء المفعمة بغيوم رمادية باردة.. وكنا نصمت طويلاً ونغذ السير بعيداً.. وفجأةً نحدق ببعضنا.. ثم نبتسم فتلمع أسنانك البيض تحت قناديل الشارع الوسني لمعان حافة من الزبد تعلو موجة في المحيط البعيد..وكنت أحدق في شفتيك.. ويقف قلبي.. ويقف الزمن.. وتخفت أصوات المارة.. ويموت ضجيج السيارات العابرة.. ولكنك فجأة تخنقين ابتسامتك فأرتعد كنائم صب على رأسه ماء مثلجاً.. وتعود الأشياء إلى حركتها المعتادة..

ولحظتها أحس بمقدار سعادتي.. وبمقدار شقائي.. وأرتجف كمن به حمى.. تحت ضغط هذين الإحساسين..هل تحبيني فعلاً؟..هل أحبك فعلاً؟..أسأل نفسي.. تسألين نفسك.. هل أنت موضوع للكتابة؟..هل أنا مشروع بيت متين اقتصادياً؟؟..هل هذا كل ما يشدنا إلى بعض؟؟..أسأل نفسي.. تسألين نفسك.. ونغذ السير في الأرقة ذات الحفر الطينية والأضواء الكابية.. تعترضنا عينان.. تلتهمنا بفضول.. لا تنتبهين.. أنتبه.. تعبرنا

العينان.. أقف.. تقفين.. أصوب إصبعي باتجاه الفتاة المدبرة.. تقف.. تلتفت.. ترجع.. وجهها يحتضن مشروع سؤال ضخم:

- سلامات.. كيف الصحة.. يا لطيف نسيتينا..!!.. لم نعد نخطر على بالك!!.. طفقتْ تعاتب.. وطفقتِ تعتذرين.. وطفقت أبتسم..

- ابن عمك؟؟..تساءلتْ بدهاء.. ولمعتْ عيناها تحت ضوء المصباح المشنوق على عمود هاتف عند الزاوية.. وتلعثمتِ.. وتلعثمتُ.. وأفلحت أخيراً:- خطيبي..

- مبروك.. الله يهنيكم.. الله كم أنتما لائقان لبعض!!.. اسم الله مثل الطاسة وغطائها!!..

وضحكت ضحكة فضية قصيرة.. وضحكنا ضحكة دافئة طويلة..

- أنا الطاسة أم غطاؤها؟؟..

تساءلتُ بخبث.. وتراجعتْ إلى الوراء كمن يتفادى ضربةً.. وأردفتْ حيرى:

- والله لا أعرف.. المهم أنكما لائقان لبعض. الله يهنيكما..

- شكراً

- شكراً.. قلنا سوية.. وكنا محرجين.. وحدقت بك.. وحدقت بي.. ثم غامت عيوننا.. كانت غيمة من الحب تغشي أبصارنا.. لم نعرف كيف تخلصنا من المتطفلة.. وتابعنا السير في الأزقة ذات الحفر الطينية والأضواء الكابية..وكطفلين في غاية السعادة، طفقنا نؤرجح كفينا المتعانقتين.. والمارة أعين فضولية تنهشنا من كل جانب.."سيدي.. سيدي.. ألا تريد الصعود؟؟!"..أفقت إلى عسكري يناديني من الباص..

وتحركت كمن يمشي في نومه.. صعدت إلى الباص.. ألقيت نفسي على أول مقعد.. وغرقت في التهويم.. وتحرك الباص.. ودلفت ريح باردة من النافذة.. غمرت وجهي وعنقي.. رفعت ياقة سترتي العسكرية.. وتكورت بحثاً عن الدفء.. وعبثاً حاولت وصل شريط الذكريات الذي انقطع..تفو على  العسكرية!!..

*   *   *

حبيبتي:أرأيت مرة جذع زيتونة عجوز نخرته الريح والزمن وعصف المطر؟.. هكذا قلبي أصبح!!.. لا تقولي لماذا؟؟.. أنت المسؤولة عن كل هذا:أحبك بجنون وتحبيني بتعقل!!.. أحبك بمنطق السيل المنحدر يجرف في دربه كل الصخور.. وتحبيني بمنطق الجدول الصغير يلتف حول كل تضريس يعترضه..أحبك بمنطق العاصفة، وبمنطق البجر الهائج، وتحبيني بمنطق الريح الرخاء وبمنطق البحيرة الساكنة الممتلئة بنقيق الضفادع!!.. وبعد كل هذا تريدينني أن أبقى سعيداً بحبك!!..حبيبتي:أحلم بكلينا متلاصقين تحت زخة من المطر نرتعش من الحب..

ولو قصصت عليك حلمي لقلت ضاحكة أننا سنرتعش من البرد.. وسنصاب بذات الرئة.. وهذا منطق كل إنسان عاقل وعلى شيء من المعرفة الطبية أيضاً.. ولكنني لا أريدك هكذا..أريدك مجنونة مثلي.. فالحب ياصديقتي ليس خطة خمسية تضعها الحكومة وتسير وفقها  المؤسسات.. الحب ليس معادلة حسابية واضحة المقدمات حتمية النتائج..

الحب مغامرة معقدة في مجاهل غابة عذراء. وراء كل جذع شجرة مفاجأة يرتعش لها القلب من الخوف ومن اللذة معاً!!..الحب درب جبلي ضيق ووعر نصعده كلانا بمشقة الصخور المدببة تدمي أقدامنا ومع هذا نقف كل هنيهة لنلتقط أنفاسنا ونتبادل القبل..

حبيبتي:أريدك فقط أن تفهميني.. تفهميني جيداً.. باستطاعتي أن أتزوج إحدى القريبات.. سيفرح الأهل.. وسيعود الوئام إلى صفوف العائلة.. ستحبني زوجتي بهدوء.. ولكنني لا أحلم بهذا.. أحلم بكلينا نرتقي درباً من الحب جبلياً وعراً..

نصعده ونتعب وتدمي الحجارة أقدامنا.. ومع هذا نقف كل هنيهة لنبتسم من الحب!!..ترى هل ستفهمينني أخيراً؟؟.. أرجو ذلك..

*   *   *

ولجتْ الباب.. كان وجهها دائروياً أسمر معجوناً بدمه.. وكم كانت ممتقعة!! ورغم ذلك طلبت منها أن تجلس بهدوء على كرسي أشرت إليه..كان هناك في شفتيها أثر لكدمات صغيرة لا ريب أنها من قبلات البارحة وللحظة تذكرتها وهي تراوغ برأسها محاولة الإفلات وضحكتها السعيدة تخضب تأوهاتها:-

من شاء الله.. احترقت شفاهي.. يكفي قبلاً..وابتسمتُ.. وظلت مكفهرة.. وكانت التعاسة عنكبوت نشيط ينسج غلالته على وجهها الدائروي الأسمر والمعجون بدمه..

-  ما بك؟..

سألت’  بقلق .. ورمشتْ بعينيها كمن يحاول طرد خيال ثقيل- البارحة.. حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً.. أفقت مرعوبة على صوت الباب يصطفق بعنف.. يا لطيف كم ذعرت لمنظر والدي.. كان يبدو كالسكران تماماً..

وابتسمت’ مشجعاً..- أكملي.. ماذا قال بالضبط؟؟..وللحظة استردت قليلاً من روحها المرحة:

- صرخ.. سأذبحك.. سأقطع عنقك.. سأطعم لحمك للكلاب إذا رأيتك معه ثانية.. هذا شاب يريد أن يضحك عليك ويفضحنا في الحارة..وضحكت غصباً عني.. ولعل إحساسا بالفحولة قد أطل من وراء ضحكتي.. إذ أن روحها المرحة سرعان ما غاصت وعادت التعاسة إلى وجهها الدائروي الأسمر والمعجون بدمه..- إذا كان يحبك عن صحيح فليخطبك..

أكملت سردها.. ثم حدقت في عيني متسائلة.. ووددت في تلك اللحظة أن أنهض وأقفل جفنيها على ذاك السيل من الرجاء الصامت المتدفق.. ثم أقبلها على رموشها المسدلة.. ولكنني بقيت على الكرسي قطعة من الطين البارد.. في رأسي يطن صوت الصمت بينما في حلقي تزدحم مشاريع وعود ضبابية..وأرخت رأسها على صدرها، فاختفى عنقها الطويل.. وهيمن هدوء مشحون.. بينما تركت لعيني الحرية في التجوال عبر أثاث الغرفة وسرحت بذهني بعيداً..كم كنا سعداء البارحة؟!..الهواء الليلي البارد قليلاً.. وكفها الدافئة في كفي.. أحلامنا المشتركة عن بيت ريفي منعزل.. وسرير ضيق يدفعنا إلى الالتصاق قسراً...وأفقت على صوت نشيجها الخافت.. كانت تبكي.. وسقط قلبي عند قدميها.. ورغم ذلك لم أنهض لاستعادته.. تركته يرتعد ووقفت أتفرج على دمعتين راحتا تتسابقان للوصول إلى نهاية ذقنها.- لا تبك..أخيراً نطقتُ بلهجة جهدتُ لجعلها ناشفة.. ولكن صوتي خرج متلجلجاً.. وودت النهوض لأمسح دموعها.. لكن شعوراً بالكسل عارم سمرني على الكرسي..

- أبوك يطلب أن تكون علاقتنا رسمية.. وأنا لا أملك مالاً.. أنت تعرفين ذلك.. ماذا تريدين أن أفعل؟؟..

- لا أعرف..همست ثم رفعت أصابع متشنجة، وراحت تمسح عينيها المبتلتين..

- أرجوك.. لا تبكي هذا امتحان لنا.. المجتمع يطلب من الذي لا يملك مالاً ألا يملك قلباً.. والدك يطلب منا أن ننزع قلبينا.. أريدك ألا تستجيبي.. أكملت محاولاً التفلسف..ولكنها ظلت صامتة.. وبدأت قطرات جديدة من الدمع بالتكاثف!!..

*   *   *

يا غاليتي:حائر أنا. ورأسي خلية نحل في صبيحة مشمسة.. قلبي متعب كقطار ثقيل.. وروحي ممزقة كنسيج عنكبوت لعبت به يد الريح..

أحبك هكذا يقول قلبي في إعياء.. لقد أتعبه عقلي.. عقلي المربوط بأكثر من حبل طرفه ليس في يدي.. وتذوب الصرخة وتتلاشى في كهوف نفسي ذات الديكورات الشرقية

المعقدة.. وأجزم على قطع علاقتنا.. فأنت لك ماض.. وأنت فتاة خفيفة.. وأنت.. وأنت.. وتتوالى القائمة.. وأصابع الناس غليظة تفقأ العين.. وقلبي يصرخ.. أحبك.. أحبك.. والصرخة تتلاشى في كهوف نفسي ذات الديكورات الشرقية المعقدة.. ومن داخلي ينبعث شهريار.. فلا أجد إلا الانكفاء على ذاتي.. أقضمها كجرذ جائع.. وأحس بأني مريض من الداخل..الصدام الجهوري بين عقلي الناشف كسحنة رجل بليد وقلبي اللدن.. يشعرني بالغثيان ويصبح كل شيء حولي بلا نكهة..أحياناً أشك في صدق عواطفك تجاهي..البارحة كتبت لك على جدار غرفتي: أريد حباً شديد اللهجة لقد قرأت ما كتبت لا ريب.. ورغم ذلك لم تتغيري!!..بقيت عواطفك جدولاً يسقسل واهناً.. وأن أحلم بها نهراً جبلياً صخاباً.. ترى هل كلانا لائق للآخر كما قالت إحدى الصويحبات؟؟..

عندما أجلس إليك أشعر بلا جدوى ثقافتي.. بلا جدوى عشرات العبارات الرشيقة التي أود قولها لك.. ترى أمردُّ ذلك إلى كونك لا تميلين للمطالعة؟؟..ثانية أتسائل: أكلانا لائق للآخر؟؟..

*   *   *

أنا حزين!!أتذكرون سائق العربة في قصة تشيخوف.. "كآبة"؟؟..إن حزن بطل تشيخوف يضحى باهتاً إذا ما قورن بما لدي..لا تتعجلوا استجلاء السبب.. فأنا أثرثر كثيراً وتشتد ثرثرتي في لحظات كآبتي.. لا تستنكروا هذه الاعترافات.. فكلنا متشابهون في هذه الناحية.. إن بطل تشيخوف كاد يختنق من الداخل لو لم يبث أخيراً لواعجه لحصانه..

أحببت يا أعزائي فتاة ساذجة.. في البداية أحببتها لهذه الصفة بالذات.. لا تبتسموا في رثاء.. إن أشد ما يوجعني هي نظرة رثاء في لحظة أكون فيها شديد التعاسة.. البارحة قرأت لها خاطرة.. كتبتها وأنا أظن أنني حين أقرؤها لها ستذوب غراماً.. وستذيب على الأقل عند المقاطيع شديدة الرومنتيكية دمعة.. أو دمعتين..أتعرفون ماذا كانت تفعل أثناء قراءتي؟؟..كانت تضحك كما لو ان   كلماتي ضلت الطريق : بدلاً من أن تدغدغ قلبها راحت تدغدغ إبطها..باستطاعتكم الآن أن تطلقوا لأخيلتكم الأعنة.. حاولوا أن تتصوروا موقفي..شاب يملك قلباً على شكل قيثارة.. أمضى عمره يدوزن أوتارها.. وعندما عثر على فتاة توسم فيها شيئاً من الموهبة الموسيقية إذ بها وبخشونة راعي بقر توارث أجداده هذه المهنة منذ قرون، تقطع الأوتار برشقة واحدة من لحن رعوي يصلح للم شمل بقر شارد.. لا للتوليف بين قلبين..ترى ألا يحق لهذا الشاب أن يحطم قيثارته على رأس فتاة أحلامه الساذجة زيادة عن اللزوم؟؟..أنتم تضحكون ولا ريب.. أنتم تعتبروني كائناً سقط سهواً من عصر عتيق.. ويجب إرجاعه إلى عصره أو تدجينه بحيث يتدرب على الحب بواسطة الحاسبة الإلكترونية.. ويتزوج بالمراسلة.لكنني للأسف سأخيب مساعيكم.. لن أحطم قيثارتي.. سأعيد وصل أوتارها.. وسأقضي بقية عمري في دوزنة أوتارها.. لن أفقد الأمل أبداً في العثور على من تجيد العزف.. بل سأجدها حتماً.. ولحظتها سأصرخ في وجه قلوبكم التي تطعمونها الحب على شكل معلبات مستوردة: "سحقاً لقلوبكم المصنوعة من الكاوتشوك"

*   *   *

"كم كنت أود لو ينسى العقاد عقله الجبار عندما يقول الشعر.. وذلك لكي يطلق عاطفته غير الجبارة بل الأليفة المتواضعة كعواطف كبار الشعراء الذين لا يخجلون من ضعف الطبيعة البشرية.. ولا يأنفون من الشكوى والتلهف.. وذلك لكي يسمعني شعراً إنسانياً رائعاً.."

*   *   *

كم كنت أود لو كف الناس عن ممارسة التستر على نقاط ضعفهم البشري أثناء تواصلهم مع بعضهم البعض..ذلك لأن حفر أنفاق مباشرة تصل بين القلوب سوف يؤدي إلى توسيع شبكة العلائق الإنسانية.. سواء منها السامية أو الجميلة.. ويزيد من كمية إحساس البشر بالغبطة وبغائية الحياة...

*   *   *

يلومني بعض الأصدقاء على سذاجتي الواضحة في علاقاتي مع الجنس الآخر.. ويأخذون علي أكثر ما يأخذون طريقتي في دلق عواطفي  بغزارة وبلا تحفظ وبلا حذر..ويعتبرون ذلك ضعفاً في طبيعتي البشرية قد يؤدي إلى مضاعفات أخرى تؤثر على بنائي النفسي والخلقي في المستقبل..

وأنا أقول لأصدقائي الأعزاء..أيها السادة:إنني كائن مشروط ببنائه  النفسي والجسدي.. وإنني لا أخجل من أي ثغرة وجدت في هذا البناء.. بل إنني أعتبرها سمة شخصية أعتز بها.. وسأمارس إنسانيتي من خلالها... وللجحيم محاولاتكم البائسة لدفعي باتجاه التغاضي عن تواضع إمكانياتي والظهور بمظهر السوبرمان...

*   *   *

لماذا يدس العقل الناشف لحيته الوقورة في شؤون هي من اختصاص القلب؟؟..أسأل نفسي: وأردف: لماذا لا يكون هناك فصل على المستوى السيكولوجي كما هو حاصل على المستوى الفيزيولوجي بالنسبة لأجهزتنا الداخلية؟؟..

أصبحت متأكداً أن للعالم الخارجي يداً في دفع أجهزتنا الداخلية لأن تعمل بهذه العشوائية وبهذا التداخل!!..

*   *   *

لماذا لا أستطيع التخلي عن شرقيتي تجاه النساء؟؟..لقد تكشفت أخيراً عن رجل يحمل في رأسه كل مفاهيم المجتمع الشرقي!!.. الحب الكبير الذي غمر قلبي لم يستطع أن يخفف البتة من صرامة المعايير الأخلاقية التي طالبت’ حبيبتي أن تزن نفسها بها.. ولم يقف الأمر عند حدود حبيبتي: بل تعداه إلى أقربائها المقربين!!..تحولت كل إشاعة تمس سمعتهم إلى سكين مشهرة في وجه الوشائج التي تربطني بابنتهم..كل الجسور التي بنيناها مهددة بالسقوط بين لحظة وأخرى تحت ضربات  البداوة التي  تعشش في ذهني..الشكوك تغزو قلبي كقبائل همجية.. تدوس بسنابك خيلها الجامحة كل لأحلام الوردية وكل ما يمت بصلة إلى ذاك المستقبل الذي رسمناه سوية في جلسات عشقنا الكثيرة!!..أيها القلب المضني بعشرات الهموم الصغيرة..لقد قررت أن أسقطك من الحساب.سأنساك تماماً..إنك عضو مزعج بامتياز.. ليس من ورائكَ سوى المتاعب..أتمنى لو كنت قادراً على انتزاعك من صدري وإلقائك في حضن حبيبتي.. وعندها فلتحلَّ أنت وإياها مشاكلكما المستعصية..واتركاني كائناً متبلد الأحاسيس..لقد توصلت إلى قناعة:ليس من سعيد في هذه الدنيا سوى ذوي المشاعر المتبلدة!!..

*   *   *

يا غاليتي:

ماذا سأقول لك؟!..أأقول لك: إنني أحبك.. إنني أحبك..أأهتف بسذاجة كمسيو ريزلر: أنا سعيد.. أنا سعيد.كلا لن أفعل ذلك.. فأنا الآن مثقل بالتعاسة.. لماذا؟؟..سأشرح لك:أنا الآن ممزق شر تمزيق.. قلبي منديل عاثر الحظ طرف منه في يدك والآخر في يد أخرى.. لا تظني أنني أحببت غيرك..ا لمسألة ليست على هذا النحو.. المسألة أن إنساناً آخر يسكن أعماقي.. ويسبب لي كل هذه التعاسة…في داخلي إنسان شرقي بشاربين معقوفين وعقال مائل وخنجر محدب وهو لا يحفظ من الشعر العربي قديمه وحديثه إلا هذا البيت العنجهي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذىحتى يراق على جوانبه الدمو أنا أرتعد فرقاً إذا ما ارتجف شارباه المعقوفان.. فخنجره المحدب سريع الاستجابة.. ويتقن الغوص في اللحوم الطازجة خاصةً..

وأنا يا حبيبتي خائف عليك منه.. خائف إلى حد يدفعني لمحاولة تخبئتك بين أضلعي.. ولكنك لن تكوني بمأمن.. فهو هناك يجثم متمترساً بكل المفاهيم السائدة.. ومشرشاً كشجرة زيتون عتيقة.. هل تستغربين كلامي؟؟..يحق لك ذلك.. إنك لم تكتشفي مني حتى الآن سوى تلك الواجهة المنمنمة بشعارات تقدمية..أريدك الآن أن تعلمي أنك مغشوشة.. وأن سوء حظك قد أوقعك في حب من يحمل عن جدارة كل مواصفات المرحلة.. في دمه ولحمه وعظمه تمتزج كل سماتها الشديدة التفاهة والشديدة الروعة.. وأنا لذلك قلت لك البارحة.. أريد أن أضيف إلى حبنا عنصر الثقة.. طلبت منك أن تصارحيني بكل علاقاتك السابقة إن وجدت.. أقسمت لك بأن ذلك لن يؤثر على علاقتنا، بل سيزيدها متانة.. لم تقولي شيئاً عن ماضيك.. لا أدري الآن هل السبب هو بياض دفترك؟.. أم خوفك من أن تتغلب شرقيتي علي وينهار كل ما بنيناه من أحلام؟..يا غاليتي:إنني واثق من أن ما أحمله لك من الحب لقادر على سحق ذاك البدوي المعقوف الشاربين والمائل العقال والمحدب الخنجر.. كل ما أطلبه منك.. أن تساعديني في معركتي.. قليلاً من المصارحة.. تصنع بيدراً من الثقة.. وعندها سينتصر الحب.. وسنشِّيع سويةً ذاك المتمترس في أعماقي إلى مثواه الأخير.. أرجو أن تساعديني…

*   *   *

جلستْ على الكرسي الذي أومأت’ إليه.. كانت توزع نظراتاً حذره.. وكان ترقب مشوب بذعر خفيف يطل من حدقتيها الفاحمتي السواد.. ومن شفتها العليا المرتعشة قليلاً.. ومن أصابع كفيها المتعانقة بتشنج.. قطعتُ الصمت بأن رفعتُ رأسي المنحني فوق المدفأة المتوهجة حرارة لا أحسها بل أشاهدها تنداح حزمة برتقالية من الفوهة الدائروية الواسعية..- سوسن.. أنا أحبك..

وضحكتْ فوراً.. وركض الارتياح عبر قسمات وجهها الأسمر المستدير كقرص من خبز الذرة ناضج.. وللحظة تذكرت كل آلام اليومين الفائتين.. اجلس على الكرسي.

خلف المكتب الغارق في الفوضى.. أنفخ مخزون صدري كل خمس دقائق.. تحفّ بضعة أوراق مبعثرة.. ويتطاير قسم من رماد المنفضة.. اسحب ورقة بيضاء.. أمسك بالقلم.. أضغطه بين أصابعي بقسوة.. أعصر مخي في محاولة لدلق شيء من محتوياته على الصفحة البيضاء.. تظل الصفحة نظيفة..يظل القلم صامتاً.. انهض عن الكرسي.. أتجه إلى السرير.. ألقي بنفسي فتتوجع أضلاعه الحديدية قليلاً ثم تصمت.. أسحب الغطاء فوق رأسي.. فيظلم الفراغ في عيني.. يفسد الهواء بعد خمس دقائق.. أنفخ محتويات صدري دفعة واحدة وأرمي الغطاء عني..

- هل تحبني؟؟.. أسمع ضجيج المثقب وهو يحفر في رأسي هذا السؤال

- هل تحبني؟؟..وأحس بأن الهواء قد هرب من رئتي.. من الغرفة.. من الحديقة المجاورة ويتعاظم ضجيج المثقب.. وينداح هديره في رأسي كعاصفة تركض بين بيوت قريتنا الطينية المتلاصقة..هل تحبني؟؟..

وأقفز من السرير.. أعود إلى الكرسي.. أمسك بالقلم.. اسحب الورقة أحدق في بياضها الطباشيري.. تتجذر قناعة في نفسي بأنه يتحداني!!.. تتملكني رغبة حادة في تلويث نصاعته.. أجر القلم بخطوط متعرجة ثخينة.. ارفع عيني المثخنتين بشعيرات دموية منتبجة.. أزحف بحدقتي على أثاث الغرفة بحركة بطيئة.. أتريث عند المرآة الدائروية.. أرى وجهاً شديد الشحوب.. بعينين شديدتي الانتفاخ.. أجر نظراتي بعيداً عن المرآة.. تتملكني رغبة حادة في البكاء.. لا أريد ذرف دمعتين أو ثلاث بهدوء.. لا أريد النشيج بصوت متكتم.. أريد أن أنفجر باكياً بصوت عال.

وجود الجنود في المكتب المجاور يضغط على رغبتي.. تتبخر رغبتي.. تتحول إلى ضبابة قصديرية اللون.. تتصاعد من لفافة رجل يدخن بعصبية..

- هل لها علاقات سابقة؟؟..

سؤال آخر يلف داخل رأسي كزوبعة لولبية.. أحتضن جمجمتي بين كفي.. أقفل جفوني المرهقة.. وأمضي في التهويم وفي تعذيب نفسي!!

- لا تضحكي.. ما سأقوله الآن لن يسرك..

وبترت ضحكتها.. وكتربة رملية .. ابتلعت سحنتها الفرح دفعة واحدة.. وانعقد الترقب والقلق بين حاجبيها المنتوفين بعناية، على شكل تجعيدات خفيفة..- أعرف..زفرت.. أمالت رأسها كمن أثقلته هموم الدنيا..

- أنا أحبك بصدق.. أنت لا تحبيني.. لقد اقتنعت أخيراً بذلك.. لا تسأليني كيف.. لقد تعذبت بما فيه الكفاية.. لقد أوجعتني قلبي على نحو مرعب.. أريد أن أستريح.. أريد أن ننهي علاقتنا.. سنرجع صديقين كما كنا سابقاً..وأظلم وجهها على نحو مخيف.. تقلص حتى أصبح لا يملأ الكف.. ورغم ذلك نبرت:

- لماذا أدخلتني الغرفة..؟!.. لماذا لم تقل هذا وأنا خارجها؟!..

كان واضحاً أنها تستصعب الانسحاب أما عيني مهيضة مكسوفة..

- فضلت التفاهم هنا بهدوء.. أرجو أن لا تحقدي علي.. أنا أحببتك بجد.. لا تظني أنني كنت أمثل..ساد صمت ثقيل للحظة.. قطعته متابعاً..

- ولفترة طويلة.. لن أفكر في بناء علاقة جديدة..

وكمن سيط على ظهره العاري فجأة.. هبت عن الكرسي.. وقطعت المسافة إلى الباب وثباً.. واصطفق الباب وراءها بعنف.. ثم ساد الصمت من جديد..بقيت على الكرسي وحيداً.. وحيداً.. تكورت.. جمعت ساقي تحت عجيزتي.. انحنيت فوق المدفأة..من الخارج كان يأتيني وقع خطواتها الراكضة فوق الدرج الإسفلتي.. فوق السطح.. على أرض الغرفة الجاثمة فوق غرفتي.. ثم صرير أضلاع سريرها وهي ترمي بنفسها عليه.. وتدفق في نفسي إحساس بالثقة كثيف..وكقطة تنظف نفسها عند جدار مشمس، رحت ألعق بقايا شكوكي الدبقة…لقد كان ما يشبه الارتياح يتنامى في داخلي بسرعة… وتضاءل هدير المثقب حتى صمت…

*   *   *

يا غاليتي:

وأخيراً حدث الانهيار..كل الأحلام الأكثر ألواناً من قوس قزح، غطست في العتمة.. كل خرائط مستقبلنا التي رسمناها على جدار المدفأة.. وعلى اكف بعضنا.. وعلى كثير من أوراقنا المبعثرة.. خلال جلسات عشقنا الكثيرة.. أمحت معالمها لكأنما كنا نرسم على لوح من الجليد في غرفة دافئة..

لم يكن لك يد في ذلك.. لم يكن لي يد في ذلك.. هكذا أدعي.. واعرف أنني أكذب.. وأعرف أنني أنط فوق الحقائق كوعل بري مذعور.. صوتك في أذني يقول في توسل: وأنا.. ما ذنبي؟!..وأسأل نفسي: ما ذنبها؟!..وفي رأسي تشتجر الأفكار.. وتغوم الأشياء في بؤبؤي.. وتجمد عيناي على نقطة ما في سقف المكتب.. لكن قلبي ذاك المنتفض في صدري كدجاجة مذبوحة، يبقى مسرحاً لآلام عظيمة!!..أتظنين انك وحدك الذي يتألم؟!..

كلا يا غاليتي.. إن ما يخفف من آلامك كونها خارجة عن إرادتك أما آلامي فهي بحدة أوجاع من يمسك سكيناً مثلمة ويشرع في حز رقبته ببطء..أن الذي أصنع آلامي!!.. وهنا تكمن المصيبة!!..أحبك.. أنت تعرفين كم أحبك.. كل خلية في جسدي تنطق بهذا.. ولكن ما الذي بمقدوري فعله حيال البدوي الثاوي في أعماقي؟!..ذاك الذي لا يفهم من شؤون المرأة سوى أنها متاع شديد الشخصية..في بداية علاقتنا طلبت منك أن تعينينني على قتل ذلك البدوي.قلت لك بالحرف:أريد أن تأتيني المعلومات عن طريقك أنت.. أقسمت لك بكل الحب الذي أحمله إن صراحتك ستزيد حبنا ضراماً.. انتظرت طويلاً لحظة ثورتك على خوف المرأة الشرقية.. ولكنك بقيت صامتةً.. وكنت بصمتك تفسحين المجال للآخرين ليأتوني بالمعلومات، ويمدون يد العون لبدويي المعقوف الشاربين..يا غاليتي:ماذا أفعل؟؟.. هل أتزوجك؟؟..أنت تعلمين إن حياتنا سوف تتحول إلى جحيم من الشكوك.. لو أقدمنا على ذلك قبل أن أقتل أنا شرقيتي...إن ما يغيظني هو كونك توافقين على صحة معظم المعلومات التي تأتيني من الآخرين.. لماذا لم تقوليها أنت نفسك؟؟..لقد شرحت لك عشرين مرة.. الفارق الكبير بين أن تحك لي أنت ما يتعلق بأهلك أو بك حيث تعطينني دفقة من الثقة.. تجعلني اركن مطمئناً إلى زوجة المستقبل.. وبين أن تأتيني المعلومات من الآخرين فتزداد جمرات شرقيتي توهجاً.. وتنتفخ أوداج بدويي غضباً لقد شاركت يا غاليتي إلى حد كبير في خنق ذاك الحب الذي انبثق في قلبي كنبع  في صحراء مقفرة..

ثم تدفق عبر كل الشرايين والأوردة فانتبجت به كل خلاياي..صدقيني أن حباً كبيراً ذاك الذي كان يبسط جناحيه الشاسعين فوق رأسينا..صدقيني أنني لم أكن ألهو البتة..صدقيني أن ما أعانيه من آلام هو أضعاف ما تعانينه..أرأيت مرةً كيف ترتعش مذعورة حبة العدس عند دخولها بين حجري المطحنة؟..

أنا كتلك الحبة المسكينة..مطحون بين حبي لك وشرقيتي..ممزق بين عاطفتي تجاهك بكل ما توحي به من رؤى سعيدة.. وبين سمعة أهلك وإيقاظاتها الشرسة لكل الشكوك القاتلة التي تنبثق داخلي كفاية من الخناجر المشرعة..ترى هل ستعذريني ؟..

*   *   *

حبيبتي:ليس الذنب ذنبي.. أنت تعلمين.. لست بحاجة إلى الاستفاضة في الشرح..أنا سريع الغضب.. غيور.. كثير الشكوك.. هكذا أنا!!.. ليس لي يد في تركيبتي النفسية…أنت لم تحسني فهمي.. لم تحسني إدراك هذه الميزات..بقيت كما أنت.. تتصرفين بلا مسؤولية.. وتتركين "لشدة حبي" أن أحل المشاكل…كنت أحلها دائماً على حساب كرامتي الشخصية..الآن طفح الكيل!!…لم أعد قادراً على تحمل المزيد…اعذريني.. وساعديني على نسيانك..ساعديني على نسيانك..

*   *   *

كلمات نائحة يستوي كل شيء.. تماماً كسهب كازاخي.. الأمل وعدمه.. وكذلك الرغبة في  الحب..

تتسطح.. تتسطح.. تدرك أن قلبك قد تحول إلى سبخة فيها الكثير من القصب.. رغم ذلك لا تصنع لنفسك شبابهٌ.. تكتفي بسماع صفير الريح…يا قلب..اخلع عنك أحلامك الصغيرة.. دعها تسقط بقليل من الجلبة.. وأنت أيتها الأحزان تعالي.. تعالي.. فرأس الجسر أصبح سالكاً..تطير اللقالق بعيداً…الدفء بوصلتها الأبدية.. أنت أيها القلب وحدك بلا أجنحة..بعيداً عن أعين الرقباء.. في جوف شرنقة تصنع دودة القز أجنحتها..تعمل قليلاً.. وتفكر كثيراً.. بالسماء.. وبالحب ولكنهم أبداً يعاجلونها بحمام ساخن!!

*   *   *

من صلصال صنع الله أبوينا.. رغم ذلك نبت الحب.

*   *   *

عندما سقطت حواء في هضبة التيبت، سقط آدم على جبال البيرينه... رغم ذلك التقيا!!!!

*   *   *

البارحة... انهارت كل خطوط دفاعي أراك تتقدمين.. في عينيك بريق محمد الفاتح.. تدوسين بقدميك الجميلتين حقول الألغام، والأسلاك الشائكة المبثوثة حول قلبي..وكسيل من الألم اللذيذ تتدفقين إليه.. فأحار أهو يرتعد خوفاً أم حبوراً!!..

*   *   *

قد تستغربين عندما تسمعيني اسأل نفسي لم لم انتظرك؟!..كيف أنتظر من لم اعرفها؟!..ولكنني أعرفك.. من عشر سنين.. من عشرين.. من بدء الخليقة.. أتظنينني أبالغ؟...كلا...في اللحظة التي بدأت فيها أكتشف نفسي كان قلبي يحاول بلورة شكلك بطريقة ما.. كنت زيجاً من المرأة الحلم.. والمرأة الواقع.. كنت تختلطين أحياناً بماركس.. وأحياناً تعودين روزا لوكسمبورغ.. ولكنك أبداً لم تتجسدي كواقع عياني إلا بعد أن فات الأوان..هل قلت فات الأوان؟!!!..كلا لم يفت.. كل خلاياي تصرخ لا فهل ضممت صوتك؟؟..

*   *   *

الخامسة والنصف..الصبح يتنفس في الخارج ضباباً وزقزقة عصافير.. وأنا وحدي.. جسدي على السرير الضيق.. وخيالي يحلق بعيداً.. يحاول لملمة أجزاءك.. وجهك الصغير الجميل يرتسم في فراغ الغرفة فأحاول أن ألتقطه.. أغمره بالقبل وأضعه قريباً من قلبي.. آهٍ لو يتجسد كل ذلك حقيقة.. كنت سأبكي حبوراً.