ضد التيار
ضد التيار
لبنى ياسين
-صدقني .. لم يكن هذا حالي أبداً...
قال أطول الرجلين المترنحين على طرف الشارع ,الممتد موشحاً بسكون الليل ,معانقاً نور المصابيح المتدلية من الأعمدة الشامخة في صدر ذلك الشارع.
رد الآخر :و من منا يظل على حاله ..لو كان الأمر كذلك لكنت ترضع من ثدي أمك حتى الآن و من يدري ربما كانت تغير لك الحفائض أيضاً .
وأخذا يقهقهان بصوت مرتفع يمزق سكون الليل أحدهما و هو الأقصر , كان يقهقه بحماقة واضحة المعالم في كل جزء من تفاصيل ملامحه الجافة , أما الآخر ذو الجبهة السمراء ..فكان ينطبق عليه أن شر البلية ما يضحك , فقد عرف أياماً كان فيها إنسانا ذا مبادئ, اختلف معه الكثيرون لكنهم كانوا يحترمونه حتى أبعد الحدود , كان آخر الرجال المحترمين إن جاز التعبير ,محامٍ يرفض الدفاع إلا عن الحق , و يقف في وجه الباطل و لو كان أبوه في الطرف المقابل , كان أحد أبطال معركة تشرين ..خرج منها بوسام الشجاعة .. مذيلاً بتوقيع العدو بالرصاص على بطنه .. توقيعا مزق أحشاءه ..لكنه لم ينل منه .
أما الآخر فكان ممن يعرفون بحثالة البشر ..ولد لعائلة بسيطة الدخل و الثقافة , بعد سنين من العلاج عند الأطباء و المشعوذين و الدجالين , فصار الآمر الناهي في المنزل البسيط لا يكاد يٌرفض له طلب مهما كان , و لا يقال له كلمة لا ,أعطوه كل شئ فاعتقد أن بإمكانه أن يبتلع المحيط..ولأن له ذوق متدنٍ لا يعجبه إلا ما هو دون مستوى الأخلاق و الإنسانية فقد عاقر كل أنواع الموبقات و الرذيلة , و انتهى به الأمر بالزواج من راقصة تعرف إليها في أحد المواخير الشعبية التي يرتادها اللصوص و المحتالون و قاطعو الطرق و تجمع كل أنواع القذارات من مخدرات و قمار و نساء رخيصات.
أما ما الذي جمع الشامي بالمغربي ..فهو لغز حير سكان تلك المنطقة حيث لم تكن هذه الطينة من تلك..و كيف وصل المحامي ذو المبادئ السامية و المثالية المنقرضة إلى هذا الحال المزري فهي قصة يطول شرحها ,تبدأ من ظهور الطفيليات البشرية وتعملقها على حساب إنجازات صاحبنا هذا و أمثاله ,و تنتهي بغربة عاش تفاصيل مرارتها يوماً بيومٍ ,فلم يستطع الصمود غريباً في أحضان الوطن وصحبة الأهل و الأصدقاء.
أكمل الرجلان سيرهما المترنح غير عابئين بشيء ,حتى وصلا إلى إشارة المرور التي أصبحت حمراء بمجرد اقترابهما , كان عليهما اجتياز هذا الشارع إلى الرصيف المقابل,
بنفس الوقت الذي توقفت فيه على تلك الإشارة الحمراء سيارة حديثة ,تقودها امرأة في منتصف العمر ..جميلة الملامح, و إلى جانبها رجل أنيق المظهر يبدو عليه الثراء ..وان لم يكن واضحاً نوع هذا الثراء ,إن كان ثراء ميراث أو ثراء منصب أو ثراء حرب أو ثراء نصب و احتيال.
تجمد الرجل الطويل عندما وقعت عيناه على تلك المرأة .. لم يستطع إن ينظر في عينيها , هاله أن تكون هي من دون كل البشر من تراه بهذا الحال المزري و الصحبة المخجلة , كان من الصعب عليه أن يراه أحد ممن عرفه أيام النضال و المبادئ و هو بهذا الحال ,فكيف إن كانت هي..دوناً عن كل البشر .
أحس بأنها ترسل من عينيها آلاف الخناجر المدببة فتنغرس في جسده بألم لا طاقة له به .
كان يعلم إنها الآن ترمقه بتلك النظرة التي يعرفها جيداً ..مزيج من اللوم و العتب و الحزن و الخيبة..فلم يقوى على النظر إلى وجهها ..لئلا تشعر بمدى خجله في هذه اللحظة ..فقد كانت تمتلك مقدرة مدهشة على قراءة أدق تفاصيل مشاعره و أفكاره ..بمجرد النظر في عينيه و لذا لم يعطها هذه الفرصة .
و كأن الزمن توقف في هذه اللحظة فتحنط كل شئ في مكانه إلا المشاعر المتضاربة و دقات القلب الثائر , و شريط من الذكريات نفض عنه غبار الخيبة و الألم ,بمجرد رؤيتها.
عرفها سبع سنين ..كانت حبيبته ..عندما كثر أعدائه بسبب إبحاره ضد تيار الفساد , وحدها وقفت معه و كانت له شراعاً ..وحدها آمنت بأفكاره و بقيت إلى جواره تدعمه و تسانده و تخبره بكل لحظة أن بقاؤه وحده في هذا الجانب ..لا يجعله مخطئاً بقدر ما يجعله فارساً.
كانت مرآته في ذلك الوقت ..و كان يروق له أن يعتقد أنه وحده فاز بامرأة مميزة مثلها .. امرأة ليست ككل النساء .
ألم تكن مميزة تلك التي تختار الإبحار ضد التيار لأجل مبادئ انقرضت منذ زمن بعيد و لم تعد توجد حتى بالمتاحف .
وحدها أيدته في الذهاب إلى الحرب و إغلاق المكتب و أخبرته أن الوطن هو أمك و أختك و زوجتك وابنتك , في حين أن كل المقربين قالوا له و هل توقف الجيش عليك ..حتى تغلق المكتب و تلتحق به .
وحدها انتظرته ليعود من الحرب مكللاً بالنصر و الجراح , و بكت فوق جراحه بلهفة أم ..يكاد يشعر الآن بدموعها الدافئة تنساب فوق يده و هو مستلقٍ في المشفى العسكري .
و بينما خذله الجميع ..هو خذلها وحدها ..
استفاق على زمور السيارة التي انطلقت هاربة من قدر كان محتم .
أما هو فقد أشعل سيجارة ..و هو يتذكر تلك الأيام .. كانت تخطف السيجارة من بين شفتيه و تكسرها و ترميها قائلة إن لم تستطع أن تنتصر على نفسك فلن تنتصر على أحد.
سحب السيجارة من بين شفتيه و كسرها و رماها أرضاً .... و هو ينقلب عائداً من نفس الاتجاه الذي كان آتيا منه ,تاركاً صاحبه الذي وقف يناديه دون جدوى ,و هو يتمتم بصوت يسمعه وحده :
لم يكن هذا حالي أبدا .