الهاربة

الهاربة

سهيل أبو زهير

[email protected]

الليلة باتت في المحراب تصلي بغير وضوء... وقبل الفجر تسللت إلى إحدى الشاحنات المنتظرة شرقاً، واختبأت خلف الألواح الخشبية... ألزمها الأمر أن تظل واقفة... الخوف يعم جوانبها... لا تتحرك.

الشاحنة هناك تمر عن الحاجز، والخوف يزيد بداخلها... القلب يدق، وكفَّاها ترتجفان.

ولمَّا اخترق السائق، وسار بعيداَ عن أسباب الخوف فتح المذياع... ما زال الخبر الأول يعانق مسمعها فارتعشت، ووضعت يدها على ثوب كانت تحمله بين يديها... ضحكت وهزت رأسها... أخذت تختلس النظر من وسط العتمة المحيطة بها، وحين اطمأنت استثارت أنوثتها، وأخذت تبتسم... ضحكت، ثم علا صوتها مع علو صوت المذياع بالخبر الأول.. ما زال طويلاً طويلاً.

كادت الدماء تسيل من جسدها وهي تحاول مع الألواح الخشبية أن تدب فيها الحياة.... الفشل ذريع؛ فالشارب لا زالت تطول أهدابه تحت الأنف، ورائحة العنف تخترق صدرها.

كان النهار قد أدركها وتكشفت لها الألوان... وقطعة قماش خضراء عالقة باللوح... مدت يدها إلى ظهرها... أدركت أن ثوبها قد تمزق... نظرت حولها... فما زالت الشاحنة تسير منسابة، والعيون عنها نائمة.

استبدلت ثوبها الممزق بالثوب الأزرق الكامن بين يديها... استدارت حول نفسها، وأخذت تجرب الرقص على صوت الموسيقى الصاخب في مساحتها الضيقة، وخيوط الشمس المتسللة من بين الألواح الخشبية تتراقص معها:

-"الضوء قليل... هذا أفضل للرقص". قالت المرأة، وظلت ترقص حتى جفَّ ماء حلقها فسقطت أرضاً... عفواً... على سطح الشاحنة الصلب، وفوراً وضعت كفها على حلقها... وهزت رأسها وهمست:

-"لقد نسيت الماء رغم أنني كنت بجانب البحر!... لا بأس... لا بأس... لا حاجة للماء ولا للطعام... لابد من القصد فيه وفي الكهرباء أيضاً!!"ونظرت تحت قدميها الحافيتين على سطح الشاحنة، وواصلت: "... وأن نقف على أرض صلبة... آه الشرق لا يزال بعيداً".

انسلت من بين الألواح حتى بلغت نافذة خلف السائق... كان مخموراً يترنم مع صوت الغناء الصادر من المذياع... وبين اللحظة والأخرى ينتبه... فالمذياع يقطع الأغنية ويذيع الخبر الأول من جديد:

-"إنه طويل طويل... والشرق لا يزال بعيداً"... هكذا قالت وهي تحاول مواساة نفسها... انتظرت حتى عاد يترنم... همست في أذنه:

-"أين تريد؟"

-"الشرق..." وما زال رأسه يتراقص يميناً ويساراً... وضعت خنصرها في فمها، وأسندت رأسها على قفص الشاحنة:

-"الفرصة أصبحت سانحة أن أصلي تحت الشمس الذهبية وفي هذا الوقت الباكر..."

تذكرت أنها لم تغتسل... وأنها محرمة عليها مائة عام... أو حتى تغتسل... هكذا قال المذياع!.

-"إذاً لا بد أن يغير هذا المخبول مساره".

مدت رأسها مرة أخرى وهمست في أذنه:

-أليس الطريق إلى الجنوب أسرع؟... أليس منحدراً نحو القاع؟!

وقعت كلماتها في أذنه وقع الأفكار في الرأس... هزَّ رأسه وأسند ظهره... ترك المِقوَد فمدت يديها، وبدأت تقود الشاحنة وهي تصيح وتتغنى:

-"إلى الجنوب... إلى الجنوب". ردد خلفها، قبل أن تعمل الخمر في رأسه وينام:

-"إلى الجنوب... إلى الجنـ ...... نــــو...... نــــو.........."

يداها تتألمان... لا بد أن تقفز إلى غرفة القيادة... قفزت، وأزاحته إلى المقعد الآخر، وبدأت تنحدر به إلى الجنوب.

وما كادت تصل حتى قفزت من الشاحنة... تذكرت أنها قد اختلست من السائق بعض النقود وهو نائم، فعرَّجت على بائع الموز... وانهالت تأكل بنَهَمٍ شديد... نظر الرجل إليها، وأخذ يبتسم... ولمَّا أرادت أن تدفع الثمن نظر حوله فإذا بساتين الموز تملأ الأرض... فهمت ما يريد قوله فانصرفت.

في طريقها صعدت على صخرة أثرية... ما زال صوت الغناء يصدح في أذنيها، والطرب يخالجها... غنَّت لـ"جميل" و"عُمر"... وغنَّت لـ" قيس ".

وبين تلك البيوت العتيقة رأت قصراً أبيض كبيراً كبيراً كأنه نصف المدينة... الشمس في كبد السماء، لكن الأضواء الزرقاء تكاد تخترق نوافذه نحو الفضاء المليء بالسحب السوداء... ما زالت الموسيقى تملأ أذنيها، لكن الصوت هناك يختزل كل الأصوات... بدأت ترقص بين الناس... الموسيقى يعلو صوتها، وهي... هي انفعلت مع الصوت أكثر  وأكثر حتى سقطت أرضاً، وانكشفت سوأتها.

انفضَّ الناس من حولها فأقبل عليها رجل يحمل بندقية... انحنى نحوها، وأمسك بيدها:

-"سيدتي... لماذا أنت هنا؟!"

أخذها إلى القصر الأبيض، ومن يومها لم تقف على سطح شاحنة.