قبل فوات الأوان..
قبل فوات الأوان..
نازك الطنطاوي
حسن شاب في السابعة عشرة من عمره، من أسرة بسيطة، يتألف عدد أفرادها من خمسة أشخاص، وكان حسن أكبر إخوته، طيّب القلب، منطوياً على نفسه، ولا يتدخّل في شؤون غيره.
وفي المدرسة كان كثيراً ما يسمع زملاءه يتحدّثون عن شباب الانتفاضة.. وكان في نفسه يندهش من تصرفات هؤلاء الشّباب الذين يتركون دراستهم، ويفكّرون في أمور غير الدّراسة..
وذات يوم.. وبينما حسن وصديقه حسين يتجوّلان في ساحة المدرسة، إذا مجموعة من الشبان يتحدّثون بحماسة عن هؤلاء الأبطال.. قال أحد الطلاب:
- هل سمعتم يا أصدقائي ما فعل هؤلاء الأبطال أمس؟
ردّ عليه آخر بحماسة شديدة:
- نعم لقد سمعنا أنّهم أحرقوا سيّارة للعدوّ، وجرحوا جنديّين!..
كان حسن يتابع حديثهم بشيء من الاستغراب، ثم التفت إلى صديقه حسين قائلاً:
-إنني حزين جداً لهؤلاء الشّبّان، فهم يضيعون مستقبلهم في أشياء أكبر منهم!..
ثم أمسك بيد صديقه حسين، واتّجها نحو مقاعد الدراسة..
وعند انتهاء الدّوام توجّه كلٌّ من حسن وحسين إلى منزليهما، وفي الطريق اعترضتهما مظاهرة نسائية كانت تهتف للوطن والشّهيد، وتطالب بالإفراج عن المعتقلين من أبنائهنّ، وفيما كان حسن وحسين يتابعان المظاهرة في إعجاب واستغراب، إذا جنود العدو يهجمون على التّظاهرة، محاولين تفريقها بالضّرب بالعصيّ والرصاص المطاطيّ والرّصاص الحيّ، والقنابل الغازيّة.. يا لها من وحشية تثير الغثيان والقرف..
شاهد الصديقان بأعينهما النساء وهنّ يُضْرَبْنَ بشدّة، ثم رأى حسين طفلاً صغيراً وقد أمسك به أحد اليهود الجبناء، وانهال عليه ضرباً وركلاً، والصغير يصرخ ويستغيث من الألم.
رأى حسين هذا المنظر الوحشيّ الفظيع، وأحسّ في جسمه رعدة، وهمّ بالخروج من مخبئه لإنقاذ الطّفل من براثن اليهود، لكنّ صديقه أوقفه ومنعه من تنفيذ ما صمّم عليه:
- لا تذهب يا حسين، سوف يتركون الطّفل، أمّا أنت فلن تستطيع الإفلات من قبضتهم إذا وقعت فيها..
وعندما تقدّمت التظاهرة.. كان الطّفل ملقى على الأرض، فاقد الوعي، والدّماء تنزف من فمه.
أسرع حسين نحوه وحمله بين يديه، ثم ضمّه إلى صدره:
- وأنت أيضاً أيها الصغير الشّجاع، ستشارك في المظاهرة!..
ثم التفت إلى حسن قائلاً:
- لنأخذه إلى أقرب مستوصف.. فالصغير في حالة سيئة!..
ظهر التردّد على حسن.. كان قلبه يرتجف من الخوف، فهذه أوّل مرة يرى الدّماء..
قرأ حسين الخوف في عيني حسن، فنصحه بأن يعود إلى بيته، وهو سيهتمّ بأمر الصّغير..
دخل حسن منزله وهو حزين، وعندما سأله والده عن سبب حزنه، روى له ما حدث معه ومع صديقه حسين في الطّريق.. ثم دخل غرفته وأغلق على نفسه الباب.
كانت أمُّ حسن تستمع إلى حديث ابنها وهي مندهشة من موقفه المتخاذل تُجاه الصغير، ثم طلبت من أبيه أن يشجّعه على مشاركة زملائه في المظاهرات، لكنّ الأب أجاب:
- دعيه يقرر بنفسه.
وأكّد لها أن جميع الشّبّان ينطلقون من أنفسهم، ولا أحد يحثُّهم على هذا الأمر.. ثم ربَّتَ على كتفها مطمئناً إياها:
- اصبري يا أمَّ حسن، فإن حسناً تنقصه الشّجاعة والجرأة.. وعندما يتغلّب على هذا النّقص ويصير شجاعاً لا ينتظر تعليماتنا.. بل لن نستطيع إيقافه..
رفعت الأمُّ يدها إلى السماء داعية الله أن يخلّص ولدها من الخوف والخجل.
بعد عدّة أيّام.. وبينما حسن جالس في غرفته مع كتابه، سمع أصواتاً وضجيجاً في الشّارع، تلاها صوت رصاص.. أسرع إلى الشُّرفة ليتبيّن الأمر، وإذا هو يرى شبّاناً ملثّمين تطاردهم مجموعة من الجنود الصّهاينة المدجَّجين بالسّلاح، فارتجف قلبه من الذّعر، وبعد قليل سمع طَرْقاً عنيفاً على الباب، وقبل أن يذهب ويفتح الباب، كان الجنود قد كسروا الباب، وهجموا على المنزل الآمن كالوحوش الضّارية..
تجمّع كلُّ من في البيت على صوت الجنود، كانوا يصرخون، وكان صراخهم أشبه بزمجرات الوحوش، ثم أشار أحدهم بإصبعه نحو حسن، فاتّجه إليه عدد من الجنود، وأخذوا يشدّونه من شعره، ويضربونه بأعقاب بنادقهم.. تقدم الوالد نحو الضّابط ليقول له إن ولده لا علاقة له بشيء، إلا أنّ الضّابط صفعه على وجهه، فأسكته في الحال..
رأت الأمُّ ولدها وهو يُضْرَبُ أمام عينيها، فأسرعت إليه، وارتمت بنفسها عليه، لتحميه من بطشهم.. ولكنّ الضّابط انهال على الأمِّ والفتى بعصاه الغليظة، فسقطت الأمُّ على الأرض، ثم أمسك بتلابيب الصّبيّ بقوّة، وصفعه عدّة صفعات، أفقدته وعيه، وأسقطته على الأرض.
حاول الوالد منع الجنود من أخذ ابنه.. فأسرع إليه اثنان من الجنود، وعالجه أحدهما ببضع لكمات، بينما ركله الآخر على بطنه، فانفجرت الدّماء من فمه وأنفه، وسقط مغشياً عليه بجانب زوجته..
بعد ساعات أفاق حسن من غشيته.. وإذا هو يرى نفسه وقد تجمّع حوله عدد من الشّبّان يداوون جراحه، وعرف أنّه معتقل..
وفي السّجن تعرّف حسن إلى أبطال كانوا يروون بكلّ فخر واعتزاز مغامراتهم مع عساكر اليهود، ويتمنّون اليوم الذي سيخرجون فيه ليلقّنوا اليهود دروساً تعيد إليهم صوابهم..
أخذت معنويات حسن ترتفع، وثقته بنفسه تكبر، وحزن كثيراً لأنّه كان الوحيد الذي لم يشارك في أيّ تظاهرة، ولم يُلْقِ أيَّ حجر على واحد من أولئك الأوغاد..
بعد أيّام من الاعتقال والتعذيب.. أفرج عن حسن لعدم ثبوت أي تهمة عليه، وفي الطريق كان يحدّث نفسه:
- إنّ خير مكان يأوي إليه هو الجبل، حيث المجاهدون يرابطون ويقومون بغاراتهم على مستعمرات العدو.. الجبل خير من البيت، ولأَنْ تحمل بندقية أو مسدساً أو سكيناً في يدك، خير من أن تحمل حجراً وتلقيه على صهيونيّ..
هزّ حسن رأسه وابتسم وهو يّتجه نحو الدّرب المُتْرَبِ المفضي إلى الجبل.