آخر ورقة في التقويم

آخر ورقة في التقويم

ماجدولين الرفاعي

[email protected]

لم تهتم أمِّي يوماً باقتناء تقويم بما في ذلك تقويم الحائط الذي يعلقه الناس على حوائط بيوتهم وينزعون ورقاته يوماً وراء يوم وكأنهم ينزعون أسنانهم التي لا تعود إلى النمو من جديد وهل ينمو من جديد يوم مضى.

كانت أمِّي تقول ما الفائدة من التقويم وماذا يعنيني من مرور الأيام ، كلها متشابهة ولا تحمل إلا الألم والموت والغياب فهل سأعدُّ أيامي حتى أموت أو حتى يعود الذين غابوا ولا أعرف متى يعود أحدهم .

كانت أمِّي تتوجس دائماً في أنني لن أعود ، لأن اغترابي القسري الذي أبعدني عنها أكثر من ربع قرن ، استقر في فؤادها مثل حجر لا يطفو يوماً وتجدني واقفاً أمامها .

مع ذلك كنت ألتقي بأمِّي عبر الهاتف الذي كنت أجتمع حوله مع أولادي وزوجتي لكي تشعر أمِّي أننا حولها ، ربما احتضنت أولادي وربما صرخت فيهم حينما يعبثون بالمنزل .

كنتُ أقول لأمِّي إن ذلك يمكن أن يحدث يوماً ما وكنتُ أشعر أنها تبتسم يأساً من الفكرة ثم يكفهر وجهها الحبيب .. إنها تحلم وتعلم أن حلمها لن يتحقق .

قالت أمِّي بفرح إنها اشترت تقويماً للحائط بعد أن اتصلتُ بها هاتفياً وأخبرتها بأنني قادم أخيراً .

أنا قادمٌ يا أمي ....

قادم برفقة زوجتي وأولادي ، لأعانقك وأبكي على صدرك الذي افتقدته طويلاً .

يتحدث أخي عن أمِّي قائلاً في الهاتف ، هل تعلم أن دهشة صاحب المكتبة كانت كبيرة ، لأنه لا يُعقل أن يشتري إنسان تقويماً بعد تجاوز منتصف العام .

لكن أمِّي حصلت على تقويم للحائط ، انتزعه الرجل من على جداره وقدمه لها بدون مقابل بعد أن قدمت له الكثير من الدعاء لكي يحفظه الله ويطيل عمره وعمر والدته وبعد أن أدرك سرَّها ...

أمِّي تنتظر ولدها الغائب .

علقت أمِّي التقويم قرب صورتي على الجدار وبدأت بنزع ورقاته واحدة بعد الأخرى في كل صباح ، قبل أن تبدأ يومها تنزع ورقة وتدعو ربها أن يحميني .

أمس هاتفتها وكانت سعيدة فلم يبق على موعد لقائها بي إلا عدة أيام وبدأت أنا بعد أن انتهيت من عدِّ الأيام في عدِّ الساعات شوقاً إلى رؤية أمِّي .

إن أخذنا فارق التوقيت في الحسبان فقد رن جرس الهاتف بمنزلي في بلد اغترابي وكان الوقت نهاراً في العراق .

لم يكن صوت أمّي ولكنه أخي يخبرني أن صوت الأم غاب في تفجير سيارةٍ مفخخة وغاب جسدها أيضاً.

لقد تصورت غياب صوتها أولا كونه الأكثر التصاقاً بي خلال سنوات طويلة من الغياب .

سوف استمر في عدِّ الساعات ، لكي أجلس أمام القبر الذي يضم أمي وأترحم علي وجودها الذي تلاشى قبل أن أتلاشى أنا في أحضانها .