مشروب قاتل

زبيدة هرماس

- قم يا سعيد من نومك، الساعة تشير الآن إلى الحادية عشرة، لقد أتم التاجر صفقاته وعاد الفلاح من حقله وأنت ما تزال تغط في نومك. قم أرجوك لقد مضى ثلث النهار، هذه الروائح المنبعثة من غرفتك تقرفني.

دخلت سعاد وهي تحاول إغلاق أنفها بيد لتفتح النافذة العلوية باليد الأخرى وقالت في حنق شديد:

- دعيه يا أمي،فقد عاد متأخراً من تلك الليالي التعيسة والمليئة بالمغامرات القذرة.

- الدكان يا بنيتي هو مصدر رزقنا، من يبيع ويشتري؟ يجب أن يقوم فوراً ويتوقف عن هذه التصرفات المشينة، أجل يجب أن يقوم الآن.

- هذا الدكان يا أمي بدأت أفكر بتسييره، فمنذ أن توفي والدي رحمه الله ومعاناتنا تتضاعف، لقد بدأت الأرض تضيق علينا بما رحبت، وهذا البغيض حوَّل حياتنا إلى جحيم دون أن يتمثل وصية والدي لحظة واحدة، لك عليّ يا أمي أن أتولى أمر المتجر بنفسي.

خرجت الأم من الغرفة يائسة وهي تنظر إلى سعاد ابنتها البكر في أسى ولوعة وقالت:

- هذه الخمور التي يحتسي كل ليلة يجدها في كل مكان، كما أن رزقنا بدأ يضيع بسبب إدمانه عليها كل ليلة ودون اكتراث، أنا من أصبح يفكر في التوجه إلى المتجر وتسييره.

- ستتركين يا أمي أخواتي الصغيرات وحدهن؟، أنسيت أنه حاول الاعتداء على وفاء وسلمى في إحدى الليالي الحارة وهما تنامان إلى جواري كما لو كنا في مركز خيري؟ لقد تركتا غرفتهما فزعتين حين بدأ بتكسير أواني المطبخ والسب والصراخ في وقت متأخر جداً، يا إلهي لا أحب أن أتذكر تلك الليلة المرعبة، أعتقد أنني أنا من سيذهب إلى المتجر.
جلست سعاد باكية وهي تزيح من على وجهها خصلات شعرها الأسود، بينما أردفت الأم متنهدة:

- لا أنا ولا أنت يا بنيتي تملك الخبرة الكافية لتسيير أموالنا، لقد أصر والدك رحمه الله على أن يتولى كل أمور معاشنا بنفسه، وتحمل مسؤولية الإنفاق علينا باستحقاق، كان كل همي هو ما يجري داخل البيت ولا شأن لي بمتاعب التدبير المادي، تكامل دوري ودوره ولم أشعر بالسنين السعيدة تمر إلا وأنا أودعه، كان يصطحب معه هذا الشقي وهو يعقد عليه العزم أن يتولى كل شيء من بعده، لطالما ردد: "حين يكبر سعيد ويريحني من عناء السوق، سنجوب أنا وأنت العالم الإسلامي سياحة".

بدأت الأم بالبكاء مرة أخرى وهي تفتح نافذة المطبخ لتطل على الناس وهم غادون رائحون إلى عملهم اليومي لتدبير أرزاقهم، بينما يقبع ابنها في البيت وقد كسرت الخمر إرادته وشلت عقله.

تقدمت نحوها سعاد باكية وقالت:

- أمي لا يمكن أن نبقى جالستين بهذا الشكل نتفرج على مأساتنا، لا بد أن نفعل شيئاً، المتجر ينزف كل يوم في حانات الخمور، بل لقد أصبح يأتي بها إلى البيت وهو ما كنت أخفيه عنك منذ مدة! أتذكرين اليوم الذي ضربني فيه على وجهي حتى سقط القرط من أذني؟ لقد أدخل علبة كرتون مليئة بهذا المشروب القذر، وحين منعته كان منه ما كان.
- ما الذي تقولينه؟، هذا المشروب الكريه يدخل إلى بيتي وأنا لا أعلم، يا إلهي، كيف يحصل هذا؟

- أرجوك يا أمي، خذي المفاتيح من جيبه الآن، لا بد أن أذهب إلى المتجر وسأعرف كيف أتدبر الأمر.

المفاجأة

انهارت الأم باكية، بينما دلفت سعاد إلى الغرفة وحملت المفاتيح ولبست معطفها الجلدي ثم توجهت نحو المتجر، كان المطر يهطل بغزارة ويسابق دموعها على خدها وكأن نهراً من السماء يمد نهراً يشق وجنتيها الباردتين، أدارت القفل بصعوبة بعد أن حاولت إدارة كل المفاتيح، صغيرها وكبيرها، وأخيراً تمكنت من فتح الباب، ثم دخلت وهي ترتجف من الدهشة، لم تكن تظن أنها ستقدم على هذا العمل يوماً، خطت خطوات إلى الداخل، فإذا بشابين نائمين في سطح المتجر ينزلان من السلم الخشبي وهما يترنحان، وعلى وجهيهما آثار الكحول، قالت في فزع وهي ترجع إلى وراء:

- ماذا تفعلان هنا؟، من أذن لكما بالمكوث في متجرنا؟

- والدي سيشتري هذا المتجر، واتفقت مع سعيد أن أسيره مدة شهر لأتأكد من جدية الصفقة، ثم من أنت أيتها المزعجة المبللة بالمطر؟

- أرجوكما، اخرجا من هنا حالاً، هذا المتجر إرثنا ولن نبيعه، أنا الأخت الكبرى لسعيد، أتسمعان؟
ضحكا ضحكاً عالياً وهما يتمايلان ثم خرج الأول وتبعه رفيقه وقد تركا رائحة كريهة بالمكان، بينما حضر اثنان من التجار حين لاحظا أن المتجر فتح وأخذا يطالبان سعاد بمستحقاتهما من الأموال التي استحوذ عليها سعيد، وبينما هي تحاول الإحاطة بموضوعها إذ تقدم رجل آخر وهو يحمل شيكات بنكية في يده ويقول:

- أين سعيد؟، أين اختفى؟ أقسم بالله لولا علاقتي الطيبة بوالده لوضعته في السجن حالاً، أأنت أخته؟، هذه الديون متى يدفعها؟ لقد ماطلني طويلاً، ثم إنه مريض عقلياً وأصبح لا يتلفظ إلا ببذيء الكلام.

- نعم يا سيدي أعلم ما حدث وأرجوك أن لا تفعل، لقد أتى على كل شيء، أنا سعاد أخته أتيت بنفسي، وأعدك أنني سأتدبر الأمر، ولكن لا تدخله إلى السجن لأن أمي ستموت غماً، هو الابن الوحيد الذي تعقد عليه العزم بعد الله تعالى.

انصرف الناس وأخذت سعاد تتأمل حال المتجر الوسخ، كل السلع مبعثرة، فراش عفن إلى اليسار يدل على أن الغرباء يسهرون في المكان، تدلت من السقف لوحة بديعة يبدو أن أحدهم كسرها بزجاجة خمر، علقها والدها رحمه الله وقد كتب عليها: "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"، بقايا سجائر في كل مكان، المكتب تعلوه بقايا أكل قديم وبطاطس مقلية فوق الأوراق والكمبيالات، أمسكت سعاد برأسها ثم جلست وهي تجهش بالبكاء، وفجأة جاء سعيد وقد اشتط غضبه وسمع صراخه من بعيد، ثم توجه مباشرة نحو سعاد وأمسك بعنقها معنفاً وهو يسب ويشتم ويضرب أخته ضرباً مبرحاً وصرخ:

- أيتها الحقيرة، لا مكان لك هنا، مكانك بين الصحون والأواني وغسل الثياب، لا شأن لك بشغل الرجال، السوق كله سيعيرني بك منذ اليوم، سيدعون أنني لست أهلاً لأكون رجل البيت، هذه أكبر سبة أراها في حياتي، يا للمصيبة!.

صرخت سعاد من شدة الضرب وقالت:

- لقد جوعتنا وأطعمت أوغاد الحانات، أتركت لك الخمر عقلاً لتكون رجل البيت أيها الحقير؟ انظر إلى المتجر كيف أصبح فارغاً من البضاعة، لأجمعن تجار هذه السوق الآن ليحكموا بيننا وبينك.

كانت آثار السكر الشديد ما زالت بادية على سعيد، فحمل عصا غليظة يحتفظ بها وراء المكتب وانهال بها على رأس أخته حتى أغمي عليها أمام حشد التجار الذين جاءوا لفضّ النزاع، ولم يمر نصف يوم حتى فارقت الحياة وأمسى محتجزاً لدى الشرطة.

انكمشت الأم الحزينة، وحولها بناتها الثلاث، كلهن صغيرات، لا تتحدث عيونهن البريئة إلا عن أختهن الكبرى التي اختفت فجأة وسط سوق المدينة، حمل الجيران إليهن أكلاً وافراًً أيام العزاء ثم أغلق كل واحد بابه، وجاء العم يترصد غنيمة دون أن تفسح له أرملة أخيه مجالاً، وبعد سنة بيع المتجر ودفعت الأم الديون بعد متابعة طويلة في المحاكم، واضطرت في السنة التالية أن تبيع نصف بيتها الواسع لتعيل به بناتها اللواتي بدأن يكبرن وتتطلب دراستهن المزيد من المال، كما أدرك القاضي المفوض في أمر الأيتام ذلك نفسه.

المحكمة

بدأت آمنة تعاني من مشاكل صحية جمة، وقررت أن ينوب ابن أختها عنها لرعاية ما تبقى من المال، إلا أنه هو الآخر كان يحتسي الخمر بكثرة ولا يعقد معظم صفقاته إلا عندما يفقد عقله، ما تسبب له في الطرد من عمله، فهرعت إلى المحامي وسحبت توكيلها له وهي تقول في نفسها:

- لقد بدأت أشك أن هناك مورد خمور يطاردني في كل مكان أذهب إليه، بغيته أن أفقد كل شيء، أشعر أنه ورائي أينما حللت، يا إلهي، ربما سأجن.

عادت آمنة إلى بيتها وحاولت أن تنام قليلاً إلا أن ابنتها الصغيرة كانت تعاني من حرارة مفرطة، احتارت بين أن تصحبها إلى الطبيب أو أن تدفع ثمن فاتورة الماء والكهرباء، عمدت إلى بعض الأعشاب الطبية الرخيصة الثمن، ثم ناولتها إياها وخرجت إلى المحكمة تسأل عن القاضي، فقيل لها إنه في إجازة وإن هناك آخر يخلفه، كانت تريد أن تسأله ما إذا كان للدولة صندوق يهتم بالأرامل والأيتام حتى تعرض حالتها على المسؤولين عليه، إلا أنها رجعت القهقرى فجلست على درج المحكمة وبدأت تفكر فيما يمكنها فعله، كيف ستعول نفسها وأيتامها؟ ثم أجهشت بالبكاء وأخذت تمسح وجهها بمنديل رأسها حتى لا يراها أحد، لم تشعر إلا بماء بارد يبللها، فوقفت لتجد عمال النظافة يغسلون المكان ويطردونها دون اكتراث.
عادت إلى بيتها كئيبة، وفتحت علبة الدواء المهدئ، تناولت قرصاً ثم حاولت أن تنام إلا أنها لم تفلح، إذ ظل كابوس إعالة بناتها يحاصرها، وفجأة قامت مسرعة من جديد وشدت شعر رأسها بمنديلها الحريري الأبيض، ثم لبست ثيابها وتوجهت نحو مكتب المحامي الذي كانت قد وكلته لتصفية الديون التي ورطها فيها ابنها سعيد وقالت متلعثمة:

- سيدي: أتيتك لكي تساعدني على رفع دعوى قضائية..

قاطعها مؤكداً:

- لقد عالجت كل ملفاتك وشؤونك القضائية، أية دعوى هاته التي تتحدثين عنها؟

- أشكرك: لقد فعلت ما في وسعك، وأخذت على ذلك نصيباً وافراً من المال، هذه المرة أطلب منك أن لا تكلفني الكثير، لكن اسمعني جيداً.

نظر إليها باستغراب وقال:

- تفضلي، أنا أسمعك.

- أحب أن أرفع دعوى قضائية على مصنع الخمر الذي دمر ابني وقتل ابنتي ودمر حياتي وتركني لا ألوي على شيء.. لم يعد أمامي غير ذلك.

- ماذا؟!! هل أنت مجنونة؟ هذا الملف ليس من اختصاصي أبداً، ولست مستعداً لتبنيه، ثم ما الذي حدث لك؟ أنت امرأة بسيطة؟ كيف فكرت بهذا المنطق؟

- أرجوك أن تفهم يا سيدي، هناك معتدي ومعتدى عليه، أنا ولدت ابني حين خرج إلى الدنيا وعقله في رأسه، وفجأة جاء من هجم علي وأخذه مني، نزع عقله من رأسه وجعله يقتل سعاد، ويحاول اغتصاب ابنتي وفاء، وضيع ما حصلته وزوجي من المال طوال سنوات في فترة وجيزة، آه..آه.. لقد انتهى الآن وراء القضبان، الفقر والعوز يلاحقانني، ألا تراني مظلومة بعد كل هذا؟ أليس لكل مظلوم الحق في الدفاع عن نفسه؟ ثم هل تعلم يا سيادة المحامي المحترم أنني بدأت أفكر في العمل في بيوت كنت بالأمس أدخلها سيدة؟ أهناك جرم أكبر من هذا؟ أنا بسيطة كما ذكرت،.. ولكن.. ولكن ما حل بي ليس بسيطاً أبداً.

- أيتها المرأة الطيبة، أنصحك بالصبر والابتعاد عن مثل هذه المتاهات، وأصارحك مرة أخرى أنني لست المحامي المطلوب لمثل هذه المهمة.

- أنت تتبرأ مني وترفض مساعدتي، إن لم يكن هذا من شأنك فهو من شأن من إذن؟.

حملت مناديل مكتبه الورقية كاملة دون استئذانه وأخذت تجفف دموعها المنهارة على خدها وهي تردد:

- رجل القانون يقول هذا ليس من شأني، شأن من إذن؟... شأن من؟.

وقف منتصباً وعلامات الضيق تعلو محياه وقال:

- أخجل أن أقول لك تفضلي، ربما وجدت جواباً عند صاحب الحانة.

خرجت كالمجنونة وهي تبكي بكاءً شديداً، ثم استقلت سيارة أجرة وقالت للسائق:

- أرجوك.. أرجوك، خذني فوراً إلى الحانة التي كان يرتادها سعيد.

نظر إليها مندهشاً وقال:

- سعيد؟ الحانة؟ يا إلهي! هل جنت النساء؟، أنت المرأة المجنونة الثانية التي أصادفها هذا اليوم، فضلاً، استقلي سيارة أجرة أخرى، فأنا لن أتوجه إلى المكان الذي كان ابنك سعيد يحتسي فيه خمرته.

فتحت المرأة الباب وأخذت تخترق الشوارع الفسيحة دون أن تشعر بمرور الوقت، تبكي وتحدث نفسها كالحمقاء دون أن تحدد وجهتها إلى أن وجدت نفسها أمام سوق المدينة، توجهت مباشرة إلى حيث كان متجر زوجها فإذا به قد تحول إلى سوق ممتاز فاخر، دخلت وهي تجر الخطى كالحمقاء، تتأمل البضائع المعروضة بعناية: عطور أنيقة، شوكولاته محاطة بديكور فضي بديع، هدايا، أدوات تجميل..، شعرت بالدوار والإغماء يلفانها، استدارت يساراً فإذا قناني الخمرة تتحداها، وأين؟ في متجر زوجها، اشتدت رعشتها وحملت واحدة وصرخت كالحمقاء أمام الزبناء:

- سأستعيد عقلك يا سعيد.. أعيدوا إلي ابني.. أعيدوا إلي ابنتي... أعيدوا إلي سعادتي.. لن أخرج من هنا حتى يأتيني صاحب المتجر بعقل سعيد... سعيد.. سعيد.. لم يعد سعيداً.. أنا أيضاً لست سعيدة... أرجوكم اسمعوني، هذا المتجر ليس لكم، أرجوكم اسمعوني!!

مرت ثواني معدودة، ثم حضر حراس المتجر الأمنيون وأمسكوا بالمرأة النحيلة ووضعوها خارجاً، إلا أنها كسرت زجاج الباب، وأتلفت الأزهار المحيطة به، ثم استمرت تصرخ بأعلى صوتها، نادى مسؤول السوق الممتاز على من جاء وأودعها السجن بتهمة الاعتداء على ملك الغير، إلا أنها ظلت تردد كلماتها حتى جاء طبيب السجن وأرسلها إلى مستشفى المجانين.