حزيران
حزيران
نعمة البنا
صيف حار قائظ يفرض على سكان المخيم النوم بعد الثانية أو بعد الغداء .. نجبر نحن الصغار على النوم..نتظاهر به إلى أن يعلو شخير والدنا..فنتسلل من الأبواب والشبابيك إلى الحارة بحثا عن أطفال لا ينامون أوعجوز ملّت النوم..فتحدثنا عن قريتها الجبلية المحتلة ، وكيف يكون الطقس فيها صيفا .. عن عنبها وتينا،نسائها ورجالها وطواحينها إضافة إلى طابون*1. دخانه آخر من يودعهم إذا ما غادروها، وأول بشائر وصولهم إذا ما عادوا .
فالحاجة فاطمة من( قِبيا )، صديقتها الحاجة عايشة من( بِديا) ، أما الحاجة السمراء البدينة التي تفترش الأرض دوما ، بعنق ضخم بلون الطين مترع للشمس الحارقة وأثداءٍ تتدلى هاوية نحو الأرض لولا نطاق يحجزها ، كنت أكتفي كلما مررت من أمامها وهي مفترشة عتبة دارها مِن أيَّ بلد؟ فترفع يدها بثقل ثم تهوي بها قائلة من صمِّيل . فأكمل قفزي مرددة من أيّ بلد من (صُمِّيل) .
رتابة الظهيرة في المخيم تنكسر .. لا نوم بعد الظهر ، الناس يتحدثون عن العرب واليهود .. يصمتون فقط لسماع أخبار صوت العرب من القاهرة .. وإليكم تعليق أحمد سعيد*7 .. ، يجتمعون تحت عريش دكان الحارة ..يوجهون أسئلتهم للأستاذ أحمد الجزار .. أما قريبتيّ المعلمتين فها هن يجلسن مع باقي نساء الحارة ، بلباس أسود استعدادا للحرب !
الأحداث تتوالى تباعا .. جاء خبر من جيراننا والذين هم نظراؤنا بنت ببنت وولد بولد أن مجانين المخيم قد عادوا .. سلمتهم الحكومة لأهاليهم ..انطلقوا إلى بيوتهم للتقصي والتمتع بفرحة اللقاء ..
-حليمة المجنونة أصبحت ببشرة بيضاء صافية وثياب نظيفة !
-يتزاحم الأولاد ليسألوها.. مين بينتصر بالحرب العرب ولَّا
-اليهود
-تكفهر وجوه الصغار..ثم يعكسون السؤال اليهود ولا العرب فتقول : العرب .. يفرح الأولاد ويصفّروا..فإذا بأزيز الطائرات يصمُّ الآذان..طيارة عرب لا طيارة يهود ، منشورات تغطي الأرض يتلقفها الأولاد.. كل يقرأ بأعلى صوته جيش الدفاع الإسرائيلي
-رأيت مساعد الطيار وهم يرمي المنشورات !
-
رأيته.. رأيت حذاءه ..الجميع في الشارع نساء ورجالا كبارا وصغارا يلاحقون بعيونهم الطائرات..تعلو وتهبط..سقطت..سقطت في البحر الميت لا..لا في الشريعة يعلو صفير الأولاد..يصفق الرجال..تزغرد أم حسين..وقبل أن تنهي زغرودتها تشق الطائرة عباب السماء مخلفة دخانا أسود.ضربت موقعا عسكريا..لكن الحرب بأولها..وإسرائيل ستنهك قواها..هي في مواجهة ثلاث جبهات.
-يا حُرمة .. يا حرمة لقيتِ القواشين*5 ؟ .. قواشين الأرض..
-أم فهمي المنشغل في طلاء كل شيء بالأزرق النيلي للتمويه على الطائرات الإسرائيلية ، حاملة قواشينها في كيس نايلون في عبّها*2 ، كلما اشتد النقاش بين النساء كم دولم*3 إلكم *4؟ بإسم مين ؟ تخرج من الكيس وثاثق مصفرّة ذائبة وتطلب من أقرب شاب أن يقرأها .
زينب الهرش والتي لا تسميها حماتها إلا الهرشة لإنجابها بنات خمس أول ضحايا الحرب الدائرة .. فزوجها وأمه يدّعيان أنها أضاعت قواشين أرضهم وأملاكهم . حتى شمعة التي اشتهرت بالضرب المبرح الذي صبّغ بدنها ليلة عرسها .. تدّعي حماتها أنها سلّمتها علبة فيها قواشين أملاك حماها الذي لم تراه .
طائرات تنقضّ تضرب وتنطلق بسرعة الطلق .. كلٌ يلصق راديو ترانزستور بأذنه .. جاءنا ما يلي : الجبهة المصرية ؛ قصفت الطائرات في مطاراتها
الجبهة السورية : الجولان .. وهناك محطة جديدة اسرائيل ، لا تنفك عنها عبارة جيش الدفاع الإسرائيلي . أما ال BBC وقد تجشّم مذيعوها عناء ركوب البحار*5ليبشروا بقدوم لجنة تقصي الحقائق ! في غمرة فرحتهم بإمكانية عيش الإنسان على سطح القمر ! أوحت إليّ أن أنكمش في ركن بعيد وأتساءل اذاً.. لمَ كل هذه الحروب ما دام يمكننا العيش على القمر ؟! أليس أجمل ؟!. أعادني إلى المخيم صراخ جماعي .. هناك من سمع أن عبد الناصر معتقل في قفص وهو في طريقه إلى اسرائيل !
صراخ وعويل من دار أم فهمي .. فتحت أم فهمي غرفة وحيدها لتجده منتحرا !
إذاعة عمان : بنتاي بلقيس.. لميس .. عائلات خرجت باتجاه عمان حرقت بالنابالم !
المخيم يلفظ سكانه الخائفين ، الطرقات ميادين قتال .. الطائرات الإسرائيلية تتعقب السيارات المدنية بالقصف .. السيارات .. الشاحنات تحمل الكتل البشرية وتلقي بها في طرقات عمان والمدارس .. حتى التراكتورات الزراعية يتعربشها الناس .. وإلى عمان .
.. الدبابات تجوب الشوارع وتطلق النيران في كل الجهات وقد بدت خائفة من المخيم المهجور. تم تتجمع في السوق تحطم أبواب المحلات التجارية .. الجنود يتلقفون زجاجات البيبسي وكروزات الدخان ويرقصون come on come on وربما الإسم التجاري للدخان آنذاك كمال .
*1طابون : مخبزبيتي في الريف
*2عبّها : جيب في صدرها
*3 دولم: دونم
*4 إلكم: لكم ، تملكون
*5 قواشين: شهادة ملكية أراضي
*6 صوت إذاعة BBC يروح ويجيء كأنما يمخر عباب البحر
*7 مذيع مشهور يقدم تعليقا على أخبار الثانية بعد الظهر