صدام .. ومرافعة في نظام الحكم
صدام .. ومرافعة في نظام الحكم
من وحي محاكمة الرئيس العـراقي صدام حسين
المحامي بسام البليبل
شعر أخلسـه الشيب ، ولحية خصفها البياض ، وطلعـة أوهنها الضنك .. باستثناء
بريق خافت لكبرياء قديم يشع من عينين ذابلتين كلما أجالهما في قاعة المحكمة ، وقد زايلت محياه مظاهر البذخ والتيه التي كانت لدكتاتور طالما كان لحضوره أثر مفعم بالأبهة ومخايل العظمة ..
وعندما سأل القاضي المتهم الماثل أمامه عن مفصل هويته ، أخذ هذا الأخير نفسا واسعا وهو يجلس على كرسي الاتهام بإهمال مغيظ للمحكمة لا يخلو من أثر غطرسة تتبدى بتبادل حركة المرفقين الواهنين على عارضة سور المحبس ، هذان المرفقان اللذان لم يكونا بحاجة إلى ما يســـندهما يوم كان الزعيم يمارس هواية إطلاق الرصـاص بيد واحدة من بندقية ( البرنو )الأثيرة لديه ، في استعراضاته المهيبة .
ـ وبصوت أصحل ، يصارع بحة تمسك بتلابيبه ، رد على سؤال القاضي :
" اسمي صدام حسين المجيد ، رئيس جمهورية العراق ، وهذا اللقب جزء من كرامة الشعب الذي منحني إياه ولم يمنحه لغيري بعد .. ولا اسمح بمخاطبتي بدونه !! "
ثم زوى ما بين عينيه ، وشرد ببصره قليلا كمن يستشرف المستقبل ، وقد جال بخاطره ما أجاب به ( دانتون ) خطيب الثورة الفرنسية عندما سئل عن هويته أمام المحكمة الثورية حيث أطلق صوته الصاخب كالرعد :
ـ أنا " جورج جاك دانتـون " ، العمر أربعة وثلاثون عاما ، ولدت في أرسي سور أوب محام ، نائب في المؤتمر الوطني ، مقيم في باريس ، شارع الكوردوليه .. وقريبا سأكون في العدم ! واسمي سيكون في البانثيون ، وسيحترم الشعب رأسي ، نعم رأسي الذي ستقطعه المقصلة !
حقا إن دانتون ولد خطيبا .. هكذا أحــس جميع الذين كانوا في قاعة المحكمة الثورية آنذاك .
أما جواب صدام حسين فلا شك أنه ترك رعشة في قلب القاضي الذي كان يستجوبه والذي استجمع شتات نفسه قبل أن يقول :
ـ بصفتك الشخصية الآن ، وبأي صفة كنتها سابقا ، أنت هنا لتسمع اتهام الشعب لك على ما اقترفت يداك .
ـ صـدام : إنما أن هنا بطغيان أمريكا ، ومواطأة الخونة ، واستخذاء العرب ، وخـور الحكام الذين أسلموني لمصير أخشى عليهم منه ذات يوم .
وكوني هنا لا يغير من حقائق ثابتة أهمها عدم مشروعية هذه المحكمة ، لأن الحق لا يمكن أن يكون له إلا منبع واحد هو الدولة ذات السيادة وأنا أحاكم في ظل الاحتلال وأمام صنائعه وهذه المحكمة لا تخضع لاعتبارات القانون ، بل لاعتبارات السياسة .
ـ القاضي : إذا كان الاحتلال الأمريكي ينقص من السيادة العراقية ـ رغم تسليم السلطة ـ فهذا يعني أن حروب التحرير والاستقلال للدول العربية لم تبدأ بعد ! والتي كنت أحسب أنها انتهت منذ زمن .. أما مشروعية المحكمة فهي من متعلقات النظام لا مشيئة المتهمين .. وأنت هنا لأقرأ عليك قرار اتهامك .
( صمت .. ترقب .. فيما القاضي يعلن قرار الاتهام : )
( الاستئثار بالسلطة ، والاستبداد بها ، ورفض تداولها لعقدين ونيف من الزمان .. . )
ـ صدام : ثم .. .. ؟!
ـ القاضي : لا غير .. فماذا تقول ؟
ـ صدام : " وقد دار بخاطره أن أمريكا لم تجرؤ على اتهامه بأكثر من هذا لأنها شريكة له
فيما عدا ذلك ، فأراد أن ينكأها بما سكتت عنه فقال :
كنت أحسب أنكم ستسألونني عن الحرب العراقية الخليجيـة الأمريكية مع إيران
أو الغزو العراقي بإيحاء أمريكي للكويت ، أو ... "
ـ القاضي : إننا نسألك عن كل ذلك ، وأزيد لأن ما ذكرت ما هو إلا بعض نتائج الاستبداد
فالاستبداد أساس كل آفة ، وعلة كل تخلف ، وبه زوال كل ملك .
ـ صدام : إذا كنت تأخذ علي تفردي بالسلطة ، فلأن هذا هو قانون الطبيعة ، فالكون ليس له إلا إله واحد ، والسماء ليس لها إلا شمس واحدة ، والأسرة أنموذج الجمهورية ليس لها إلا رب واحد .. وبالتالي فإنه لا أحد يمكن أن يكون ذا سيادة في جمهورية من الجمهوريات إلا واحد أوحد ، فالسيادة دائمة ، والســيادة مطلقة ، لأن الســـيادة في رأي الفيلسوف
" جـان بودان " كما قيل بحق : " كتلة من الرخام لا يمكن تقطيعها أبدا " .
ـ القاضي : ولكن ليس هذا رأي الشعب الذي عرفت كيف تحكمه بالقوة لسنين طوال ، ولكن لم تعرف كيف تجعله يحبك ولو للحظات ، فكم هو مسكين ذاك الطاغية الذي يصدق نشرات وزارة إعلامه ، وبيانات صحفه الرسمية ، وتقارير مخابراته السرية ، وقصائد شعراء اتحاد كتابه ، وأغاني مطربي محطاته التلفزيونية والإذاعية .. لأن مصيره سيكون مثــل مصيرك يوم تخلى الشـــعب عنك في لحظات ، لأنك لم تصـــدق مقـــولة
( أن الحكم شأنه شأن كل الأشياء في العالم لكي تحافظ عليه ينبغي أن تحبه .. ) ! وهذا ما أنت فيه اليوم من خذلان وأســـر .. !
ـ صدام : إنني لم أفكر يوما فيما على الشعب تجاهي ، وإنما فكرت فيما علي تجاه بلدي وشعبي وأمتي ، وعملت به ، وحسبي هذه المقاومة التي هي جزء من كرامتي وكبريائي ، أما إن خذلني البعض ، أو أعطوا بأيديهم فهذا من شأن الطبيعة البشرية التي لا يستقر لها قرار ، تتلهف إلى المكاسب ، وترتعد أمام الأخطار ، يقدمون لك الولاء حال قوتك ، ويقلبون لك ظهر المجن حال أفول نجمك ، وقلة هم الذين لا يبدلون .
أما ما تذكرني به من أسر على يد الأمريكان ، فإنني أفضل أن أكون أسيرا فأعذر ، على أن أكون أجيرا فأحتقــر .!
ـ القاضي : إن من كانت هذه فضائله وحكمته ، ما كان عليه أن يهدر حرية مواطنيه ويضرب جيرانه ، ويغزو إخوانه .. ..
ـ صدام : ( منفعلا .. . متلفظا بعبارات نابية ما كانت إلا انعكاسا لعنجهية دكتاتور آفل ) .
ـ القاضي : ( مقاطعا )
هل علي أن أذكرك بما قاله قاضي محكمة الثورة الفرنسية لـ دانتون ، من أن
الجرأة صفة ملازمة للجرم ، وأما الهدوء فهو صفة البراءة ، وما من شك إن
الدفاع حق شرعي ، ولكنه دفاع يجب أن ينحصر في حدود الأدب والاعتدال .
ـ صدام : وهل علي أن أرد بقول دانتون :
عندما أرى أن التهم توجه إلي دون وجه حق ، هل أستطيع عندئذ أن أسيطر على عواطف السخط التي تثيرني ؟؟ وهل ينبغي على بعثـي مثلي أن يكون جوابه باردا ؟!
ـ القاضي : على أية حال هذه ليست جلسة محاكمة ، وإنما جلسة قراءة لقرار الاتهام ، فاحتفظ بدفوعك إلى حين لات منـدم .
ـ صدام : هل لي أن أعرف شخص الذي يحاكمني ؟؟
ـ القاضي : ( ممتعظا ) : لست في موضع يؤهلك للسؤال ، ومع ذلك فأنا قاض في ظل وزارة العدل السابقة.
ـ صدام : إذا فأنت معين بمرسوم من قبلي ، ولم يمض عليك زمن طويل حيث كنت تخضع لأوامر حكومتي ، وتحكم بموجب القوانين التي تحمل توقيعي وغير بعيد أنك قد وقفت باستقبالي مادحا معظما في خطابات استظهرت فيها بلاغة الولاء ، وبديع المبايعة الأبدية في غير مرة زرت فيها مؤسستكم ، واليوم أهان وأحاكم من قبلكم في ظل الاحتلال ، وأعتبر عراقيا ســيئا ، وأنا ما أنا عليه .. ..
لا .. .. لا يحق لك ذلك ، بل إنني أربـأ بعراقي أن يفعل هذا .. . ولكن باسم الثالوث الأعظم ، والعهد القديم ، وسياسة العولمة ، تستطيع أمريكا وإسرائيل قتلي ، ولكن من أجل العرب ، كل العرب لا يستطيع أحد إذلالي ؟!!
ـ القاضي : لم يسبق لي أن وقفت في مدحك ، ولكن ليس غريبا لو أني فعلت ، فهل في السلطة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية ، إلا من هو خريج مدرسة الحزب القائد وعقائد الثورة .. ؟!
أولم يقف " روبسبير " حين كان طالبا في باريس لتحية الملك لويس السادس عشر بخطاب بليغ باللغة اللاتينية ، ثم لم يمنع هذا " روبسبير " عندما حال دستور عام /1791 / دون مشروعية محاكمة الملك أن يطالب بإعدامه دون محاكمة ما دامت سلامة فرنسا تتطلب ذلك
ـ صدام : أولا ترى ومجلس حكمك أن الأولى بكم أن تحاسبوا الذين انتهكوا الأعراض وقتلوا الأبرياء ، وأهانوا الرجال ، وعذبوا وقتلوا النساء والأطفال ، وهدموا المساجد ودمروا الجامعات ، وأحرقوا المكتبات ، ونهبوا الآثار والثروات .. ؟؟!
إذا كان لا بد من محاسبتي مـرة ، فعلى قادة أمريكا أن يحاسبوا سبعين مرة ، ذلك أنه ومنذ عام / 1945 / وتحت شعار إنقاذ الشرف القومي الأمريكي ـ إن كان لهم شرف ـ
قامت أمريكا بما يناهز سبعين تدخلا عسكريا سافرا ، ضد دول تقرب منها أو تبعد .
بل حاولت أيضا الإطاحة بحوالي أربعين حكومة أجنبية ، وسحق أكثر من ثلاثين منظمة ثورية ، وتسببت بإنهاء حياة ملايين البشر ، وفرضت على ملايين آخرين العيش في الذل والهوان .
( صمت .. )
( صدام يحدث نفسـه .. . هل علي أن أستغل هذه الفرصة بوجود الصحافيين وكاميرات التصوير لمخاطبة الشعوب العربية وتحفيزها ضد تحالف الأشرار .. . ؟؟ )
( يتــذكر .. .. .. )
ـ في الخامس من نيسان عام / 1794 / وفي الساعة الرابعة بعد الظهر ، غادرت عربتان سجن " الكونسر جيري " وكان " دانتون وصديقه كميل ديمولن " في إحداها ، وفي الطريق إلى المقصلة كان عدد الجمهور كبيرا ، وفكر " ديمولن " ـ الذي كثيرا ما خطب في الجمهور الباريسي ـ أن يحاول اثارته للمرة الأخيرة ، فرفع صوته قائلا : أنا أول حواريي الحرية ، لا تدعوني أقتل .. .. النجدة !!
ولكن لم يتحرك أحد ، وهــز " دانتون " كتفيه عاليا وقال لصديقه : اهدأ .. . إنك لن تحرك حنان هؤلاء السـفلة الأدنياء ! !