وكانت تأتيه إلى هناك

سميح الجعبري - القدس الشريف

[email protected]

بعد الإشارة الضوئية التالية، ستهدأ أزمة السير، وربما سيشاهد صاحب الحانوت يصفّ بضاعته، وعقب أربعة منازل سينعطف إلى اليسار باتجاه المكتب الهندسي الذي يرأسه. بضع ساعات وسيعود الثور المربوط بالساقية إلى مخبئه... يوم عادي رتيب آخر ينقص من التقويم، مشاهد تتكرر، وشخوص تغيّر الحوار. صغُر عالمه وكبرت مشاكله وكرشه، وغزى المفرقَ المشيبُ على هيئة أرز وعدس.

بالأمس، كان برفقة زوجته المتنمّرة وطفليه المنتسبين إلى مدرسة أجنبية، فانسحب من الحديث باللغة الإنجليزية حين أوقف سيارته أمام محل البقالة، في زيارة أخرى هي روتينية. وضع مشترياته وأخرج محفظته، ثم توقف حين أحس بشخص يلسعه بنظراته من الخلف، شخص يسترق النظر من زاوية المتجر، فمن تراه يكون؟ نظرة عابرة كانت تفي بالغرض، والفضولي امرأة بجلبية زرقاء ومنديل أبيض من النوع البائس. لم يأبه كثيراً واستطرد حديثه مع البائع مكملاً العدّ، ثم توقف ثانية وكأن الزمن قد توقف معه كما لو كان في متحف الشمع والكل جماد، ولا صوت سوى صوت حنجرته التي ابتلعها أو كاد... شعور غريب كان قد نسيه منذ زمن، شعور مرتبط بوجود أحد بعينه، فقد ألف أناساً من هيأتهم، وآخرين من صوتهم، وغيرهم من رائحتهم، ولكن هذا شخص ألفه من شعوره بقربه...

مرت لحظات وهو ما زال يمسك بالنقود، ثم استدرك طالباً علبة أخرى من السجائر، علّه يكسب لحيظات (فنتازيا) من الزمن البعيد، ليستحضر من الذاكرة ملفاً بغبار الدهر الأزلي، ولون البراءة، وطول السنابل، وقسوة السنين... ملف الفاكهة المحرمة وأسرار الخطايا... إنها الفتاة من الحي الفقير.

وها هو يجلس خلف المقود مشدوداً بهول اللحظة وروعة الشعور، بينما تنهال عليه سياط السيدة القابعة بجانبه كاللعنة : هل اشتريت ؟ هل نسيت أن تشتري ؟ ولِم لَم ؟ والمسكين لا يفتأ يردد : نعم نعم، وكأنه بلال تحت صخرة الجلاد. مسحور برؤيتها، تنتابه غصة الخوف، يتظاهر بأنه ما زال مربوطاً، في وقت كان يحاول فيه أن يستجمع تفاصيل لقاءاته القصيرة بتلك الفتاة، وكيف كانت تأتيه إلى كرم العنب المحاذي للحي الفقير.

نظرة أخرى من خلال زجاج الباب الزجاجي للمتجر لن تضر، فأرخى لنفسه اللجام، فنظر، فنظرت... ثم ارتفع صوت المحرك معلناً غياب المشهد، وهي ما زالت تستجديه المزيد.

وقفت تراقبه كما لو كانت تطلب حقاً لها لم يسقط بالتقادم. فهي أول فتاة في حياته إن جاز لها التعبير، وكون المرء بالسابعة من العمر، لا يعني إلغاء مشاعره. تنظر... تنتظر... وتفكر في نفسها، كم كانت تعشق نظرته حين كانت تأتيه إلى هناك كل يوم بعد العصر وهو ينزه كلبه ذا الأصول الأوروبية! كم كان جميلاً بقميصه الأزرق وبنطاله الكحلي المعلق بحمّالات بيضاء، جالساً على الصخرة المحاذية للجدار الحجري! كانت تشعر بنشوة وهي تنظر في عينية البنيتين تحدقان في ساقيها النحيلين حين كانت تجلس أمامه بتنورتها التي اختفى لونها الأصلي لكثرة الرقع. كم كانت تحب نظرة الرضى في عينية البنيتين وهو يعطيها عنقود العنب الذي خبأه تحت الدالية النائمة على الأرض! وكم كانت تحب صمته في كل مرة كان يحاول فيها الكلام! كم كانت تحب هذا اللقاء السري الذي كان يبدأ وينتهي بشفاه لم تخلق للكلام... !

كم هو عجيب كيف ما زالت تشتهيه اليوم، أكثر مما تخيّلته في ليالي شبابها الصيفية!!! وكم نسجت فيها من أحلام وخيالات! حتى وبعد أن زُوّجت لمدمن مخدرات تركها مع رضيع في شهره السادس، حتى وبعد أن اعتادت اطفاء نار سيد القصر الذي تخدم فيه، حتى في ذروة عقدة رواية حياتها التراجيدية، ما زالت تحب عينية البنيتين.

في الأمس كان اللقاء الأصمّ، واليوم هي ذاهبة إلى هناك