صوت قديم

صوت قديم

يسري الغول

[email protected]

هكذا صدح صوته .. عذباً جميلاً خالياً من حشرجات أو نحنحات ، لم يتغير بعد ، كما كان منذ أمد بعيد . كنت قد سمعته و رائحة الطفولة تنفث بداخلي بقايا ذكريات حميمة ، تعاودني أحاسيس ماتت مع عمر طغت عليه تقلبات دهر مفعم بألوان الخراب .. كان صوته صافياً رغم تقدمه في السن ، هكذا خمنت دون أن أراه يوماً أو أعلم عنه شيئاً ، لكنني كنت انتظره لحظة بلحظة و دقيقة بدقيقة .. تمتمات تخرج من فمي راجيةً بدء الأذان ، بأن يرتفع مرة واحدة ،يعلن بان موعد العودة إلى المنزل سيكون بعد لحظات ..ثم ما أن تتعلق بأذني رياحه الحانية وتكبيرته المتميزة حتى اغلق كراستي واضع أقلامي داخل حقيبة بالية مستعدا لمغادرة مدرستي البعيدة إلى منزل تهدمت أجزاؤه الصغيرة ..أغادرها مطبقا عيناي ، تقودني نسمات هواء متعب إلى ذلك المخيم متنفسا الصعداء بانتهاء الدوام المدرسي دون وجود حواجز تمنعنا من العودة إلى بيوتنا .

صوته البعيد جاءني أثناء سيري مع زوجتي صاحبة الوجه الطفولي و الجسد ممشوق القوام وقتما أغلقت جفنيّ محاولا استرجاع ذكريات حانية صارعتني في طفولتي الرقيقة ..استرجعها حدثا تلو الآخر ..كيف كان صوته منبها لي بموعد الانطلاق إلى الأزقة الضيقة حافي القدمين ،وساعة اعلم به متي ساكون على مائدة طعام لا تحمل فوقها سوى صحن قديم يحمل صنفا من طعام يتكرر كل يوم ،كان شهيا رغم كونه روتيناً منذ مساء ولادتي ،نلتف جميعا حوله ،نتهافت عليه كالذباب، نتعارك حتى تصل اللقمة إلي حلوقنا .. يضرب بعضنا الآخر ..اذكر أنى يوماً قد ركلت ابن عمى بقدمي حتى سالت دموع غزيرة من ملقتية الداميتين .. أي حنين هذا الذي يخترقنى الآن ، يطوحني ، نفحات غريبة تلك التي أحدثها في أركان جسدي فارع الطول .. علائم حزن تنبثق رغما عنى .. خيوطها تنسل على أهداب بكت كثيرا ،و تأوهت طويلا، افتح عيناي محاولا استجداء حاضر لم يعطني شيئا للكف عن هذه اللعبة ، ابعد عنى كل ما يذكرني بحرمان قديم ،لكن ترنيمته تترنح في قلبي المتعب ..استجديني ، أتململ ، أخاطب نفسي متمتما ثم انظر إلى وجه رفيقتي متبسما خشية من ظنون قد تقتلها بأنني أهذي أو أصابتني حمى الجنون .. ابتسم إليها و صوته لا يزال يهتف : الله اكبر الله اكبر .

00000كنت قد ذهبت إلى المسجد يوماً ما ، لكنى لم أره ، لم أعرفه أو أتشرف بإلقاء نظرة طويلة على وجهة المنبسط ..وددت أن اشكره من أعماقي المترعة بذكريات حافلة بماض عريض ثم أرجوه أن يكرر النداء حتى استيقظ وارى معالم جسدي الآخر بضا ، لطيفا .. خاليا من شوائب تقطع سكوني المتواصل في هذه الرحلة المقفرة .

ابتسم ، اضحك .. أتمادى في ضحك هستيري لا ينقطع ، و صوته لا يزال يقترب .. يقترب .. يخترق روحي المستسلمة .. يتقدم شيئاً فشيئاً ، بينما يضع حفيدي الصغير يده بحنو على فمي المتشقق ، تمسكني زوجتي مقوسة الظهر و في يدها عصا قديمة تتكئ عليها منذ زمن العبور الأول و الضحكة الأولى لأسقط مترنحاً و معي تجاعيد الوجه المتعب حيث القبلة الأولى و المكان القديم .