لسان الحال
ياوز آجار /تركيا
عاد أبو بكر بسيارته من التسوُّق مع أولاده، فأوقفها أمام المنزل، ثم نزل ليلقي نظرة عليها. وبعدما أجال عينيه على سيارته بضع ثواني لاحظ حالتها، فقال لأولاده:
- سيارتي تنطق بلسان حالها "إني قد توسَّخت كثيراً، فاغسلوني"
تفطَّن الأولاد لمرمى كلام أبيهم، فوعدوه بأنهم يغسلونها بعد تناول الفطور.
وأخيراً دخلوا جميعاً إلى البيت؛ فانزوى حامد في مكانه المعتاد من المكتبة ليخوض في عالم الكتب، كما توزّع الآخرون إلى أماكنهم من البيت. وراحت جميلة وحبيبة تشاهدان التلفزيون. وما مضى وقت حتى دعتهما أمهما للمساعدة في إعداد الفطور. أما أبو بكر فمضى يطلُّ من النافذة على سيارته، واستطاع أن يقرأ من هنالك الكتابة المسطورة على الشباك الخلفي للسيارة:
"بالله عليكم، اغسلوني"
لعلَّ أطفال الحارة كتبوها لعباً ولهواً.
ثم جعل أبو بكر يفتّش بنظراته داخل البيت وخارجه، ليجد ضالّته. فأدار رأسه صوب الشُرْفة، ليقع بصره على أصص الزهر هناك. ثم راح ليفتِّشها، فوجدها قد اصفرَّت واحترقت تحت حرارة الشمس، لذا بدأ يصيح بصوت عال:
- يا جماعة! تعالوا إلى هنا جميعكم.
اتجه أفراد الأسرة حتى الأم مسرعين نحو الصوت ليتفقّدوا أباهم. وعندما عاينوه في الشرفة قالوا:
- ماذا حدث يا أبانا، لماذا هذه الصيحة، هل من أمر نقوم به؟
رد أبوهم لافتاً انتباههم إلى الأزهار:
- ألا ترون – مشيراً بيده إلى الأزهار- ماذا تنطق هذه الأزهار بلسان الحال؟
بدأ الجميع يتضاحكون بصوت خافت، ثم قال أصغرهم:
- تنطق الأزهار بلسان الحال "أننا عطشانون جداًّ، فاسقونا بماء".
فطلب منهم أبوهم قائلاً:
- إذن هاتوا زجاجة ماء، لنصبّه في جذورها، حتى تنتعش وتشتدَّ الأزهار.
وبعد قليل، لبّى الأولاد طلب والدهم، وعلى إثر ذلك، تقدّم الوالد بالشكر والتقدير إليهم، ورجا منهم أن يسقوها من وقت لآخر. بينما قال أوسطهم الذي يتمتّع بروح المداعبة ممازحاً لهم:
- ألا تسمعون صوتاً؟ فبطني يصيح، بل يصرخ بلسان الحال "أني جوعان، فأطعموني"
وقد بدأ يألف ويعهد جميع أفراد الأسرة بالحديث عن لسان الحال، وهذا هو ما أراده أبو بكر تماماً؛ إذ كان خطَّط في نفسه منذ البداية ليمهِّد الطريق من هذه الأمور إلى الحديث عن أمر آخر، وقد نجح في ذلك، حيث أثار فضولهم في الموضوع.
واستأنف أبو بكر حديثه من جديد:
- يا أولادي! بعد تناول الفطور سأقصّكم قصة حقيقية وقعت أحداثها قبل أربعة عشر قرناً تقريباً.
وبذلك أثار أبو بكر فضولهم إلى آخره، ونشَّط هِمّتهم، وأيقظ شوقهم إلى سماع ما سيقوله بعد الفطور، فبدأوا ينتظرون القصة بفارغي الصبر وفي شوق ولهفة لا ينتهيان.
بسطت الأم مع ابنتيها السفرة، وساعدهنّ الأبناء في إحضار موادِّ الفطور. وبعدما انتهوا من تناول الفطور، انحدرت من شفتي الأم كلمات الشكر:
- الحمد والمنَّة لله، وأشكركما يا جميلة و حبيبة، وأشكركم جميعاً يا أولادي!
- بل نحن نشكرك يا أماه!
أراد أبو بكر أن يستثمر الوقت جيِّداً فقال:
- هيا يا بناتي، اطوين المائدة، حتى نبدأ بالقصة.
استعدّ أبو بكر، وقدّم القصة بمقدمة، فشرع يتكلَّم وأفراد العائلة يستمعون إليه في صمت وهدوء:
- لكلِّ مخلوق في هذا الكون، من حيٍّ أو جماد، لسان يخصُّه، ويتكلَّم به، ويتصل من خلاله مع أبناء جنسه. وعدم تمكّننا من سماع الأصوات كلَّها، وعدم اقتدارنا على فهمها لايعني البتة ليس لها ألسنة تنطق بها؛ وذلك لأنه ليس لأذننا طاقة لتستوعب جميع الأصوات التي تَصدر من الأكوان المختلفة في الجنس والحجم والشكل، كما ليس لعقولنا قدرة لتفْهم وتعي دلالة كلّ صوت. فكم من صوت لا نسمعه، وكم من صوت نسمعه فلا نعيه، ولا نحلّ أسراره. فالسموات وما فيها من رعود، وبروق، وسحب، وما إلى ذلك، والأرض وما عليها من جبال، وتلال، وأشجار، ونباتات، وأشياء وأحياء متنوّعة لا نعرف أكثرها، وما فيها من بحار، وأنهار، ومن يعيش فيهما، ومعادن مختلفة... الخ تُصدِر أصواتاً مختلفة في موجات متباينة. إن جمعناها في مجمع أو صعيد واحد، فضممنا بعضها مع البعض الآخر لتكوّن من هذه الأصوات لحن كوني منسجم متناغم يذهل منها العقول وينشرح لها الصدور. فقد قال الله - تبارك وتعالى -:
(خشعت الأصوات للرحمن، فلا تسمع إلا همساً) (طه: 108).
كما قال تبارك وتعالى -:
(تسبِّح له السموات السبع والأرض ومن فيهنَّ، وإن من شيء إلا يسبّح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنه كان حليمًا غفورًا). (الإسراء: 44)
والآن إليكم القصة:
عن أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه - قال: "إني لشاهد عند النبي - صلى الله عليه وسلّم - في حلقة، وفي يده حصى، فسبحن في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحهن من في الحلقة" (الطبراني والبيهقي).
- وكذلك يقول رسولنا الحبيب - صلى الله عليه وسلّم –:
"إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". (مسلم، أحمد)
- وهاتان الروايتان موافقتان لقوله تعالى في الحجارة:
(وإن من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، وإن منها لما يشّقّق منها، فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله). (البقرة: 74)
- تسبيح الحصى في يد النبي - صلى الله عليه وسلّم – وتسليم الحجر عليه من معجزاته التي أجرى الله تعالى على يده، لتكون آية لصدق نبوّته، ودعما وتثبيتاً له وللمؤمنين الذين صدَّقوه وآمنوا به. وهو يدلّ أيضاً على أن للأشياء – ولو كانت جامدة – ألسنة تتكلّم بها وتذكر خالقها بألسانتها.
وهنا طرح أبو بكر سؤالاً على أولاده:
- ولكن يظلُّ هناك سؤال يلحُّ نفسه، ألا وهو أين يكمن وجه الإعجاز في تلك الحادثة؟ فمن يجيب على ذلك؟
استأذن حامد ليردّ على سؤال والده، فقال:
- يا أبت، بما أن لكل ّشيء في الكون لساناً خاصًّا يذكر به خالقه على وجه الدوام، فلا يمكن أن نقول إن ذكر الحصى وتسبيحها هما المعجزة، كما يحلو لمتعجّل لأول وهلة، لأن الحصى تذكر الله وتسبّحه حقيقة دون انقطاع بألسنتها الخاصة، فلا عجب ولا غرو في ذلك، وإنما وجه الإعجاز يكمن في ذكر وتسبيح هذه الحصى بلسان الإنسان، وأن يسمعها الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين - ويفهمها.
وختم حامد قوله هكذا:
وبما أن الأمر كما وصفنا، فإذن يجب على الإنسان الشاعر المريد أن يشترك مع الكون الطائع المطيع في هذا اللحن الأبدي
استحسن أبو بكر جواب ابنه، وقال:
- بارك الله فيك يا بنيَّ! أشكرك، أحسنت! لا يمكن أن أعلّق شيئاً إضافياً على تعليقك هذا، سوى الاشتراك فيما قلت.