بشر و لكن...
" بشر و لكن... "
يمان رياض حكيم *
عرفتها فتاة عاشت الحياة بمعناها, كانت البسمة لا تفارق ثغرها, و الضحكة لا تنفك من شفتيها. تحب الربيع, تحب الأزهار, و خاصةً الورد الجوري الأحمر اللون, كانت تركض هنا و هناك تلعب مع هذا و تمزح مع هذا تحب الجميع, كانت تكره الظلمة و تحب ضوء النهار, بل إنها طفلة بكل ما تعطيه هذه الكلمة من معان.
دارت الأيام و هي ما تزال على هذه الحال حتى أتى ذلك اليوم, ذلك اليوم عندما استيقظت من نومها رأت الظلام قد عمّ المكان بكامله, و كان ذلك اللون الوردي الجميل قد مزق ليتراءى من خلفه السواد الداكن, و الظلام الكالح. دبّ الرعب في أوصالها و أخذت تركض هنا و هناك. تركض خلف السراب الباقي من ذلك اللون الوردي الجميل و لكن دون جدوى, كانت كلما وصلت إلى نقطة معينة يتلاشى ذلك اللون ليظهر السواد من جديد, و لم تجد نفسها إلا و هي تصرخ ماذا حدث ما سبب ذلك السواد؟ ما سبب ذلك الخوف و الغضب الذي يحيط بها من كل جانب؟ فجأة سمعت صوت قهقهة مرعبة من بعيد زادت شعور الخوف في داخلها فجلست في زاوية و ضمت رجليها إلى صدرها و هي ترتعش من الخوف, و كان ذلك الصوت يعلو و يعلو حتى أصبح على مقربة منها فرأت خيالاً أسوداً كالحاً مخيفاً مريباًُ :سألته بصوت مرتجف من أنت؟ فأجابها من أنا؟ الآن ستعلمين من أنا و إذا بمشانق معلّقة و الحبال تتدلّى منها, فسألت لمن هذه؟ فضحك ضحكةً مخيفة ثم رأت أناساً يتقدمون نحو هذه المشانق, فقال لها: الآن سأعرّفك على هؤلاء الناس مع أنّك تعرفينهم حق المعرفة.ثم دفع الأول و قال: هذا ما يسمونه اليوم الإنسانية فعلقه على الحبل ثم سحب الكرسي من تحت رجليه, ثم تقدم نحو الآخر و قال: هذا ما يسمونه الصدق و فعل معه ما فعل ثم تبعه الوفاء بالعهد و الأمانة و إيثار الغير و وصل عند الأخير و كان شيخاً كبير السن له لحية غطت وجهه و النور الأبيض يشع منه كان يرتدي البياض و يضع العمامة الخضراء فوق رأسه – فدفعه فتعثر في مشيته و كاد يقع على الأرض و قال و هذا ما تبقى اليوم من الإيمان فصرخت بأعلى صوتها : لا لا تفعل أرجوك. و لكن كان الأوان قد فات و انتهى ثم تركهم ذلك الشيخ و دار بوجهه مختفياً عن نظرها و هو يضحك و قهقهة صوته الأجش تختفي شيئاً فشيئاً, فركضت خلفه و هي تقول ماذا فعلت لقد قتلت أغلى شيء في حياتي و راحت تشده من ذيله و تقطعه و لكن دون فائدة ثم تركته و طأطأت رأسها على الأرض و أخذت تبكي و الدموع تهطل من عينيها بغزارة ثم رأت ناساً: مقدمين فركضت نحوهم علّهم يستطيعون أخذ ثأرها بل ثأر الإنسانية جمعاء من هذا الشيء. ركضت نحوهم و راحت تهزهم بعنف و تقول انظروا ماذا فعل ذلك الشيء بكم انظروا ماذا قتل و لكن دون فائدة و كأنّهم في سبات عميق و بعيدة عنهم كل البعد فجاءها ذلك الصوت ثانيةً من بعيد و هو يضحك ضحكةً ساخرةً : أيّتها الحمقاء أنا أعيش في كل واحد فيهم بل و أحكمهم و لا يستطيعون الخلاص مني مطلقاً. فقالت له لا لا أنت كاذب و أخذت تهزهم بعنف شديد و لكن دون جدوى بل على العكس انفضّوا من حولها و تركوها وحيدة.
وجدت نفسها وحيدة وسط هذا الظلام و الجثث من حولها و فجأةً ركضت نحو حقلها الذي كان مليء بالورود الحمر ثم قطفت لكل واحد منهم وردة و وضعتها بين يديه ثم فكت الحبال من حول رقابهم و ضمتهم إلى صدرها بل حفظتهم في قلبها الصغير الضعيف الوحيد و هكذا عادت أدراجها أصبحت لا تخالط الناس تتركهم لتجلس مع الذين سكنوا في قلبها أصبحت تحب الليل و ظلامه تجلس و تتأمل في السماء تراقب النجوم تدعو ربها سرّاً و علانية أن يعينها على هذه الدنيا و هؤلاء البشر الذين قست قلوبهم منذ أن سكن ذلك الشيء في داخلهم انفضّت عن العالم لتجالس نفسها, و تخلو بربّها.
ترى من هذه الفتاة سألت نفسي فلم أجد الجواب كل ما أعرفه أنني أعرفها بشكل جيّد و كل ما أعرفه أن هناك في داخلي دافعاً دفعني لأكتب عنها و أنشر قضيّتها.
ربما تكون تلك الفتاة في داخل كلّ منّا و لو بحثنا في الأعماق لوجدناها تجلس هناك و تنتظر ذلك النور الذي سيتراءى لها من السماء إنّه النور الإلهي.
* أديبة سورية من حلب