الصفر..
الصفر..
أحمد ضحية
(الى
صديق جميل . عارف باسرار الصفر : علاء الدين بشير..
محبة وود .. انها , لك .. انت , وحدك .. لا شىء ..)
قالت لها العرافات : (ستخرجين
من عتمتك الى اشراق , يملؤك بالنور . فلا ترين سوى دربا اخضر , وجدر تسلقتها نباتات
الخريف, وبين بين نهرين من اللبن والخمر , على ضفافيهما تنهض اشجار المانجو , التى
تغرد بين تلافيفها الطيور الملونه , وتجلس تحتها الطواويس والغزلان ..
ستخرجين من عتمتك الى بوح ندى , يخاطبك الناس بالشعر , فتتكلمين بلغة العصافير ,
وتدركين اول الانبياء .. تحكى له عن طى الزمن , والمسافات , والوجوه المغبرة ,
وعكرة خلفتها وراءك . فيبادلك الحكمة , ويبتسم ثم يسجد ..
تنتظرينه وتنتظرينه , لكنه لا يرفع من السجود . فتغادرين الى الاشراق .. ) ..
خرجت خديجة من الغرفة المعتمة , دون ان تعير ولد العرافة الصغير , المتكىء على
مواربة الباب , التفاته . مضت فى الدرب الملتوى , تتجنب المستنقعات والبرك الصغيرة
, فى الزقاق المظلم . وتخشى ان تهاجمها كلاب الحى على حين غرة ..
وهى تخلع ثيابها حائلة اللون , لترتدى قميص نومها الداكن , الخشن , سالتها امها
بلامبالاة :
* اين تاخرت كل هذا الوقت ؟!..
فاجابت باقتضاب وهى تستلقى على سريرها :
* اخذتنى مريم الى جدتها العرافة ..
كانت صديقتها الوحيدة مريم , قد الحت عليها , بالذهاب معها الى جدتها العرافة , ذات
المهارات المتعددة __ ( فهى تخط الودع , تقرا الكف , تضرب الرمل وتفتح الكتاب ..
بعد ان تضع اعواد البخور , على المباخر العديدة المنتشرة فى الغرفة الضيقة ,
الصغيرة , بضؤها الكابى , الموحى .. ليتصاعد الدخان السحرى , محيلا الرؤية الى
ضبابية , متقشعة . مسربا الخدر , والاحساس بالوجع اللذيذ . الخفى . فى كل شىء ..حتى
قطع الاثاث العتيقة ..
كانت مريم دهشة للسؤال الذى يطرحه حال خديجة , فهجست بالاجابه عن هذا السؤال .
باحضارها الى جدتها , ولية الله الصالحة بنت يونس , التى ولدت مختونه , وعزفت عن
طلب الرجال , الى ان تقدم بها العمر , وصارت من القواعد .. لكنما , ماء شبابها ,
كانه لم يغيض . اذ لا تزال نضرة , لم يغشاها غضن , ولم يخط عليها شيب .. وعندما
حدثت مريم جدتها . تبسمت الجدة عن اسنانها الناصعة , المكتملة
, ولم تنبث ببنت شفة ...)__ فى البدء رفضت خديجة الذهاب , ثم لانت . كأن قوة خفية
نهضت فجاة , لتدفعها دفعا .. وعندما خرجت من غرفة الجدة , كانت مريم قد اختفت من
الصالة , حيث تركتها قبل ان تدخل على الجدة , التى مضت بها فى دروب ذلك العالم
البرزخى , تدفعها دفعا لقطع وهاده وسباسبه , الى ان توقفت عند شجرة ( اللأ لوب) فى
المنتهى .. فتركت خديجة تسير وحدها , كطيف سابح فى بحر من النور الكلى ..
لم تبحث خديجة عن مريم , وغادرت بيت الجدة فى عجلة , وهى تتعثر فى قطع الاثاث
بطريقها . دون ان تشعر بها . الى ان لفحها تيار هواء بارد , فادركت انها بمنتصف
الزقاق المفضى الى الشارع الرئيسى ..
كانت خديجة منذ طفولتها كغزالة نافرة , فعندما تبدأ الفتيات فى لعبة ( الحجلة او
عريس وعروسة , الخ ..) تقصى نفسها ك ( وزينه ) على ضفاف بحيرة شاسعة . لا تريد
التوغل .. تتركهم يمرحن
( الزارعينا فى كبد البوصة .. نى , نى .. مونجيض ,,
الطير كلى البرسوسة ...
الزارعينا فى كبد الغابة .. نى , نى .. مونجيض ,,
الطير كلى الورتابه .. )
وظلت هذه الانشودة , تعزية وحدتها . منذ ذلك الوقت . وكانت حين ترغب فى فصل نفسها عن العالم حولها , تتوغل متسحبه الى داخلها وتدخل فى حالة لا شعورية , وتبدأ فى ترديد انشودتها المحببة , بصوت عميق , ملؤه الاسى واللوعه . كأن طقسا بكامله , تؤديه جوقه من الرهبان .. الى ان يخترق صوت مريم كالمعتاد , فى كل مرة عالمها الطقسى :
( الناس عرسو .. انا فى النميم يا يابا ... )
هكذا تشرخ مريم عالمها فى كل مرة , فلا تملك سوى ان تنظر اليها بمحبة , وتمسح حبات العرق من وجهها , وتبتسم دون تعليق ..
سنوات غربتها تمضى بخطى وئيدة , كتسحب الشمس شيئا فشيئا , قبل ان تغيب . وطفل مريم الذى ارسلت لها صورته - فى السنة الاولى لولادته - يكبر . يصير صبيا , وسيما . تطل شقاوة امه من عينيه . تبتسم خديجة عند هذا الخاطر , وتدخل اخر الصور -التى ارسلتها لها مريم قبل شهر , للصبى الذى صار شابا اليف الملامح , صبوح الوجه - فى اطار مذهب حذاء التسريحة ..
فى غربتها المترفه تنفتح حياتها على بوح قديم , ظنت انها خلفته وراءها .. بوح يطل برأسه من رحم الماضى , بين آونه واخرى .. يخز رغباتها الغامضة : التى ليست لديها فكرة واضحة عنها , فقط محض رغبة فى التلظى والتشظى .. تخرج منها الى صلوات سرية طويلة , تختمها بتلك الانشودة التى تحبها , دون ان يخترق صوت مريم عالمها الطقوسى ويشرخه ...
تتفجر كوامن شجنها لوجه غامض , تعرفه ولا تعرفه . يجىء بملامحه المبهمة , من خلف ضباب المغيب , لحظة ما قبل الفجر الغامضة ...
يصبح
كيانها كله مشدودا كوتر كمان , عميق الجرح والآهة , اسيان كندى فجر شاحب .. يخرج
ابن مريم من الصورة , يعزف حتى تكل يداه من العزف المنفرد , فيتوقف عن العزف ,
وتخرج مريم , من سطور الخطاب .. تشد الوتر - وجدان خديجة - وتعزف نغما مألوفا , عن
الشجن والترقب , فتهتف فيها بكل التحفز العميق : ( انه هو ) !.. فتتوقف عن العزف ..
تستند على ساق النخل , كالمنهارة . تدخل فيه , تتلاشى !!.. وعبثا يطول انتظارها
لخروج مريم .. كانت مريم قد احتضنت ابنها , وغابت فى سطور الخطاب ...
تعيد خديجة الصورة الى التسريحة , تلوكها الهواجس والظنون , فتحترق بنيران الاسئلة
, الى ان يأخذها النوم , وتمضى بها الاحلام الى عالم مضىء .. تتلفت حولها لترى مصدر
الضؤ , وعبثا تبحث .. فاضاته من اللا مكان : لا شرق . لا غرب , لا شمال او جنوب
..تتسلق حائطا اخضر . يبدو لها ناعما . وتسبح بعده فى نهر الخمر . تتشرب مسامها
بالخدر . وتتسع رؤاها ورؤيتها . , فتدرك الضفة الاخرى منهكة , وهى بين الصحو والنوم
, تحط على كتفها يمامة , وتقترب غزالة , لتجلس اليها فى حنو . تحكى لها عن الذى
وجدته ملقى على شاطىء البحر , وحيدا , ينضح بالعذاب . فسقته من ثديها ( كان ينضح
بالعذاب !) .. تؤكد , فتقول اليمامة : ( العذاب غسول الصالحين ) .. وتحلق , تحلق ..
لتجد خديجة نفسها بين منزلتين ...
لطالما حلمت فى تلك النهارات البعيدة , بوجهه غجرى الملامح . يأخذها من قلب حلقة (
الذكر ) , ويمضى بها فى مسارات غائظة بالتوجس , مشحونه بالمغامرة , بين احتمال موت
جدير بحياتيهما , وحياة لا تدركها تلك الهواجس , التى عانتها فى اسى والتياع ,
بانتظاره المضن !!!...
كطاقة بعث - كانت حياتها - تخرج من قلب دهاليز التاريخ وازقته وحواريه , فى مدنه
المدفونه .
طاقة تتفجر هكذا , كبركان . تجتاح حممه كل شىء . لتدفعها دفعا لارتياد عوالم لا
تدركها . فقط تحسها . وتكاد تتلمسها . باناملها التى ترى ما لا يرى !!!.. ..
حاولت ان تغلق قلبها دونه , لكنه ينفتح على شبح وجهه , غامض الملامح . وجهه المحزون
. بخزلان حوارييه . وخيانة الصديق القريب .
وجهه المندفع من عالم سرمدى , بعيد , بعيد . لا تدركه الابصار . .. فتهتز خديجة
كنخلة , فى مهب الريح , يحاصرها التساب .فى غمرة الادراك لوجودها غير المدرك
..وتمضى فى رحاب عالم تصله ولا تصله . واذ تصله لا تجده . وهو فيها . وهى فيه .
يتماهيان . فلا يصبحان واحدا . بل صفرا . مركزا للواحد . . وواحدا على هامش الصفر
.. ( تتوحد ) فيه , للتلاشى , معا . ولا يعود لهما وجود : ( صفر ) .. وخز شفيف وشقى
, يجبرها على طرد هذا الخاطر , وخز يتكون كدمل . يتحفز للانفتاح على نافذة متربة .
بتعاقب الفصول . ..
لثمة خفية تنزعها من مكانها , تتلفت حولها , وتستكين . خدر , بلسم يهدىء صبوتها ..
عذابها الجرح .. فتترقب وجهه اكثر , وجهه الغامض يلوح من شفق المغيب , فجأة , كما
صعد فجأة , تاركا صالبيه : حيارى , وهم مروعين مما شبه لهم , فى ذلك الفجر الذى
ينذر بالمخاوف - .. يمضى بها , يعلق احلامها , ويعزف على الكمان , اغنية الانتظار -
للتى طال انتظارها الجرح العذاب - لمخلصها من عذابات الوصول (العذاب .. العذاب ,
غسول الصالحين ..) .. تضج بانين الشجن , وتأوهاته , الم الغربه , القاحلة
واحتراقاتها .. هذا الموت الذى يدنو منها , ليقودها الى ( الفناء ) , مبددا
تصوراتها ..
ذاك الوجه الغامض , الذى يتبدى عن اوتار الكمان , وتلافيف الشجن عصى البوح .. يقلق
وحدتها .. تتشظى به , فيمضى اكثر لوعه والتياع , ويمضى ولا يجىء .. يغيب فى سرمديته
...
وتحت وطء الانتظار تغوص , فى ارخبيل شائك . يدفعها الشوق . تعبره ملأى بالجروح
المتقيحة , تتمدد تحت نبات( اليقطين ) .. تتشكل معهما ( هوية واحدة ) : - محض نور
...
اطل وجه العرافة المقعدة , كانت منتصبة . تتقدم تجاه خديجة ببطء , تعبر اليها من
مكان بلا ملامح , حيث تقف فى الغياب .. تبدل وجه العرافة , حل محله وجه ابن مريم
شابا فتيا , متلفعا ببردة الكتان , الناصعة ذاتها .. تقدم منها فاتحا ذراعيه ..
لحظتها كانت احلامهما ( هى ومريم ) قد غلب عليها الغموض و الالق ..
كان قد اقترب منها .. استحالا الى لا شىء . تبددا فى الضؤ , الذى يغمر اسقف البيوت
الواطئة , الشجر , اوكار الطيور , جحور القوارض , حظائر الحيوانات الاليفة , ووجوه
المارة .. عابرى السبيل ...
تتلاشى ذكرياتها القديمة , لتتشكل اللاذكريات . يتلاشى الحنين الى الحنين . ذكريات
الطفولة , شارع البيت , اشجار الحوش الكبير , قهوة منتصف النهار , الطريق الى محطة
المواصلات وعاصمة بلادها الملبدة بالحذر .. حنينها لاسرتها , لعالمها ذاك .. الناس
والاشياء .. يتلاشى كل شىء .. يتشكل فقط وجه الحبيب , فى بردته الكتان , الناصعه .
يقترب شيئا فشيئا الى سطح عالم الحنين المنهار .. ليحل مركزا لوجودها وكيانها وحسها
.. يلعبان اللعبة ذاتها : يكر فتفر . تفر فيكر .. ويدهمها ليلا ليخطف منامها ,
ويقطف وردة جرحها , ليغذى الحنين من بوح تلك اللحظات الغامضة , التى ربما عاشاها او
لم يعيشاها معا او عاشتها خديجة لوحدها !.. فقط تشعر خديجة بمريم , تتقمصها ,
وابنها يحتضنها حتى تئن ضلوع خديجة . ويغلبها التمزق والارهاق , فتغرق فى النوم ...
احلامهما ( هى ومريم ) غلب عليها الغموض والتوجع , المستمد من اعماق غربتيهما ,
ركاميهما , البلى الذى حاصرهما , وكل التخثر الذى حاولتا تمزيق اغشيته , للافلات من
تبدد الزمن والمكان , والشروع فى الحلم ...