ظلال الرجال

قصة: يسري الغول *

[email protected]

تحت الشجرة تعانقنا ، دعونا لأنفسنا بالنجاة من غرق الأرض  ، نقشنا حروف أسمائنا على أغصان الزيتون ، رسمنا وردة محاطة بالشوك ، ثم افترقنا .

كنا أربعة ، خامسنا كلب أخي الهزيل ، أولنا جاء يوم هبت الريح عاتيةً ، صرصراً في جو السماء ، و كنت أنا الذي يليه .  لم أكن مثل الآخرين أبداً ، أمي نادتني بـ"مخيريق" ، وأبي دعاني " بإلياء " ، الجميع بعدها نعتني بذي العيون الدامعة ، و الغريب في ذلك هو أنني لم أكن أبكي مطلقاً ، كنت حجراً أصماً ، لا أتكلم ، لا أتزحزح من مقامي إلا عند نشوب المعارك ضارية في القرية حتى جاء أخونا الثالث ، حضر زاويتنا المهددة بالانقراض ، كبر حتى اخضلّت لحيته ، و في أسبوع واحد فقط بانت أسنانه ، تقوست حتى أصبحت كأضراسي التي صارعتُ بها لأعوام كالضواري التائهة . وُلد ضعيفاً ، هزيلاً و حل معه القحط بيننا ، فتر الماء في الأرض ، مالت الشمس نحو أرواحنا ، أطبقنا على صمتنا ، طفنا الأرض جيئةً و ذهاباً دون أن نجد الماء ، صلينا ، بكينا ، بكيت و كانت المرة الأولى التي يطفر فيها الدمع من مقلتيّ الناعستين ، و في المساء تغطت قريتنا بنواميس الظلام ، أطبق الليل كما لم يكن من قبل ، أخرجنا أصابعنا الشوهاء حتى لم نكد نراها ، هذت أمي بالموت القادم من الغرب ، ترنحت ، أسبلت جفنيها في سقف خيامنا ، استحلبنا ريقنا ، بلعنا صمتنا ثم نمنا . و في الصباح كان أخي الرابع يقبل مع انتهاء الحليب في ضرع بقرتنا الصفراء ، الفاقع لونها . وُلد و الحرب على الأبواب ، أوشكت اجتثاث أرواحنا . القذائف تطير ، تتساقط ميتة . و الهرب من دوامة الصفر أضحى ضرورياً جداً ، خرجنا و أجفلت أمي عن فعلتها المريعة ، تساقط الحليب من ثدييها على وجوهنا ، أخبروها بأن الرجل إذا لم يصبح كذلك فسيموت شوقاً لآلام الانهيار .

كبرنا جميعاً في آن واحد معاً ، كان الفيصل بيننا أعواماً قليلةً . فقط كنت أنا المتخلف عنهم ، تحيطني هالة من الحب و المجون . أرعى بقرتنا حتى المساء ، أعود ، تتلمسني يد أمي الحانية ، تبتهل إلى الله من أجلي ، تصلي ، ثم في الصباح تفطر على قطرات الماء القليلة و حبات البصل الناشفة . لم يكن هناك القمح ، اختفى عندما ضعنا في زحام شوارعنا ، تركنا متاعنا ، كؤوسنا و عدنا ، رجعنا نحمل همنا ، مات الرجال أمامنا ، تخبطوا في أزقتهم ، تضجروا بدمائهم . و عدت صغيراً مع أخوتي بين أقدام والدينا ، مات أبي منتحراً بحزنه ، و بقيت العجوز تهدهدنا ، الشجرة مالت نحو الجنوب ، تبايعنا تحت ظلها ، و الكلب تمدد منصهراً في حزننا حتى مات . تقافزنا تجاه دهاليز محيطنا ، ارتفعنا ، انخفضنا ، و جاء العام المنتظر ، هتف الحكيم ، قال :" إنه العام الذي فيه يغاث الناس ، و يعصرون " . تهالك الماء إلى حلوقنا ، أمطرت السماء تحت ظل وجوهنا ، امتلئ البئر و صعدت الروح إلى الجسد ، أنبتت الأرض بعد قحط . تواردنا إلى البحر الممتلئ في مزارعنا ، سقينا الحقول الباهتة ، ماجت الصحراء ، اضطربت ، تفسخت حتى بانت الشقوق كما وجوهنا المتألمة . عشنا هناك دهراً . ماتت الأم في روح الانتظار القديم ، أعطتنا مفتاحاً صدئاً ، أوصتنا بأقفال غرفتها الوارفة ظلال الصورة و العودة بقبرها إلى هناك حيث خيام الأرض المخضبة بالدماء ، و في مزارات الزمن تهنا ، تفرقنا ، تعاهدنا على اللقاء ، و افترقنا . ظلت الشجرة تحفر أسماءنا واحداً ، واحداً . غادروني و بقيت محاصراً تحت ظل أمي أحرس قبرها . انطلقوا يتتابعون مسافرين ، مهاجرين عن الأرض اليباب . غار الأول مع طيف ظلامنا . و في عام الظلة اختفى ، لم يحترق بنارها كما أُشيع . فقد تواردت الحكايا بشأنه ، هلاكه حتى صدقتهم ، ليلتها رأيته في منامي ، يقظتي ، يبتسم ، يهتف :

-         أيها المجنون ، أوتظن أنني سأموت معهم هناك .

اختفى ، انتهي صوته ، و أنا بجوار الضريح أتألم لفراقهم ، أتضرع لنجاتهم . حل الهزيع الأول من الليل و سافر الثالث إلى بلاد الرماد البعيدة ، التي لم أكن اعرفها أبداً . انطلق يجتاز سباق المسافات التائهة في جسر جروحنا . و هناك مات ، قتل ، أُغتيِل على أيدي الدَرَك ، ، انبئتني أمي بمقتله عند بوابة الطريق إلى البلدة ، و أنا هنا بكيت ، لم أتوقف عن البكاء حتى غادرت حبيبتي و الدمع يرزح تحت قدميها ، تمنيت لو لم يخرج ، ينتقل إلى بلاد العدوى المميتة ، جاءوا به جثةً متفحمة . قبّلته ، و الرائحة تحفه ، لم نضع عطراً على جسده ، كانت رعاية المبدع في خلقه تتلمسه ، مِسك ينتشر في فضائنا ، هلّل الرجال حينها ، كبّروا ، زغردت النساء ، هتفن بشهيد اليوم الأربعين في ضريح الأشهر الثمانية . وضعته في قبره ، و في الدرك الأسفل من الأرض حفرت خندقاً أنتظر نبأ مقدمهم جميعاً . سقطت في وحل البكاء ، و بدأت أبكي بحنق ، رغبة عارمة في النشيج تبدت مع ظلال الذاكرة . أخي الأكبر الذي لم يعد ، الصغير التائه في لوحتنا ، و الميت في قبري ، حتى كلبنا الوفي بكيته .

صرخت حتى اهتزت الأرض ، ضجت . خرج الرجال بملابسهم الممزقة ، العارية من لحومهم ، دمائهم ظانين بأنه الزلزال المنتظر ، أطلقت لصوتي العنان حتى هاجت البسيطة ، ماجت ، خرج الجميع حفاةً عراةً من أبراجهم ينبسطون في سكون الشوارع المجهدة ، كان الزلال ندائي المستغيث . تحطمت أوداجي ، وجهي ، حتى أخذ الجسد يهرم شيئاً فشيئاً . باتت لحيتي كثةً ، مخيفةً . لم أستطع أن أقوم من مقامي القاحل . أردت الشجرة ، لقاءهم هناك ، إدراكهم . انتصبت على هراوتي البائسة ، ووجه الأخير يغادرني في طفولتي المتأخرة . وعدته باللحاق به بعد تطهير قبور أوليائنا من شوائب الريح ، وعدته و أخلفت موعدي القديم . سافر و لم أعد إنسانا كما كنت . خشيت الاضطرام في صهد الاشتهاء المر . ألبسته درعه ، أسداله ، ثم أوصيته بالوصايا العشر . ذكرته بجدته المتلفعة ثوب بركانها ، قبّلته ثم انطلق متخلفاً عن بلاده . جثا في أعماقي ليلتها مشتعلاً بالهموم ، ووحدي بقيت . سقيت الزرع من دمائي المنتفضة . مر عام ، ألف عام و لم يحضر أي منهم ، بدأت الشجرة تشيخ ، أصاب أغصانها الهرم ، تحطمت أجزاؤها المنسابة مع ألوان قزح الطاهرة . لكنها بقيت شامخة ، رأيتها قبل أن يأتي الرجال بآلاتهم ليقطعوها .

الليلة كانت الشجرة تغرق في ماء النهر مسافرة إلى بلاد لا أعرف طريقها . تودعني بأغصانها و كأنها تنتظرني بأن أعتليها ، أصعد مغارتها . حتى بقيت أحدق بهيكلها الذي يشبه صورنا . أتيه في أوراقها ، ثمارها . أجري نحوها ، أقفز كما لم أقفز من قبل ، أنطلق تجاهها ، أجتاز الضباب المتلفع حكايتنا . أدندن بأنغام شبقة ، أهاجر و هناك أنتهي كما الجميع . أغرق في دوامة الموت القديم ، حيث الحفل الذي ما زال ينتظرني منذ مساء ولادتي الثانية في ردهات الأرض الحبيبة .

            

* عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين و عضو نادي القصة القصيرة في وزارة الثقافة الفلسطينية